أسامة أيوب يكتب : مشاهد المصافحات على هامش قمة جدة الأمريكية العربية
كيف ومتى تطورت تقاليد مصافحة الزعماء.. شرقًا وغربًا
بعد مرور أكثر من أسبوع على انعقاد قمة جدة بين قادة دول الخليج العربية ومصر والعراق والأردن والرئيس الأمريكى چو بايدن فى أول زيارة له للشرق الأوسط منذ وصوله للبيت الأبيض قبل عام ونصف العام، ولأن التغطية الصحفية والإعلامية المكثفة والتحليلات السياسية المتعددة والمتباينة التى استمرت طوال الأيام الماضية بعد اختتام القمة لم تدع مجالاً للمزيد، فقد وجدتنى أتطرق إلى مشاهد جرت علي هامشها يمكن أن يكون فى استعراضها جديد يُقال.
المشهد الأول كان عند وصول الرئيس بايدن إلى مطار الملك عبدالعزيز بمدينة جدة، حيث كان فى استقباله الأمير خالد بن فيصل أمير منطقة مكة وليس الأمير محمد بن سلمان ولى العهد، وهو الأمر الذى يعكس بروتوكوليًا غياب حفاوة الاستقبال لرئيس أكبر دولة فى العالم خاصة فى أول زيارة له للسعودية.
المشهد الثانى الأكثر إثارة للانتباه كان لحظة وصول بايدن إلى قصر السلام الملكى للقاء الملك سلمان بن عبدالعزيز وقد كان فى استقباله عند باب الدخول الأمير ابن سلمان، حيث تصافح الاثنان بقبضة اليد وبفتور واضح على غرار المصافحة فى ذروة «كورونا» وحيث بدا الأمر تعللا بالإجراءات الوقائية، غير أن هذه المصافحة لا تخفى دلالتها التى تعكس توتر العلاقات السعودية ـ الأمريكية منذ بل قبل وصول بايدن إلى البيت الأبيض، وهو التوتر الذي تزايدت حدته بعد الحرب الروسية ـ الأوكرانية عندما لم تستجب السعودية لمطالب بايدن المتكررة لزيادة إنتاجها من النفط بوصفها أكبر دولة فى منظمة أوبك لتعويض النقص الكبير فى إمدادات البترول على خلفية الحظر الذى فرضته واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون على موسكو فى إطار سلسلة من العقوبات!
بل لقد وصل الأمر إلى رفض الرياض تلقى أى اتصالات هاتفية من الرئيس الأمريكى ومن أى مسئول فى إدارته وإلى درجة أن قيل للأمريكيين أمامكم السفارة السعودية فى واشنطن لتقديم مطالبكم، وبذلك بدا الأمر عقابًا سعوديًا ومن جانب ولى العهد تحديدًا للرئيس بايدن ردًا على ما اعتبرته الرياض عنجهية أمريكية وتصريحات مسيئة، وهو الأمر الذى لم يكن متوقعًا فى ضوء تاريخ امتد لثمانين عامًا من العلاقات الوثيقة.
غير أن مشهد استقبال الملك سلمان للرئيس بايدن جاء مختلفًا تمامًا، إذ تصافح الملك السعودى والرئيس الأمريكى بالأيدى وعلى النحو الذى أوضح بقدر ما أكد أن الفتور فى مصافحة ابن سلمان وبايدن ليست التزامًا بإجراءات الوقاية من «كورونا» ولكنها تعكس فى حقيقة الأمر خصامًا سياسيًا بين الاثنين ولعله أشد من جانب ولى العهد السعودي.
المشهد الآخر الذى يؤكد أن المصافحة الفاترة بقبضة اليد كانت مقصودة هو أنها تكررت عند مصافحة الأمير محمد بن سلمان لأعضاء الوفد الأمريكى مثلما تكررت بنفس الطريقة فى مصافحة بايدن لمستقبليه من الأمراء والمسئولين السعوديين.
< < <
وفى المقابل وعلى العكس تمامًا من المصافحة بقبضة اليد جاءت مشاهد الاستقبال والحفاوة والحميمية المبالغ فيها والتي غاب فيها التعلل بإجراءات كورونا من جانب ولى العهد السعودى مع القادة العرب المشاركين فى القمة، إذ حفلت بالقبلات والعناق الحار الطويل، وحيث بدت المقارنة رسالة مقصودة للرئيس الأمريكى.
< <<
ولقد جاء مشهد التقاط الصورة التذكارية وفقًا للتقاليد الدبلوماسية البروتوكولية المتبعة فى مثل هذه المناسبات مشهدًا مثيرًا غريبًا غير مسبوق ومتعارضًا مع البروتوكول، إذ وقف الرئيس بايدن وعلى يمينه بعض القادة وعلى بُعد أكثر من متر وقف الأمير محمد بن سلمان وعلى يساره بعض القادة الآخرين، ومن ثمَّ فقد بدت الصورة صورتين بسبب الفراغ فى المشهد بين الفريقين، وحيث بدا أن ولى العهد تعمّد ترك هذه المساحة بينه وبين بايدن حتى لا يقفا متجاورين حسبما سجلت ذلك عدسات التصوير والتى شاهدها العالم على شاشات التليفزيونيات، وهذا المشهد لا تخفى دلالته التى تعنى أن حالة الفتور مستمرة رغم انعقاد القمة وأن العلاقات السعودية ـ الأمريكية لم تعدّ بعد إلى سابق عهدها وأن الأمر قد يستلزم وقتًا، خاصة أن بايدن غادر جدة دون أن يتلقى وعدًا صريحًا من ولى العهد السعودى بحجم الزيادة التي يطلبها من إنتاجها من النفط ولا حتى بأى زيادة!
< < <
وفى نفس الوقت فإن تلك المشاهد فى قمة جدة وما جرى فيها من مصافحات.. تفتح باب الحديث عن المصافحات وتبادل التحية بين الزعماء وقادة الدول وتطورها عبر العقود.. قديمًا وحديثًا.
بحسب ما هو متواتر فإن الزعماء.. سواء العرب أو الغربيون كانوا يتصافحون بالأيدى فقط عند لقائهم وأحيانًا لمزيد من إبداء الحميمية بالربت على الأكتاف، غير أنه وبحسب ما توثقه الصور فإن الرئيس جمال عبدالناصر ومع الزخم القومى العربى والمد الثورى هو أول من ابتدع العناق الحار والتقبيل فى استقباله أو لقائه مع الملوك والرؤساء العرب.
وسرعان ما تفشت وانتشرت هذه الطريقة فى الاستقبال والمصافحة بين الزعماء العرب، وحيث صار العناق الحار والتقبيل تقليدا بروتوكوليا عربيا خالصًا فى كل لقاءات القادة والزعماء العرب، وهذا التقليد تكرر أيضًا فى لقاءات الرئيس عبدالناصر مع قادة الاتحاد السوفيتى السابق.. بريجينيف وبودجورنى وكوسيجين.
وفى نفس الوقت فإن هذا التقليد انتقل من عبدالناصر إلى الشعوب العربية بوجه عام وإلى المصريين بوجه خاص، وحيث تحوَّل إلى عادة مصرية راسخة فى اللقاءات بين الرجال حتى لو كان اللقاء يتكرر يوميًا، وهو مسلك لم يكن يعرفه المصريون وعلى هذا النحو الاعتيادى قبل عبدالناصر!
< <<
أما فى السودان فإن تبادل التحية يختلف كثيرًا، إذ تتسم المصافحة بين السودانيين بطريقة خاصة وفريدة شاهدتها بنفسى خلال زياراتى المتكررة للخرطوم فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، حيث تسبق المصافحة بالأيدى أن يتبادل المتصافحان وضع اليد اليمنى على الكتف اليسرى، ومن الطريف أنه نظرا للأوقات الكثيرة التى قضيتها فى السودان أنى وجدت نفسى ذات مرة وبتقليد عفوى أتبادل المصافحة مع المسئولين السودانيين بنفس الطريقة!
وأحسب أن هذه الطريقة السودانية فى المصافحة تعكس مسلكًا يٌشيع أجواء السلام بحسبانه يؤكد خلو الأيدى من السلاح لطمأنة المتصافحين، بل إن المصافحة كسلوك إنسانى تشير إلى هذا المعنى الذى توارثته البشرية على الأرض فى العصور الحديثة.
< <<
ومع أن العناق والتقبيل عند المصافحة بين الرجال والرجال والنساء والنساء في الغرب الأمريكى والأوروبى لم يكن معروفًا بل كان مسلكًا معيبا ومستهجنًا وفقا للثقافة الغربية، بينما كان من المعتاد بل من المستحسن أن يتبادل الرجال والنساء القبلات والعناق، وفى هذا السياق فقد تعرضت السيدة چيهان حرم الرئيس السادات عندما كانت برفقته فى إحدى الزيارات للولايات المتحدة إلى حرج شديد عندما فاجأها الرئيس چيمى كارتر بتقبيلها كنوع من الحفاوة وسيرًا على التقليد الأمريكى بحسب الثقافة الغربية.
< < <
غير أنه حدث تحوُّل مؤخرًا فى تلك التقاليد الغربية فى اللقاءات بين قادة الدول والمسئولين أو مع غيرهم من قادة الدول الأخرى، وحيث صار من المعتاد أن يتبادل الرجال العناق والتقبيل وكذلك النساء وحسبما شاهدنا فى القمة التى عقدها الرئيس الأمريكى بايدن مع قادة دول أمريكا اللاتينية قبل أشهر، حيث تبادل العناق والتقبيل مع بعض هؤلاء القادة بينما فعلت ذلك زوجته مع بعض زوجاتهم وعلى نحو يعكس حميمية خاصة مع هؤلاء البعض دون أى حرج.
< < <
لقد كان ما جرى فى قمة جدة من مصافحات ومشاهد مناسبة لاستعراض التطور التاريخى لتبادل التحية والمصافحة بين الزعماء وقادة الدول والشعوب أيضًا.. شرقًا وغربًا، وحيث تعكس لغة الجسد وطريقة المصافحة مدى التوتر أو الحميمية فى العلاقات، وحيث تبقى لها دلالتها غير الخافية.
< < <
وفى هذا السياق أجدنى أذكر ما سبق أن ذكرته فى مقال بمجلة أكتوبر بعد ثورة ٢٥ يناير عن المصافحة الفاترة بين الرئيس مبارك ومنصور حسن الذى كان ضمن وفد هيئة مكتب مجلس الشعب الذى توجه إلى منزل مبارك لإبلاغه بترشيح المجلس له لرئاسة الجمهورية فى أعقاب اغتيال الرئيس السادات، وحيث أدار كلاهما وجهه للآخر وهما يتصافحان فى مشهد درامى بالغ الدلالة عكس حالة العداء بينهما والتى بدأت عندما كان منصور حسن يشغل منصب وزير الرئاسة ووزير الثقافة واحتدم خلافه وقتها مع مبارك الذى كان نائبًا للرئيس السادات وهو الخلاف الذى تسبب فى خروج منصور حسن من المشهد السياسى بعد أن تسربت أنباء عن توجه السادات لتعيينه نائبا بدلا من مبارك.
وأذكر أن السيد منصور حسن اتصل بى هاتفيا بعد نشر المقال مبديًا دهشته من انتباهى لمشهد تلك المصافحة مع مبارك وأيضا من معرفتى بغيره مما ورد فى المقال عن خلفيات العداء بينهما.