د.محمد فراج : العقوبات ضد روسيا.. كارثة على الاقتصاد الأوروبى (٢/٢)
الخسائر الهائلة التى تسببت فيها العقوبات الغربية على موارد الطاقة الروسية مرشحة لمزيد من التفاقم مع قرب قدوم الشتاء، والعجز عن توفير بدائل للواردات الروسية.. ووصل الأمر إلى حد الحديث علناً عن تقنين استخدام الطاقة فى المنازل سواء في الشتاء "التدفئة" أو حتى في الاستحمام بالماء الساخن منذ الآن!!
ومع ذلك تواصل الولايات المتحدة الضغط على الدول الأوروبية من أجل الحظر التام لواردات الفحم الروسي بدءا من أغسطس القادم، وواردات البترول «٣٠٪ من الاحتياجات الأوروبية» بدءا من نهاية العام الجارى وواردات الغاز الطبيعى بنهاية عام ٢٠٢٤.. أى بعد أقل من عامين ونصف.. وهو ما يبدو مستحيلا، بل نوعا من الانتحار بسبب عدم كفاية البدائل.. والحاجة إلى استثمارات ضخمة فى التنقيب أو منشآت تسييل الغاز وبناء الناقلات.. وهو ما سبق أن شرحناه تفصيلا في مقالنا السابق «الأموال - ١٧/ ٧/ ٢٠٢٢».
ومؤخرا طرحت أمريكا فكرة جديدة تقضى بوضع سقف «تسعيرة إجبارية» للبترول الروسى بحيث لا يزيد سعر شرائه فى الأسواق الأوروبية عن نصف السعر العالمي للبترول!! الهدف واضح طبعًا.. وهو تقليل العائدات البترولية الروسية إلى النصف.. ولكن هذه «الفكرة» التى تتناقص بصورة صارخة مع قوانين السوق، هى فكرة غير قابلة للتطبيق، واتخاذ مثل هذا القرار يمكن أن يؤدى إلى كارثة جديدة لأوروبا.. لأن روسيا ستمتنع بكل بساطة عن توريد النفط.. والأسواق الأوروبية المتعطشة للطاقة هى التى ستعانى أكثر.. خاصة فى ظل عدم وجود إمدادات إضافية لدى الدول المنتجة، والتزامها بحصص الإنتاج فى إطار (أوبك +) وهو ما قالته دول الخليج بوضوح تام للرئيس الأمريكى أثناء زيارته للسعودية.
وإذا كانت الرغبة المحمومة فى «معاقبة روسيا» تسمح لبعض المسئولين الأمريكيين بطرح «اختراعات» من هذا النوع، فإن الأمر الغريب حقا هو أن تقرر المفوضية الأوروبية مناقشة هذه «الفكرة - الاختراع» التى يمكن أن تؤدى محاولة تطبيقها إلى كارثة جديدة لأوروبا.. ونعتقد أن الدول المضارة من النقص الفادح فى واردات الغاز لا يمكن أن توافق عليها في نهاية الأمر، وخاصة ألمانيا.. فضلا عن المجر والنمسا وسلوفاكيا.. علمًا بأن اتخاذ قرار بهذا الشأن يتطلب الإجماع.. وأيضًا مع العلم بأن قدرة أوروبا على الاستغناء عن البترول الروسى بحلول نهاية العام هى مسألة مشكوك فيها.. والقرار الخاص بهذا الشأن مرشح لأن يتم انتهاكه.
التبعية لأمريكا.. ونتائجها الكارثية
والحقيقة أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطا هائلة على أوروبا لاتخاذ قرارات غير مدروسة وغير واقعية تعود بأضرار ضخمة على الاقتصادات الأوروبية كلها، والكبرى منها بصورة أخص، كما شرحنا فى مقالات سابقة، آخرها الجزء الأول من هذا المقال (الأوال ١٧/ ٧/ ٢٠٢٢) ويشير هذا إلى مستوى مثير للدهشة من التبعية وانعدام الكفاءة لدى الزعماء والنخب السياسية الحاكمة فى أغلب دول الاتحاد الأوروبى، وإلى قابلية للابتزاز يصعب فهمها، سواء من جانب أمريكا أو من جانب الدول الأوروبية الشرقية الأكثر ارتباطا بواشنطن مثل بولندا ودول البلطيق، وأوكرانيا نفسها، والتى تذهب بعيدا فى الضغط على الدول الأوروبية الكبرى لاتخاذ قرارات تعود عليها بالضرر، بينما تظل أمريكا بمنأى عن هذه الأضرار.
وعلى سبيل المثال فقد اتخذت أوكرانيا ــ بإيعاز من أمريكا ــ قرارا بوقف ضخ الغاز الروسى عبر أحد خطين يمران بأراضيها وصولا لألمانيا ودول غربية أخرى.. وهو خط ينقل حوالى ٤٠٪ من الغاز الروسى المنقول عبر أوكرانيا، وأدى هذا لتوقف ضخ كمية من الغاز تبلغ نحو ٣٠ مليار م٣ هى طاقة الخط السنوية، أو ما يعادل حوالى ١٠٠ مليون م٣ يوميا، ومع ذلك فإن أحدًا فى أوروبا لم يراجع أوكرانيا بشأن حالة «القوة القاهرة» التي أعلنتها أو يحاول التحقق منها.
وحينما رفضت بولندا دفع ثمن الغاز الروسى بالروبل، أوقفت موسكو خط «يامال» الذى يمر ببولندا، مما حرم ألمانيا من نحو ثلثى الإمدادات عبر هذا الخط «طاقته ٣٠ مليار م٣» سنويا، أى قرابة ١٠٠ مليون م٣ يوميا.. ومع ذلك فإن ألمانيا التى وافقت شركاتها على الدفع بالروبل تزوِّد بولندا بجزء من احتياجاتها عبر هذا الخط نفسه.
وحينما انخفضت طاقة خط « السيل الشمالى -١» بنحو ٦٩٪ بسبب رفع توربين لضخ الغاز من إنتاج شركة سيمنز الألمانية عطلت كندا طويلا إعادة التوربين الذى كانت تجرى صيانته في مصنع لسيمنز فى كندا.. ولم تتحرك برلين لإعادة التوربين إلاّ حينما تفاقمت أزمة الإمدادات لديها بشدة، ثم أعلنت روسيا عن وقف الخط بالكامل لمدة عشرة أيام «للصيانة» وتوقفت الإمدادات تماما عبر «نورستريم-١» وطلبت برلين من أوتاوا بإلحاح إعادة التوربين الذى كانت تحتجزه بإيعاز من أمريكا، وبدعوى أن هذا يتم تنفيذا للعقوبات.
وحينما أعادت كندا التوربين مؤخرا فإن الرئيس الأوكرانى زيلينسكى وجه انتقادات حادة إلى كل من كندا وألمانيا، بدعوى انتهاك العقوبات ضد روسيا، وكأنه مطلوب من ألمانيا أن تقبل بتدمير اقتصادها إرضاءً لزيلينسكى الذى تعتمد بلاده على المساعدات الاقتصادية الأوروبية التي تتحمل برلين النصيب الأكبر منها.
الواقع أن الآثار العكسية للعقوبات الشاملة والمتصاعدة كل يوم وغير المدروسة أو الواقعية، وآثاره السلبية قد بدأت تثير الغضب لدى الجماهير الأوروبية، وكان بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطانى وأكثر المسئولين الأوروبيين حماسة لتشديد العقوبات هو أول ضحاياها، فالحقيقة أن ما أطاح بجونسون من منصبه ليس الفضائح الأخلاقية التى تفجرت حوله هو وحكومته، بقدر ما يرجع ذلك إلى الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة ضد حكومة جونسون منذ أواخر شهر يونيو الماضى، وفى مقدمتها إضراب عمال السكك الحديدية، وإضراب العاملين فى شركة «بريتيش تيليكوم» (الاتصالات البريطانية) اللذين أثارا فوضى شاملة فى بريطانيا وغيرهما من الإضرابات احتجاجا على الارتفاع الكبير لنسبة التضخم ٩.١٪ الذى أدى لتراجع كبير للدخول الحقيقية للعاملين، بما فى ذلك تضاعف أسعار الطاقة، وما له من تأثير مباشر على حياة الفئات الشعبية الواسعة.
وهكذا كان جونسون أول ضحايا الحرب الأوكرانية والآثار العكسية للعقوبات ضد روسيا، وبتعبير آخر يمكن القول إنه كان أول ضحايا بوتين، الذى أوسعه سباً ووصفه بأنه «مجرم حرب» وغير ذلك من الأوصاف القاسية!
ومثل هذه الإضرابات والتحركات الجماهيرية الواسعة التي شهدتها - وتشهدها - بريطانيا هى ما يخشى كثير من السياسيين والمراقبين أن يحدث فى عديد من البلدان الأوروبية التي تعانى اقتصاداتها من الآثار العكسية للعقوبات، وفى مقدمتها ألمانيا، أكبر الاقتصادات الأوروبية، التي بدأت المصانع فيها تتوقف نتيجة لنقص الطاقة، بما يعيق ذلك من ارتفاع للبطالة، علاوة علي نسبة التضخم المرتفعة، وهى كلها ظواهر مرشحة للتفاقم مع اقتراب الخريف والشتاء.
أما عن تراجع القدرة التنافسية للاقتصادات الأوروبية فى مواجهة الصين والاقتصادات الآسيوية الصاعدة، فحدث ولا حرج.. خصوصا مع حصول الصين والهند وغيرهما من دول الاقتصادات الصاعدة الآسيوية على موارد الطاقة الروسية بأسعار أرخص من أسعار الأسواق العالمية.
العودة إلى الفحم!
مشكلة أخرى خطيرة تهدِّد البيئة في العالم كله، وليس في أوروبا وحدها، هى اضطرار الدول الصناعية الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا على العودة لاستخدام الفحم الحجرى على نطاق واسع لتوليد الطاقة الكهربائية، لتعويض النقص في واردات الغاز، وهو ما يهدِّد بزيادة كبيرة فى الانبعاثات الكربونية، من شأنها زيادة «الاحتباس الحرارى» الذى تسعى كل الدول لتقليصه حرصًا على البيئة، وعلى عدم تفاقم ذوبان الثلوج القطبية، وما يترتب على ذلك من كوارث طبيعية ومناخية، ولنلاحظ مثلا موجة الحر الشديدة التي تجتاح أوروبا هذه الأيام، وما يترتب عليها من انتشار حرائق الغابات على نطاق واسع.
ويجب أن نلاحظ هنا أن الارتفاع القياسى فى درجات الحرارة فى أوروبا تترتب عليه وفيات تعدّ بالآلاف، وخاصة بين كبار السن، ومن ناحية أخرى يتزايد الاتجاه إلى استخدام مكيفات الهواء التي تحتاج بدورها إلى مزيد من الطاقة الكهربائية، وهى ظاهرة لم تكن منتشرة في أوروبا، المعروفة باعتدال صيفها.
روسيا أيضًا تتألم.. ولكن
هنا يبرز سؤال مهم: مفهوم أن العقوبات الغربية ضد روسيا قد تم فرضها بهدف «خنق» و«تدمير» الاقتصاد الروسى، وتفادى نشوب مواجهة عسكرية مباشرة ضد دولة نووية عظمى، وإذا كانت الآثار العكسية للعقوبات قد ألحقت كل هذا الضرر بالاقتصادات الأوروبية، فكيف هو الحال مع روسيا؟ وبتعبير آخر: هل تنجح العقوبات فى «شل» و«خنق» و«تدمير» الاقتصاد الروسى حسب التعبيرات الشائعة على ألسنة السياسيين والإعلاميين الغربيين؟
والإجابة مباشرة هى «لا» كبيرة.
وصحيح أن روسيا قد تعرضت وتتعرض وسوف تتعرض لخسائر كبيرة ومؤلمة، فقد تم تجميد نصف احتياطياتها الدولية الموجودة في الدول الغربية «أى حوالى ٣٠٠ مليار دولار» وهو مبلغ فادح بكل تأكيد.. كما تم حرمان اقتصادها من كثير من منتجات التكنولوجيا الغربية المتقدمة، وإغلاق الكثير من الأسواق الغربية أمام صادراتها.. وإجمالا يُقدر الخبراء الغربيون خسائر الاقتصاد الروسي بما يعادل تراجع نموه الاقتصادى بنسبة 10% لهذا العام وحده، بالرغم من أن عوائدها من البترول والغاز قد زادت بسبب ارتفاع الأسعار.. بمعنى أنها تبيع أقل، ولكن مقابل ثمن أكبر.
إلاّ أن فرض حصار «خانق» و«مدمر» على الاقتصاد الروسى هو أمر مستحيل عمليًا، بسبب أهمية منتجاتها من البترول والغاز والحبوب والسلاح وغيرها، وبسبب ضخامة الاقتصاد الروسى وتشابكه مع الاقتصاد العالمى.. وقبل كل شىء لأن وقائع وتطورات الاقتصاد العالمى تجعل الأسواق الدولية، أوسع كثيرًا من أسواق الغرب.. ولأن هناك حلولا من قبيل التعامل بالعملات الوطنية.. إلى آخر ما أفاضت الأقلام فى شرحه خلال الشهور الماضية.
وإذا كانت العقوبات الغربية قد فشلت فى تدمير الاقتصاد الإيرانى مثلا، والذى لا يمكن مقارنة حجمه وتنوعه «ومستوى تقدمه» بالاقتصاد الروسى، فإن تحقيق ذلك مع اقتصاد روسيا يصبح شبه مستحيل..
ومن ناحية أخرى ـ ونعتقد أنها الأهم ـ فإن المراهنة على تذمر الشعب الروسى بسبب المصاعب الاقتصادية وثورته على بوتين والنخبة الحاكمة، يبدو أمرًا فى حكم المستحيل.. وبالمناسبة فإن استطلاعات الرأى تشير إلى أن بوتين يحظى بثقة ٨٠٪ من شعبه، وهى نسبة يتمناها أى رئيس غربى، وخاصة بايدن.
ويرجع ذلك إلى أن الروس يدركون جيدا أنهم يخوضون الحرب في أوكرانيا «والمواجهة الشاملة مع الغرب» دفاعا عن أمنهم القومى الذى يتعرض للخطر الشديد نتيجة لسياسة «توسع الناتو» نحو «الشرق».. وأطماع أمريكا والغرب فى إضعاف بلادهم والاستيلاء على ثرواتها الهائلة وإلحاقها بالغرب اقتصاديا وسياسيا، وفى مواجهة خطر فادح مثل هذا فإنهم مستعدون للاحتمال ودفع ضريبة وضع بلادهم كقوة عظمى.. وقد سبق أن قاموا بذلك ضد جيوش نابليون (١٨١٢) وأثناء الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ - ١٩١٨) ثم الحرب من تدخل الجيوش الغربية فى بلادهم (١٩١٨ - ١٩٢٢) والتى انتهت بطرد جيوش ١٤ دولة غربية منها، وإقامة الاتحاد السوفيتى (١٩٢٢) ثم ضد الغزو النازى الألمانى خلال الحرب العالمية الثانية - وهو ما يسميه الروس «الحرب الوطنية العظمى - ١٩٤١ - ١٩٤٥» التى سقط خلالها ٢٧ مليون نسمة بخلاف الجرحى.. وانتهت بدخول الجيش السوفيتى برلين (٩ مايو ١٩٤٥) وكان لهم الدور الأكبر في الانتصار على ألمانيا النازية.
والروس هم أكبر شعوب أوروبا (١٤٥ مليون نسمة) وبلادهم الشاسعة تملك ثروات هائلة ولديهم قيادة تحظى بثقة ٨٠٪ منهم، ولذلك فإن لديهم أسبابًا قوية لتحمل آلام العقوبات والحصار، بينما شعوب الغرب ليس لديها نفس الدوافع لتحمل أعباء طموحات أمريكا.. والنخب الأوروبية التابعة لها ـ فى الهيمنة على العالم ــ بل إن الشعب الأمريكى نفسه من المشكوك فيه بشدة أن يكون لديه أى دافع جدى لدفع ثمن طموحات نخبته الحاكمة فى الهيمنة.
والخلاصة أنه موضوعيًا وبحسابات القوة الشاملة فإنه يكاد يكون فى حكم المستحيل أن تحقق العقوبات الغربية أهدافها فى إخضاع الدب الروسى.