د.محمد فراج يكتب : أزمة الطاقة تعيد أوروبا إلى عصر الفحم الحجرى (٥)
«التسعيرة الجبرية» الغربية للبترول الروسى.. محكوم عليها بالفشل
لا يكاد يمر أسبوع دون أن تتخذ الدول الغربية الكبرى قرارات بفرض عقوبات جديدة على روسيا، وخاصة فى مجال الطاقة بهدف تقليص موارد موسكو "والحد من قدرتها علي مواصلة الحرب في أوكرانيا" وصولا إلى تحقيق هدف استراتيجى معلن منذ البداية هو «شل» و«تدمير» الاقتصاد الروسى.. وبالرغم من أن تطورات الأحداث تثبت كل يوم أن تلك العقوبات تعود بالضرر على الاقتصاد العالمى إجمالاً، وعلى اقتصادات الدول الأوروبية خصوصاً، بالإضافة إلى دول العالم الثالث المستورِّدة للطاقة بالطبع، وتؤدى إلى تفاقم أزمة الطاقة بصورة كبيرة، أكثر بكثير مما تعود بالضرر على روسيا، فإن الدول الغربية الكبرى ــ وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا ــ تصر على مواصلة هذه السياسة.
آخر القرارات «الكبيرة» في هذا الصدد، كان قرار وزراء مالية الدول الصناعية السبع الكبرى G7 بفرض سقف لأسعار البترول الروسى يقل عن أسعار البترول العالمي، وهو ما يمكن وصفه بأنه «تسعيرة جبرية!!» للبترول الروسى، ودعوة دول العالم إلى تطبيق هذه «التسعيرة الجبرية» ومنع شركات النقل فى الدول السبع من نقل شحنات البترول الروسي إذا لم تكن خاضعة لهذا السقف المحدد، وكذلك منع شركات التأمين وإعادة التأمين التابعة لها من التعامل مع هذه الشحنات (DW - وبلومبرج - رويترز - ووكالات الأنباء والمواقع - ٢ سبتمبر ٢٠٢٢)، ولم تحدد مجموعة الدول السبع الكبرى هذه «التسعيرة» بعد.. بل ذكرت أن تحديدها سيخضع لدراسات فنية دقيقة يقوم بها الخبراء، على أساس الأسعار فى الأسواق العالمية، واعتبارات أخرى «نفس المصادر».
وأعلن الاتحاد الأوروبي بدوره أنه ينوى الأخذ بهذا المبدأ «سقف الأسعار» في التعامل مع البترول الروسي.. علمًا بأن الاتحاد سبق له اتخاذ قرار بحظر استيراد البترول الروسى بدءا من ٥ ديسمبر القادم، مع تقليل استيراده تدريجيًا حتى ذلك التاريخ.. وذلك باستثناء المجر التى أعلنت صراحة أنها لن تلتزم بقرار الحظر، لأنها دولة داخلية ــ ليس لها شواطئ علي البحار ــ وهي تستورد البترول الروسى عبر خط أنابيب «دروجبا/ الصداقة» وتستفيد منه أيضًا دولتا التشيك وسلوفاكيا، وهما بدورهما دولتان داخليتان.
ومعروف أن نقل البترول إلى هذه الدول الداخلية يقتضى إما إقامة خطوط أنابيب جديدة تصل بينها وبين موانئ دول صديقة مُطلة على البحار.. وهذه عملية تحتاج إلى استثمارات كبيرة وإلى وقت طويل لبناء هذه الخطوط، وهو ما يستحيل بالطبع تحقيقه حتى ديسمبر القادم، بل ربما يحتاج إلى سنوات!! وإما أن يتم نقل البترول من خلال سيارات الصهريج، الأمر الذى يحتاج لتشكيل أسطول هائل من هذه الناقلات مرتفعة الثمن، والتي تحتاج بدورها لاستهلاك كميات كبيرة من البنزين أو السولار.. ولا يمكن فى النهاية أن تفى باحتياجات دول صناعية لتشغيل المصانع، فضلا عن تدفئة البيوت والمنشآت.. الخ.
ومعروف أيضًا أن أوكرانيا كانت قد عمدت للضغط على المجر بتعطيل خط «دروجبا» حيث رفضت تقاضى رسوم الترانزيت من شركة «جازبروم» الروسية بدعوى أن العقوبات الأوروبية لا تسمح بذلك! ولجأت المجر لممارسة ضغوط قوية من خلال الاتحاد الأوروبى، مما أجبر أوكرانيا على قبول تلقي رسوم الترانزيت ــ تدفع مقدمًا ــ من المجر نفسها، وإعادة تشغيل خط «دروجبا» لنقل البترول، علمًا بأن كييف كانت قد أوقفت نقل الغاز عبر خط يمر بمناطقها الجنوبية والوسطى إلى المجر والتشيك وسلوفاكيا (في شهر مايو) وهو ما دفع المجر لطلب ضخ ما يعادل (مليارين ونصف المليار م٣) عبر خط السيل الجنوبى المار تحت البحر الأسود، والذى تستورد تركيا الغاز الروسى من خلاله (طاقة الخط ٣١ مليار م٣ سنويا/ نصفها تأخذه تركيا والنصف الآخر يذهب إلى دول البلقان ووسط أوروبا).
ويجب أن نلاحظ أن أحدًا من المسئولين الأوروبيين والأمريكان لم ينطق بكلمة واحدة في انتقاد - أو حتى مناقشة - القرار الأوكرانى بقطع خط الغاز الجنوبى المذكور، أو بقطع ضخ البترول عبر خط «دروجبا» برغم التأثيرات السلبية للقرارين على إمدادات الغاز الروسية لأوروبا.. باستثناء رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الذى انعكس القراران مباشرة على بلاده، وأيضًا على التشيك وسلوفاكيا والنمسا التى لاذ مسئولوها جميعًا بالصمت!
التسعيرة الجبرية.. وتعقيد الأزمة
ولكن هل سينجح قرار الدول السبع الكبري ــ الذى سينضم إليه الاتحاد الأوروبى ــ في تحقيق الهدف منه.. أى في تقليص عائدات روسيا البترولية؟ نقول على الفور إن الإجابة المرجحة بقوة هى النفي، للأسباب التالية:
أولاً: أعلنت روسيا فور صدور القرار أنها لن تصدر بترولها إلى أى دولة تلتزم بهذا القرار.. وهى تستطيع أن تنفذ قرارها الذى أكد عليه الرئيس بوتين شخصيًا في خطاب مستفيض أمام «منتدى الشرق الاقتصادى» بمدينة فلاديفو ستوك في أقصى شرقى روسيا.. وأعلن بوتين أن مبدأ روسيا هو الالتزام بتعاقداتها، لكن أى دولة تلتزم بقرار السبعة الكبار والاتحاد الأوروبى ستكون قد أخلت أصلا بشروط التعاقد، ومعروف أن روسيا قد حققت مكاسب تزيد علي (١٥٠/ مائة وخمسين مليار دولار) خلال الشهور الستة التالية لبدء الحرب في أوكرانيا.. وأنه برغم تجميد الدول الغربية لثلاثمائة مليار دولار من الاحتياطيات الروسية لديها، فقد بقى لدى روسا أكثر من ثلاثمائة مليار دولار أخرى من الاحتياطيات.. كما تقدر وزارة الاقتصاد الروسية إجمالى العائدات المتوقعة لهذا العام (٢٠٢٢) بحوالى (٣٣٧.٥/ ثلاثمائة وسبعة وثلاثين مليار دولار ونصف المليار) بزيادة ٣٨٪ عن العائدات المحققة عام ٢٠٢١ والبالغة (٢٤٤.٢ مليار/ مائتان وأربعة وأربعين مليارا واثنين من عشرة).. «رويترز، وكالات ومواقع، ١٧ أغسطس ٢٠٢٢» أى أنها ليست فى وضع ضعيف يتيح للآخرين إملاء إرادتهم عليها.
ثانيا: إن روسيا تبيع بترولها للصين والهند أصلا بتخفيض يدور حول (ثلاثين دولاراً) للبرميل وهما مستهلكان رئيسيان لكل أنواع الطاقة، وليستا من الدول المستعدة للخضوع لقرارات الغرب، كما أن روسيا تبيع بترولها بتخفيض تختلف حدوده لدولة أخرى فى جنوب شرق آسيا (الاقتصادات الصاعدة) وفى أمريكا اللاتينية وافريقيا.
والحقيقة أن الواقع الدولي قد اختلف في الأعوام الأخرية بحيث أصبحت أمريكا والدول الغربية الكبرى أقل قدرة على إملاء إرادتها على الدول المتوسطة والصغيرة.
ثالثا: إن العرض والطلب هما المحددان الأساسيان للأسعار.. وهذا قانون أساسى من قوانين السوق، ومعروف أن هناك توازنا عاما بين العرض والطلب علي البترول في الأسواق الدولية (يدور حول مائة مليون برميل يوميا) وأن قدرة أكبر المنتجين على زيادة الإنتاج تظل محدودة، ويقدرها الخبراء بنحو ثلاثة ملايين برميل، وهذا هو ما سمعه الرئيس الأمريكى بوضوح في مؤتمر جدة، حينما جاء لممارسة الضغوط على دول الخليج لزيادة إنتاجها، بصورة تتيح الاستغناء عن النفط الروسى، ومن ناحية أخرى فإن دول (أوبك بلاس/+) ترفض إغراق الأسواق بما يؤدى لفقدان مكاسبها الكبيرة لأجل عيون أمريكا والدول الغربية الأخرى، لذلك رأينا أن الاجتماع الأخيرة لـ«أوبك +» لم يرفض زيادة الإنتاج فحسب، بل اتخذ قرارا بخفضه بمقدار (مائة ألف برميل/ يوميا)، «وكالات ومواقع - ٦ سبتمبر» وهو قرار رمزى إلى حد كبير من ناحية تأثيره على العرض فى الأسواق.. لكن أهميته تكمن فى إشارته إلى رفض الضغوط الغربية لزيادة الإنتاج دون مبررات اقتصادية موضوعية.. ونحن نسمع كل يوم إعلانات من الدول الخليجية وبقية أعضاء (أوبك+) حول التزامها بحصص الإنتاج.
رابعا: إذا كان الأمر كذلك فإن نقص المعروض النفطى في الأسواق بعدة ملايين برميل من الإنتاج الروسى بسبب العقوبات «روسيا والسعودية أكبر المصدرين للبترول في العالم» ستكون نتيجته المنطقية قفزة صاروخية للأسعار تزيد من الضغوط علي اقتصادات الدول الأوروبية ودول العالم الثالث غير المنتجة للبترول.. فمن يريد ذلك؟؟!!
خامسا: أما عن منع شركات التأمين وإعادة التأمين الغربية من التعامل على صفقات البترول الروسى، فهى مسألة يمكن التغلب عليها بدخول شركات تأمين صينية وهندية وغيرها فى هذا المجال، وليس لدى الدول الغربية الكبري وسيلة أخرى ذات أهمية لممارسة التأثير في أسواق البترول.. بل تشير الوقائع الموضوعية إلي أن أسواق الاتحاد الأوروبى ستواجه مشكلة جدية للغاية مع بدء حظر استيراد البترول الروسى (٥ ديسمبر) حيث يشمل الحظر «ثلاثة ملايين برميل» تمثل حوالى (ثلاثين بالمائة) من احتياجات الاتحاد الأوروبى.. علمًا بأن الدول الأوروبية تستورد منذ أشهر المشتقات البترولية من الهند.. وهى تعرف حق المعرفة أنها من منشأ روسي، وأن الهند تحقق مكاسب كبيرة من شراء البترول الروسى بالخصم، وإعادة تصديره لأوروبا، مستفيدة من طاقات التكرير الضخمة لدى العملاق الآسيوى الصاعد.
سادسا: وهنا أيضا يجب ملاحظة أن أسواق الطاقة بكل أنواعها حساسة للغاية لشتى أشكال التوترات والتدخلات السياسية، وهى تنعكس على السوق في صورة ارتفاعات فورية في الأسعار، تدفع ثمنها الاقتصادات المنهكة أصلا من أزمة الطاقة، ومن ناحية أخرى فإن الشتاء على الأبواب، والطلب على الطاقة سيزداد بصورة كبيرة من أجل التدفئة، مما يجعل الأسعار مرشحة للارتفاع أصلا، ويجعل الآثار السلبية لأى عبث في الأسواق أكبر وأخطر مما كان عليه الأمر خلال أشهر الصيف.
وللحديث بقية..