عبد العظيم حماد يكتب: الفلاح الذكي وحكومته وحكمته «عيد الفلاح»
كان علي رمضان الدسوقي (حماد) شابا شديد الذكاء والطموح ولكن ظروف نشأته عاندت ذكاءه وطموحه فقد توفي جده المباشر قبل جده الأكبر ولم يكن قانون الوصية الواجبة قد صدر فحرم الجد المباشر ومن ثم الأب من الميراث ، ويبدو أن الأب الذي لم أدركه (رمضان الدسوقي حماد كان هو الآخر شديد الذكاء والطموح ) فاستطاع بفدان واحد ورثه من أمه مع أخيه الأصغر أن يحقق نجاحا اقتصاديا أعجب به الأقارب وأعيان البلد وناظر الوقف فمنحوه مساحات أخري من الأطيان بالإيجار فازدهرت أحواله واشتري بعض هذه الأطيان المؤجرة وابتني دارا جديدة رحبة امام دارنا ، وكاد أن يرتقي الي مصاف الأعيان ولكنه للأسف توفي شابا بعد مرض قاسي قصير وترك (علي في العاشرة من عمره وثلاث بنات )
خوفا من الأم علي وحيدها اليتيم لم تتركه يكمل تعليمه خارج القرية ، ولكنه استمر صديقا محببا بل نديما بسبب خفة ظله وسرعة بديهته وتهذيبه الفطري لكل شبان المدارس و الأزهر من أبناء الحتة الذين كانوا في سنه ، ولم تستهوه قط العادات أو الهوايات الماجنة أو الضارة فلم يدخن طول حياته فضلا عن أن ينخرط في سهرات الكيف أو في مغامرات شباب الريف الأخري إنما استهوته سهرات الموالد والأعراس بفنونها
ومنه عرفنا نحن الصغار مسلسلات وسهرات الاذاعة وأفلام السينما الشهيرة ومسرحيات روض الفرج فضلا عن الأغاني والمغنين بما أن كبار عائلاتنا لم يكونوا يتحدثون أمامنا عن هذه الأشياء وبلغ من ذكائه وشغفه بالأغاني والمسلسلات والفنون عموما (وهو الذي لا يملك ثمن راديو البطارية السائلة قبل ظهور الترانزستور )أن صنع بنفسه ولنفسه جهاز استقبال بالسماعات كان يسمح لنا أحيانا بوضعه علي أذنينا
في منصف الستينيات وكان قد تزوج وأنجب جاءته الفرصة ليحقق بعض طموحه الحضاري فعمل ملاحظ خطوط في السكة الحديد في المنطقة مابين امبابة وأبو النمرس وبعد عدة سنوات اكتشف أن العائد غير كاف لتلبية تلك الطموحات ولا لتعليم أولاده ، كما أنه يستهلك كل وقته تقريبا فقرر العودة الي البلد والتركيز في النشاط الزراعي الذي حقق فيه نجاحا كبيرا. فكان من أوائل الذين أدخلوا زراعة الخس وأعادوا زراعة قصب السكر في القرية مع كل أنواع الخضر في مساحات صغيرة لكنها تدر دخلا أفضل من القمح والقطن وغيرهما من المحاصيل التقليدية
مضي عامان أوأقل علي عودته وكنت قد دخلت الجامعة لأفاجأ به يوما يأتيني متخفيا ويطلب مني مقابلة مندوب من الحكومة يسأل عنه في دوار العمدة لأنه يخشي أن يكون هذا المندوب من مباحث السكة الحديد ومع أنه لم يرتكب أية مخالفة فلربما كانت هناك مصيبة فعلها غيره ويريدون القاء التبعة عليه وأضاف أنه سيختفي في المكان الفلاني ولن يظهر الا بعد أن أرسل له
المضحك أن المندوب كان من هيئة التأمينات الاجتماعية ويحمل لعلي شيكا بمستحقاته التأمينية اذ أنه ترك العمل قبل أن يكمل المدة الكافية لاستحقاق المعاش ولكنه يستحق ما دفعه من تامينات مضافا اليها حصة الحكومة ومكافاة نهاية خدمة.
رغم طرافة الموقف فقد صَمَتُ برهة لأفكر في نظرة الفلاح المصري لحكومته وتساءلت لماذا يفترض فيها الشر والأذي مقدما ؟ ليس فقط بسبب ما فعله علي رمضان الدسوقي حماد ولكن أيضا بسبب تصرف عامل التليفون الذي ارسل الي علي يحذره من وراء ظهر مندوب الحكومة الذي يسأل عنه
أما الآن فإني أتساءل هل تغيرت هذه النظرة رغم مرور أكثر من مائة سنة علي قول سعد زغلول إن الأوان قد آن لتتغير نظرة المواطن الي السلطة من نظرة الطائر الي الصياد الي نظرة المواطن لحارسه الأمين ؟ وهل بقي لدينا في الادارة الحكومية من يجتهد لاعادة حق لصاحبه الغافل عنه دون أن يساومه علي جزء منه إن لم يستول عليه كله بتستخف الأوراق ؟
لا أستطيع ان أختتم حكاية علي رمضان الدسوقي رحمه الله دون أن أتذكر أنه جمعنا ونحن أطفال لنأكل معه ومع عروسه إفطار الصباحية وأنه في عام ١٩٦٢ وكنت في السنة الاولي الإعدادية عاد الي القرية ليلا من منوف ليأتي بمرتبة ولحاف وملابس وأدوات مائدة من أجلي عندما فاجأنا الطبيب الجراح بضرورة استئصال زائدتي الدودية فورا قبل أن تنفجر في وقت كانت جميع اسرة العيادة مشغولة ولم يكن ممكنا تجهيز أو اخلاء غرفة العمليات في المستشفي العام بالسرعة المطلوبة لذا وامتنانا لهذا الصنيع وغيره. ومحبة لشخصية علي واعجابا به كنت بيني وبين نفسي مصمما علي أن أفعل كل ما يمكنني للاحتفاظ بمحبته وليس فقط لرد جمائله
كما لا أستطيع ان أنهي هذه السطور دون التنويه الي أن علي علم كل أبنائه الأولاد والبنات. فكان منهم معلم وموجه اللغة الألمانية في القاهرة وكان ولازال منهم اعلامي وصحفي معروف .