أسامة أيوب يكتب : إرهاصات ربيع أوروبى فى الشتاء القادم
مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية للشهر السابع على التوالى بتداعياتها الاقتصادية الجسيمة المتصاعدة على العالم بداية من الأزمة فى الحبوب والمواد الغذائية ومستلزمات الإنتاج ومن ركود وتضخم فى غالبية الدول وصولا إلى الأزمة الكبرى فى إمدادات الطاقة، ومع مُضى الرئيس الأمريكى بايدن قدمًا فى إطالة أمد الحرب إلى أجل غير معلوم حتى الآن والتى ورط فيها أوروبا، فإن الشعوب الأوروبية بدت وستظل أكثر المضارين وعلى نحو لن تتحمل معه التكاليف الباهظة جراء انجرار حكوماتها وراء أمريكا.
لقد بدأت معاناة الأوروبيين بالفعل مع فرض قيود شديدة على استهلاك الطاقة وخاصة الكهرباء مع الارتفاع الكبير في أسعارها، ومع قرارات إلزام المحال التجارية والفنادق ودور اللهو بإطفاء أنوار الواجهات، ومع تحديد درجة برودة أجهزة التكييف بـ٢٥ درجة، ومع تقليل استخدام الأجهزة الكهربائية المنزلية والإضاءة، فإن العد التنازلى لاشتداد الأزمة والمعاناة يكون قد بدأ بالفعل.
ولذا فإن الخطاب السياسى والإعلامى الرسمى للحكومات الأوروبية الموجه للشعوب يُركّز حاليًا على تهيئة الرأى العام لتقبل تداعيات أكبر للأزمة وإلى درجة المطالبة بتقليل مرات الاستحمام لتوفير استهلاك الكهرباء المستخدمة في أجهزة تدفئة المياه وحبذا لو تم استخدم المناشف المبللة بدلا من الاستحمام حسبما دعا المستشار الألمانى وهو ما دفع أحد الصحفيين إلى أن يسأله عن مرات استحمامه شخصيًا فأجاب ضاحكًا كل يوم، ثم استدرك فى لقاء صحفى آخر وقال مرة واحدة فى الأسبوع، وهى الإجابة التى لم يصدقها الألمان وعلى نحو ما جاء بسخرية شديدة في إحدى الصحف الألمانية بأن المستشار شولتس هو الوحيد فى ألمانيا الذى يستحم يوميًا!
< <<
فى سياق هذه التداعيات فإن الأزمة من شأنها إحداث تغيير جذري فى حياة الأوروبيين الذين اعتادوا عليها بقدر المعاناة في مواجهة الارتفاع الكبير في الأسعار خاصة أسعار الحبوب والسلع الغذائية والخدمات وعلى نحو يمثل خصمًا فادحًا ونسبيًا من حياة الوفرة والرفاهية فى حدها الأدنى مع اختلاف مستويات الدخول والأجور.
وفى سياق الخطاب السياسى للحكومات الأوروبية جاءت تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون التى حذّر فيها الشعب من أن ما وصفها بحياة الوفرة التى اعتاد عليها الفرنسيون سوف تختفى مع استمرار الأزمة في قادم الأيام.
<<<
إن التداعيات الاقتصادية لاستمرار الحرب الروسية ـ الأوكرانية ومن بينها الركود الاقتصادى والارتفاع الكبير فى معدلات التضخم.. سوف تمتد بل لقد امتدت بالفعل إلى الإنتاج الصناعى الذى سينخفض بمعدلات كبيرة بسبب نقص إمدادات الطاقة، ومن ثمَّ زيادة معدلات البطالة وانخفاض الأجور مقابل ارتفاع الأسعار، مع ملاحظة أن التوجه الذى بدأ بالفعل وسوف يتزايد فى العودة إلى استخدام الفحم بديلا للغاز والبترول سوف يصطدم بالضرورة وبكل أسف فى جهود تخفيض معدلات انبعاثات الكربون لمواجهة ظاهرة تغيُّر المناخ التى باتت تمثل تهديدا داهمًا ومحدقًا بالحياة فوق الكوكب.
<<<
إن الرئيس الأمريكى بايدن الذى ينتهج سياسة إطالة أمد الحرب بالدعم غير المحدود لأوكرانيا.. عسكريا وسياسيا واقتصاديا وماليا، فإنه فى واقع الأمر يخوض حربًا بالوكالة بهدف تركيع روسيا تحت مبرر مغلوط ومتهافت وهو حماية الأمن القومى الأمريكى والأوروبى من خطر روسى قادم أو محتمل، وهى سياسة تستهدف فى حقيقتها استمرار أمريكا قطبًا عالميًا وحيدا بعد أن بدا فى الأفق السياسى والاستراتيجى الدولى أن زمن القطب الواحد منذ بداية تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتى.. قد بدأت بالفعل إرهاصات أفوله خاصة مع تنامى وتمدد الصين وأيضا وبالضرورة روسيا.
ثمَّ إن اللافت والمثير أيضًا أن بايدن كان قد ركز خطابه خلال حملته الانتخابية الرئاسية قبل نحو عامين على أن سياسته الخارجية سوف ترتكز في المقام الأول على مواجهة التمدد الصينى، إلا أنه بدأ بمواجهة روسيا قبل الصين وإن كان قد بدأ فى التحرش بها ومناوشتها بالحديث عن دعم استقلال تايوان وهو الدعم الذى تمثل فى زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكى بيلوسى مؤخرًا إلى تايوان، وهو توجه يخالف التوافق الأممى والدولى على مبدأ الصين الواحدة وأن تايوان جزء من الأراضى الصينية.
< < <
الأخطر فى الاستراتيجية الأمريكية التى ينتهجها بايدن ضد روسيا هى أنها تستعيد أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية وعلى النحو الذى يمثل تهديدًا حقيقيًا للأمن والسلم الدوليين، ثم إن إطالة أمد الحرب فى غيبة أفق سياسى واضح لإيقافها عبر حلول سلمية قد تضع العالم على شفا حرب نووية إذا لم يتم حسم الصراع عسكريا أو سياسيا، وهى حرب لو نشبت ـ وإن كانت كل التوقعات تستبعد حدوثها ـ ستكون آثارها مدمرة وخطيرة لن يتحملها العالم ولا أوروبا ولا روسيا ولا حتى أمريكا ذاتها.
<<<
واقع الأمر..أن بايدن ومعه الحكومات الأوروبية يلعبون بالنار دون مبرر حقيقى لاستمرار الحرب بدعم أوكرانيا وتحريضها ودفعها دفعًا إلى عدم الانخراط فى مفاوضات مع روسيا لتسوية الخلافات وإنهاء الصراع سلميًا مع ملاحظة أن روسيا استشعرت أن أمريكا تهدّد أمنها القومى باقتراب حلف شمال الأطلسى «الناتو» من أراضيها عبر أوكرانيا وهو الاقتراب الخطير الذى امتد إلى ترشيح فنلندا والسويد للانضمام إلى الحلف.
ثمَّ إن روسيا التى خلفت الاتحاد السوفيتى الذى تفتت إلى دويلات انضوت تحت النفوذ الغربى الأمريكى لا تمثل خطرًا محتملا أو حقيقيا ضد الغرب خاصة الغرب الأوروبي، بل إنها حسبما كشفت تداعيات الحرب هى المورِّد الأكبر للطاقة إلى أوروبا، وأن الحرب والعقوبات الأمريكية والأوروبية هى التى أوقفت إمدادات الطاقة مما أسفر عن الأزمة الشديدة التى تواجهها دول أوروبا والتى بدت وكأنها تعاقب نفسها وشعوبها قبل أن تعاقب بوتين رغم الخسائر التى تعرضت وتتعرض لها روسيا جراء العقوبات والتى يستطيع الاقتصاد الروسى تجاوزها حسبما تبدى بالفعل حتى الآن.
<<<
خلاصة القول هى أن روسيا باستثناء المنافسة الاقتصادية وعلى النفوذ فى إقليمها الجغرافى ومجالها الحيوى مع أمريكا فإنها لا تمثل خطرا استراتيجيا عسكريا على الغرب مع ملاحظة أن الاتحاد السوفيتى السابق الذى خلفه روسيا كان شريكًا للحلفاء الأوروبيين وأمريكا فى الحرب العالمية ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، ومن ثمَّ فإن روسيا ومن هذا المنطلق تبقي داعمة لأوروبا ضد أى محاولة لعودة الفاشية والنازية، ولذا فإن انجرار أوروبا خلف أمريكا فى هذه الحرب بالوكالة ضد روسيا يعني أنها تحارب حربا ليس لها فيها ناقة ولا جمل، فى نفس الوقت الذى يبدو فيه مبرر أمريكا متهافتا للغاية وينطوى على حسابات خاطئة.. استراتيجيا بل تكتيكيا.
<<<
يبقي معلوما أن أخطر تداعيات الأزمة التى تواجهها أوروبا حاليا سوف تبدأ مع فصل الشتاء القادم مع معاناة شديدة الوطأة للشعوب هناك فيما يتعلق بخفض استهلاك الطاقة خاصة فيما يتعلق بالتدفئة فى الأجواء شديدة البرودة، حيث بدأ التفكير من الآن فى نقل كبار السن للإقامة طوال فصل الشتاء فى دول دافئة، وحيث بدأ التفكير فى توزيع ملابس ثقيلة جدا على تلاميذ وطلاب المدارس لارتدائها أثناء الدراسة لمواجهة نقص التدفئة داخل الفصول الدراسية وهى ملابس لا تستطيع أغلب الأسر الأوروبية تحمل تكلفتها الكبيرة فى ظل الأزمة، بل إن التوقعات تؤكد تزايد إقبال التلاميذ والطلاب على الوجبات المدرسية المجانية لتعويض النقص الغذائى لدى أسرهم.
<<<
ولأن الشعوب الأوروبية لن تجد أى مبرر حقيقى لتعرضها لهذه المعاناة الكبيرة التى تحدث تغييرا جذريا غير مسبوق فى مستوى المعيشة وفى مواجهة شتاء شديد البرودة مع نقص كبير فى التدفئة وهى معاناة تسببت فيها الحكومات بانخراطها خلف أمريكا فى الحرب ضد روسيا، فإن ثمة مؤشرات غضب واحتجاجات كبرى تبدّت بوادرها فى الأفق من الآن قد تفضى إلى ما يمكن وصفها ثورات ربيع أوروبي فى الشتاء القادم ضد الحكومات التى بدا واضحا أن تورطها فى الحرب نوع من الانتحار السياسى، فهل يمكن أن تندلع هذه الثورات؟.. سؤال سوف تأتى الإجابة عنه مع بداية فصل الشتاء.