د.محمد فراج يكتب : العروبة أقوى من أعدائها.. والخليج عربى والعراق أيضًا
أزمة سياسية حادة اندلعت فجأة فى أجواء العلاقات العراقية ـ الإيرانية. الغضب فى طهران وصل إلى حد استدعاء السفير العراقي إلى وزارة الخارجية وتسليمه مذكرة احتجاج شديدة اللهجة، مع المطالبة باعتذار من جانب بغداد.. ووزير الخارجية الإيرانى أسير عبداللاهيان أصدر تصريحات غاضبة مطالبا هو الآخر باعتذار عراقى.. وشهد البرلمان الإيرانى مناقشات غاضبة أدانت الموقف العراقى، وطالبت بتصحيحه والاعتذار عنه!!
ولكن.. ما هو الموقف العراقى الذي أثار كل هذا الغضب في إيران؟
المسألة أن رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى يتحدث في افتتاح دورة «خليجى - ٢٥» في البصرة يوم الجمعة ٦ يناير الجارى والتى تستمر مبارياتها حتى الآن وسط تشجيع جماهيرى عراقي وخليجى حاشد، وترحيب حار من جانب الجمهور العراقى والمسئولين. رئيس الوزراء العراقى رحب في كلمته بفرق كرة القدم والمشجعين من «دول الخليج العربى» وأشاد بالتقارب المتزايد بين بغداد وبينها.
وصف رئيس الحكومة العراقية للخليج بأنه «عربى» أثار ثائرة السلطات ونواب البرلمان في طهران، فسارعوا بإصدار بيانات حادة اللهجة تعتبر هذا الوصف «تزييفا للتاريخ والجغرافيا» من جانب أكبر مسئول عراقى، وتطالب باعتذار رسمى!! مؤكدة أن الاسم الصحيح للخليج هو «الخليج الفارسى»!! وأن هذا الاسم هو من ثوابت التاريخ والجغرافيا والخرائط الدولية.. إلخ إلخ.
غير أن رئيس الحكومة العراقية تجاهل الغضب الإيرانى تمامًا، ولم يعلق عليه بكلمة واحدة.. الأكثر من ذلك أن الزعيم الشيعى المعارض «مقتدى الصدر» زعيم التيار الشيعى المعتدل المعارض باسم «التيار الصدرى» انضم إلى السودانى فى استخدام تعبير «الخليج العربى» و«بلدان الخليج العربى».. إلخ غير مبال بغضب الحكومة والبرلمان والإعلام في إيران.
دلالات سياسية هامة
والحقيقة أن المسألة أكبر بكثير من مجرد مصطلح جغرافي، فوصف الخليج بأنه «عربى» أو «فارسى» يحمل دلالات سياسية وتاريخية هامة، وتسمية «الخليج» نفسها لم تكن تطلق على هذا المسطح المائى فى العصور القديمة والوسطى، بل كان يطلق عليه اسم «بحر البصرة» أو «بحر العراق» حتى جاء الاحتلال البريطانى للمنطقة في القرن الثامن عشر الميلادى فأطلق عليه تسمية «الخليج الفارسى» نسبة لدولة فارس الموجودة علي ساحله الشرقى، بالرغم من أن الجزء الأكبر من سواحل الخليج كانت تسكنه قبائل عربية «الساحل الغربى من البصرة والكويت شمالا حتى ساحل عمان»، بل وجزء كبير من الساحل الشرقى المعروف باسم «عربستان» أو أرض العرب، والذى أطلق عليه الإيرانيون فيما بعد اسم «خوزستان».
وظل الأمر كذلك حتى ظهر المد القومى العربى في النصف الثانى من القرن العشرين، وكانت الدول العربية قد بدأت تظهر تباعا على الساحل الشرقى للخليج بدءا من العراق والسعودية في العقود الأولى من القرن، ثم الكويت والبحرين وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة.. وبدأت تظهر وتنتشر تسمية «الخليج العربى» الأكثر تعبيرًا عن الواقع السياسى الجديد، وعن شعور شعوب دول الخليج بانتمائها القومى العربى وتدريجيًا أصبحت تسمية «الخليج العربى» سائدة في الخطاب السياسى والإعلامى العربى.
وبديهى أن هذا لم يكن يروق لطهران سواء فى عهد الشاه أو بعد الإطاحة به وتأسيس الجمهورية الإسلامية، حيث تتمسك طهران بتسمية «الخليج الفارسى» الموروثة عن الاحتلال البريطانى والموجودة فى الخرائط الدولية، والتى تنسجم مع طموحات إيران للهيمنة علي منطقة الخليج العربى.
العراق.. بين العروبة والنفوذ الأجنبى
معروف أنه بعد الغزو الأمريكى للعراق (٢٠٠٣) تم حل الجيش العراقى وتفكيك مؤسسات الدولة، وإطلاق حملة شرسة لملاحقة كل من يشتبه فى انتمائه أو ولائه لنظام صدام حسين، وفتح الباب على مصراعيه لسيطرة الطائفية والنزعات التقسيمية. وخلق هذا فراغا أمنيا وسياسيا هائلا أتاح لإيران الفرصة لتحقيق نفوذ سياسى هائل فى العراق من خلال الأحزاب والميليشيات الطائفية المتطرفة التى أصبحت تسيطر على الحكم في البلاد.
ومن ناحية أخرى فإن الدستور الجديد الذى وضعته الإدارة الأمريكية «دستور برايمر» قد أزال عن العراق صفته العربية، وحدد هويته «الرسمية» بأنه «دولة عضو فى جامعة الدول العربية» وليس «دولة عربية»!! ولسنوات طويلة عملت قوات الاحتلال الأمريكى من جهة والأحزاب والميليشيات الطائفية الموالية لإيران من جهة أخرى على عزل العراق عن محيطه العربي، كما عملت الأحزاب الكردية وخاصة «الحزب الديمقراطى الكردستانى» على تمييع أو نفى الهوية العربية للدولة، ثم جاءت «داعش» عام ٢٠١٤ لتستولى على ثلث أراضى البلاد، وتوقعها فى حالة من الفوضى الأمنية لعدة سنوات.
نقطة تحول
وكرد فعل على كل هذه الأوضاع جاءت انتفاضة أكتوبر ٢٠١٩ التى شاركت فيها جماهير شيعية وسنية حاشدة، لتمثل نقطة تحول بالغة الأهمية، ليس فقط فى مواجهة الطائفية والفساد والاستبداد والفوضى الأمنية، بل وأيضًا فى مواجهة الاحتلال الأمريكى والتغلغل الإيرانى على السواء، ومن أجل استعادة الشعب العراقى لهوية، وإقامة علاقات متوازنة مع محيطه العربى.
وكانت انتفاضة (أكتوبر ٢٠١٩) بقيادة التيار الصدرى المعروف بتوجهاته الشيعية المعتدلة، وبنزعته العروبية، وبوجود مرجعيات دينية شيعية عربية على رأسها «مدرسة النجف» ترفض التوجهات الطائفية المتطرفة للمراجع الدينية الإيرانية «مدرسة قم»، كما ترفض مبدأ «ولاية الفقيه» الخمينى الذى يقضى بسيطرة رجال الدين علي السلطة السياسية وإقامة دولة دينية.
نحو استعادة العراق لعروبته
وأسفر الحراك السياسي الذى أطلقته الانتفاضة عن مجىء حكومة مصطفى الكاظمى إلى السلطة «يونيو ٢٠٢٠» وهى الحكومة التى عملت على إقامة علاقات متوازنة بين العراق ومحيطه الإقليمى العربى، وخاصة مع مصر والأردن والسعودية والإمارات وبقية دول الخليج العربى، وعلى وضع حد للحالة المزرية التي رفع العراق تحت وطأتها طويلا كساحة للصراع الأمريكى - الإيرانى على النفوذ.
وكان فوز «التيار الصدرى» بالأكثرية فى الانتخابات البرلمانية «أكتوبر ٢٠٢١» دليلا على أصالة توجهات «ثورة أكتوبر ٢٠١٩» بين صفوف الجماهير العراقية، ولا يتسع المقام هنا للحديث عن الملابسات التى حالت دون تشكيل التيار الصدرى للحكومة العراقية، ومجىء حكومة محمد شيَّاع السودانى للسلطة بعد صراع سياسى محتدم استمر لأكثر من عام بين التيار الصدرى وحلفائه من جهة، و«الإطار التنسيقى» الذى ينتمى إليه السودان من جهة أخرى.
لكن من الواضح أن السودان لم يكن بوسعه تجاهل المزايا الاقتصادية والسياسية الكبيرة التي تحققت للعراق نتيجة لسياسة التقارب مع الدول العربية التى انتهجتها حكومة الكاظمى، كما لم يكن يمكنه أن يتجاهل التوجهات الواضحة للشارع العراقى «نحو استعادة العراق لعلاقاته وهويته العربية»، لهذا اتجه السودانى «بواقعية سياسية ملحوظة» لتبني سياسة حريصة على مواصلة التقارب مع الدول العربية، وخاصة دول الخليج، مستفيدًا فى ذلك من صلاحياته الواسعة كأكبر مسئول في البلاد، وبغض النظر عن توجهات التحالف الطائفى الشيعى الذى تستند إليه حكومته، وبغض النظر عن الغضب الإيرانى.
وفي هذا السياق تجىء إشارة السودانى بالتطور الذى حققته علاقات العراق مع الدول العربية.. ويجىء حديثه عن «الخليج العربى» وتجاهله لغضب إيران وحلفائها فى الداخل العراقى. فهذه ليست «زلة لسان» وإنما توجه من شأنه تحقيق شعبية له ولحكومته، وهى شعبية تمثل حماية له من محاولات الانتقام التى يمكن أن يتعرض لها من جانب إيران وحلفائها بإثارة المتاعب له فى البرلمان أو حتى بإسقاط الحكومة.
ومن جهة أخرى فإن مثل هذا التوجه من شأنه أن يخفف كثيرًا من حدة عداء التيار الصدر للسودانى، بل وأن يفتح نافذة للحوار مع «التيار» وزعيمه «مقتدى الصدر» الذى يدافع باستمرار عن دعم العلاقات مع الدول العربية، والذى أكد بدوره علي عروبة الخليج.. ويدفعنا ذلك للقول بأن موقف رئيس الحكومة العراقية هو خطوة سياسية ذكية موجهة نحو الداخل العراقى ودول الجوار العربى علي السواء.
ولا شك أيضًا أن السودانى قد أخذ بعين الاعتبار ذلك الحماس الجارف الذى شمل الجماهير العربية أثناء «مونديال قطر» مع كل انتصار لفريق عربى على فريق أجنبى، وخاصة فريق المغرب، وهو الحماس الذي يؤكد أن «العروبة» توجه حى وقوى فى وجدان الجماهير العربية، بالرغم من كل ما شهدته المنطقة وتشهده من تقلبات.
وخلاصة القول إن موقف رئيس الوزراء العراقي والزعيم الشيعي العروبى مقتدي الصدر، هو موقف ذكى، يبعث على الأمل في استمرار مسيرة العراق نحو مزيد من التقارب مع أشقائه العرب ويظل الخليج عربيًا.. والعراق بالطبع.