د.محمد فراج يكتب : محاولة اغتيال بوتين.. تصعيد خطير للمواجهة بين روسيا والغرب
الهجوم على مقر إقامة الرئيس الروسى فى الكرملين، ومحاولة اغتيال بوتين، تصعيد بالغ الخطورة للمواجهة الغربية مع روسيا.. موسكو أعلنت عن الهجوم قبل ساعة من كتابة هذه السطور (مساء الأربعاء ٣ مايو ٢٠٢٣) في بيان رسمى ذكر أن الهجوم تم بطائرتين مسيرتين أسقطتهما وسائل الدفاع الجوى فوق الكرملين، ونشرت فيديو وصورا أظهرت تصاعد أعمدة الدخان من أرض مقر الحكم العتيد فى قلب موسكو واتهمت السلطات الروسية أوكرانيا بشن هذا الهجوم الإرهابى بهدف اغتيال الرئيس بوتين، الذى لم يصب بأذى لأنه كان فى مقر رئاسى آخر في ضواحى موسكو.
وبغض النظر عن فشل محاولة الاغتيال فإن خطورتها البالغة تظل قائمة، حيث تمثل استهدافا لمقر الحكم فى دولة عظمى، ولحياة رئيس هذه الدولة.
وإذا وضعنا فى اعتبارنا المسافة الكبيرة بين الحدود الأوكرانية والعاصمة الروسية (١٥٠٠كم/ ألفا وخمسمائة كيلومتر) وكثافة وسائل الدفاع الجوي الروسية في منطقة الحدود وحول موسكو والكرملين، فإن
وصول طائرتين مسيرتين إلى قلب العاصمة الروسية عبر هذه المسافة الضخمة، غير ممكن بدون توجيه دقيق من شبكة من الأقمار الصناعية المعادية تغطى الأراضى الروسية، وتكشف الثغرات فى منظومة الدفاع الجوى بما يتيح اختراقها، حسبما أكد الخبراء
العسكريون الذين استضافتهم وسائل الإعلام الروسية للتعليق على النبأ (قناة RT الروسية، وموقعها الإلكترونى، مساء الأربعاء ٣ /٥) وهو ما جعل هؤلاء الخبراء يقولون إن شن مثل هذا الهجوم مستحيل بدون مساعدة الأقمار الصناعية الأمريكية وربما البريطانية.
شيطنة بوتين!
ما يجعل هذا الاستنتاج مرجحا هو الهجوم الشخصى العنيف والمستمر على الرئيس الروسى من جانب كبار المسئولين الأمريكيين والبريطانيين وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكى بايدن الذى وصف بوتين أكثر من مرة بأنه مجرم حرب وحديث كبار المسئولين الأمريكيين والبريطانيين عن بوتين بطريقة غير مألوفة إطلاقا في وصف رؤساء دول كبرى «بالإجرام» والشر وشتى أشكال شيطنة ؟؟؟؟ في تجاهل تام للأسباب الموضوعية التي أدت لاشتعال المواجهة بين روسيا والغرب، وفى مقدمتها الإصرار على توسيع حلف الناتو باتجاه الشرق، وتهديد الأمن القومى الروسى.
كما كان صدور قرار عن المحكمة الجنائية الدولية باعتقال بوتين!! مؤخرا خطوة أخرى فى اتجاه شيطنة الرئيس الروسى وتأجيج العداء الشخصى له فى الغرب، علمًا بأن روسيا غير مشاركة فى المحكمة، وبالتالى فإنها خارج ولايتها، ولا يحق لهذه المحكمة توجيه الاتهامات للمسئولين الروس أصلا فضلا عن طلب اعتقالهم!
مغزى التوقيت
ومن ناحية توقيت الهجوم تبرز أيضا حقيقة أن الحديث المستمر عن الهجوم المضاد الأوكرانى من أجل إلحاق الهزيمة بروسيا، وإجبارها على الانسحاب من الأراضى الأوكرانية التى احتلتها منذ بدء الحرب الجارية (فى ٢٤ فبراير ٢٠٢٢) هو حديث يتضح عدم جديته كل يوم بناء على تصريحات عسكريين غربيين كثيرين، بسبب الخسائر البشرية والمادية الفادحة في صفوف القوات الأوكرانية، ونقص الذخيرة والمعدات لدى هذه القوات، وهى معلومات أكدتها الوثائق السرية الأمريكية التى تسربت مؤخرًا وأثارت ضجة كبيرة فى الإعلام العالمى، وبالرغم من الإمدادات العسكرية الغربية الضخمة التى أدت إلى إفراغ مخزونات جيوش الناتو، بينما تتأكد حقيقة هزيمة القوات الأوكرانية المدعومة بالمرتزقة الغربية فى مدينة «أرتيدموتسك/باخموت»، وصحيح أن الدعم الغربى الهائل للقوات الأوكرانية يجعل الروس يدفعون ثمنا فادحا للسيطرة على هذه المدينة الاستراتيجية، لكنهم يتقدمون، بينما تدفع القوات الأوكرانية المدعومة غربيا خسائر أفدح بكثير، وتوشك على التخلى عن المدينة.. كما يتراجع الحديث عن «هجوم الربيع» المضاد.
ومن ناحية ثالثة فإن نجاح محاولة الاغتيال كان من شأنه أن يفشل مسبقا العرض العسكرى الذى تعد روسيا لإجرائه خلال أيام بمناسبة عيد النصر على الفاشية الألمانية (٩ مايو) وتعتزم أن تجعل منه مناسبة لاستعراض القوة الروسية فى مواجهة الغرب.
خسائر استراتيجية
أما من الناحية الاستراتيجية فإنه بعد مرور أكثر من عام على الحرب فى أوكرانيا فقد أثبتت روسيا قدرتها على إيقاف توسع الناتو شرقا، وتحدى سياسة القطبية الأحادية الأمريكية والغربية، ومحاولات عزل موسكو علي المستوى العالمى، وتدمير اقتصادها.. وبالعكس فقد دفعت القارة الأوروبية ثمنا فادحا لعقوباتها علي روسيا، واتضح أن النتائج العكسية للعقوبات فادحة بالنسبة للاتحاد الأوروبى، بينما أثبت الاقتصاد الروسى قدرته على الصمود، ودعم المجهود الحربى لقوات بلاده، وتم ذلك كله بقيادة فلاديمير بوتين، الذى يتمتع بتأييد وثقة أكثر من ثلاثة أرباع شعبه، حسب استطلاعات الرأى المتعددة، بينما تتراجع شعبية الزعماء الغربيين، وتملأ مظاهرات الاحتجاج شوارع بلادهم.
العدو رقم واحد
والحقيقة أن الـدور الـذى قام به فلاديمير بوتين في تاريخ بلاده، منذ أن تولى السلطة فى بداية عام، ٢٠٠٠ وفي استعادة قوة روسيا، وإعادة تنظيم اقتصادها وبناء جيشها، ثم في تحدى الهيمنة الأحادية الأمريكية والغربية طوال سنوات حكمه، وصولا إلى الحرب فى أوكرانيا، كلها اعتبارات تجعله مكروهًا فى العواصم الغربية الكبرى كراهية التحريم، ورمزا لصعود روسيا وتراجع الهيمنة الأمريكية والغربية وتجعل إزاحته عن المسرح السياسى العالمي حلما يراود السياسيين الغربيين وخاصة الأمريكان والبريطانيين والألمان ليلا ونهارا.
<<<
لكن الحقيقة التى لا يريد أن يفهمها هـؤلاء الساسة وخبراؤهم وإعلاميوهم هى أن بوتين قد لعب دورا تاريخيا فى إعادة بناء بلاده واستعادة قوتها، لكنه لم يكن وحـده وإنما كان - ولايــزال – محاطا بنخبة منسجمة من رجال الدولة الروس الوطنيين، من العسكريين ورجال الصناعة العسكرية والمدنية، والدبلوماسيين والعلماء والمثقفين والخبراء فى شتى المجالات.. وصحيح أن بوتين قام - ولايزال يقوم - بدور تاريخى فريد فى قيادة بلاده، لكنه لم يكن ليستطيع أن يحقق كل ما حققه من إنجازات بدون هذه النخبة المنسجمة المتماسكة، وبدون دعم وتضحيات الشعب الروسى ذى التاريخ والحضارة العريقين، وأكبر شعوب القارة الأوروبية « ١٤٥مليون نسمة».. ذلك الشعب الذى لعب الدور الأكبر في هزيمة ألمانيا النازية، حينما تهاوت أمامها دول أوروبا فى الحرب العالمية الثانية، وهو شعب لابد أن تؤخذ مصالحه الاستراتيجية والأمنية بعين الاعتبار عند رسم خرائط السياسة الأمنية فى أوروبا والعالم.
وباختصار فإن المسألة ليست مسألة إزاحة أو بقاء بوتين برغم الأهمية التاريخية الفريدة للرجل وإنما مسألة روسيا وشعبها، والحقائق الكبرى للجغرافيا والتاريخ.
وبالرغم من كل شىء فإن محاولة اغتيال بوتين تظل عملا إرهابيا غير مسئول إطلاقا، ولو أنها كانت قد نجحت لكان الرد الروسى مما يصعب التنبؤ بحدوده، لكن هذا الرد سيظل قويا وواسع النطاق بالرغم من فشل العملية، كما صرح المسئولون الروس والأيام القادمة ستوضح ذلك.. وسنتابع التفاصيل عن كثب.