د.محمد فراج يكتب : العقوبات ضد روسيا.. كارثة على الاقتصاد الأوروبى (1)
«المشهد الاقتصادى العالمى يزداد قتامة، وقد يتدهور أكثر».. بهذه الكلمات لخصت الرئيسة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جيورجييفا وضع الاقتصاد العالمى حاليا وحتى نهاية عام ٢٠٢٣ (الشرق الأوسط - ١٣ يوليو ٢٠٢٢).. والناتج بصورة أساسية عن الآثار السلبية للعقوبات الغربية ضد روسيا، وفي اليوم نفسه كانت الولايات المتحدة تعلن عن وصول نسبة التضخم فيها إلى ٩٫١٪، وهو أعلى معدل للتضخم منذ السبعينيات، بينما بلغت نسبة التضخم في الاتحاد الأوروبى (٧٫٦٪) قابلة لزيادة كبيرة حتى ٨٫٣٪ مع اقتراب الشتاء والزيادة المستمرة في أسعار الطاقة، وخاصة الغاز الطبيعى الذى ارتفعت أسعاره خلال الأيام الأخيرة لتبلغ أكثر من ١٨٠٠ دولار للألف متر المكعب، مع وجود مخزونات منه تُلبى ٤٠٪ فقط من احتياجات الاستهلاك، بينما لا ينبغي أن تقل هذه المخزونات عن ٨٠٪.. وهو ما دفع رئيس وكالة الشبكة الفيدرالية الألمانية للطاقة كلاوس مولر للإعلان عن أن أسعار الغاز سترتفع خلال العام القادم (٢٠٢٣) إلي ثلاثة أمثالها على الأقل! (RT - ١٤ يوليو - نقلا عن جريدة «بيلد» الألمانية) ودعا المسئول الألمانى شعبه إلى الحد من استهلاك الطاقة «لأن كل كيلو واط يتم توفيره يمكن أن يساعد فى تأخير أو حتى منع إغلاق منشآت صناعية».
اندفاع الدول الأوروبية وراء الرغبة الأمريكية في إلحاق الأذى بالاقتصاد الروسى بأسرع وقت ممكن وصولا إلى «خنقه» أو «تدميره» أدى إلى مفاقمة الأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت لاتزال في بدايتها، وجعل من القارة العجوز أول ضحايا تلك الأزمة، وألحق أضرارًا كبيرة بالقدرة التنافسية للاقتصادات الأوروبية، لصالح الصين والاقتصادات الآسيوية الصاعدة.. وأصبح يُهدد بإغلاق آلاف المنشآت الصناعية أو حتى فروع صناعية بأكملها، وارتفاع نسبة البطالة.
وتم اتخاذ قرارات اقتصادية ضخمة ذات آثار بعيدة المدى، بصورة غير مدروسة، انطلاقًا من دوافع سياسية تتلخص في الرغبة فى «معاقبة روسيا» وتدمير اقتصادها و«معاقبة بوتين» وهزيمته في أوكرانيا..الخ دون إقامة الاعتبار الكافى لدرجة اعتماد أوروبا علي موارد الطاقة الروسية (٤٠٪ من الغاز الطبيعي - و٥٥٪ فى حالة ألمانيا - فضلا عن ٣٠٪ بالنسبة للبترول، ونسبة كبيرة من الفحم الحجرى) ناهيك عن الاعتماد الكبير للمحطات النووية الأوروبية والأمريكية علي اليورانيوم المخصب الروسى.. وهي سلعة بالغة الأهمية، وتعويضها في وقت قريب أمر بالغ الصعوبة، ولو تم توظيفها من جانب روسيا لتضاعفت الخسائر الأوروبية والأمريكية فى مجال الطاقة، لكن الواضح أن بوتين يدَّخر هذا «السلاح النووى» لمرحلة لاحقة.
ثغرات قاتلة
أمريكا الأكثر قدرة علي مواجهة آثار العقوبات، لم تعبأ بحساب خسائر الحلفاء الأوروبيين، لأن لديها ما يكفيها من موارد الطاقة.. وحذَّرت حلفاءها فى القارة العجوز بالحديث عن «البدائل» ولكن سرعان ما اتضح أن بدائل الغاز الطبيعي الروسى أكثر تكلفة بكثير.. وأن الإنتاج العالمي من الغاز يحتاج إلى وقت واستثمارات طائلة لزيادته بما يكفى لتعويض الإمدادات الروسية، ثم إنه يحتاج إلي وقت واستثمارات طائلة لعمليات التسييل وبناء أسطول لناقلات الغاز المسال، ومنشآت لإعادة «المسال» إلى الحالة الغازية الطبيعية.. وكل هذا على حساب التكلفة، وبالتالي علي حساب القدرة التنافسية للاقتصادات الأوروبية والمستهلك طبعًا.
وإيجاد البدائل عن البترول الروسي أسهل نسبيًا، لكن زيادة الطلب علي إنتاج الدول الأخري أدى إلى رفع الأسعار بدرجة كبيرة «حتى مع تذبذبها»، كما أن زيادة الإنتاج بالدرجة المطلوبة ليس من السهل فرضه على المنتجين الكبار المرتبطين بـ(أوبك+) وبحصص إنتاجية محددة، والمستفيدين طبعا من ارتفاع الأسعار، وليس من مصلحتهم إغراق الأسواق ومواجهة الخسائر من أجل عيون أمريكا..
ومن ناحية أخرى فإن الحاجة إلى دفع ثمن الغاز والبترول وغيرهما من المنتجات الروسية، أجبر أمريكا وحلفاءها علي عدم استبعاد جميع البنوك الروسية من منظومة «سويفت» لأن روسيا لم تكن لتضخ واردات الطاقة مجانا.
مفاجآت بوتين المؤلمة
لكن سرعان ما اتضح أن بوتين كان يدخر للدول الغربية مفاجآت مؤلمة حقًا.. وقبل كل شىء فإنه لجأ لزيادة ضخ الغاز إلى الصين عبر خط «قوة سيبيريا».. كما لجأ إلى بيع البترول بأسعار مخفضة إلي الصين التي رحبت بدعم مخزوناتها الاحتياطية بأسعار أقل من الأسعار العالمية، مما يعزز موقفها التنافسي من خلال خفض تكلفة الإنتاج.. علمًا بأنها أكبر مستهلك فى أسواق الطاقة العالمية.. كما عرضت روسيا علي الهند ـ العملاق الصناعى الصاعد ــ الإمدادات البترولية بأسعار خصم مغرية وانتهزت الهند الفرصة ليس لدعم مخزوناتها فحسب، بل وأيضًا لتكرير البترول الروسى وبيع المشتقات في الأسواق، العالمية ـ بما فى ذلك الأوروبية ــ باعتبارها منتجات هندية، بينما يعلم الجميع أنها ذات منشأ روسى!
الخطوة التالية المؤلمة كانت قرار بوتين بعدم بيع البترول والغاز «للدول غير الصديقة».. أى التى تفرض عقوبات علي روسيا، إلا الروبل.. وسارعت أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى لإعلان رفضها للقرار الروسي، ولكن خلال أسابيع قليلة كانت عشرات الشركات الأوروبية تفتح حسابات في بنك «غاز بروم» الروسى بالعملة الروسية «الروبل» إلى جانب حسابات بالدولار واليورو، وتقوم بشراء الروبل لتدفع ثمن البترول والغاز.. وهكذا ارتفع سعر الروبل إزاء الدولار من (١٤٠ روبلا للدولار) إلى (٥٥ روبلا) خلال أسابيع قليلة.. مما جعل الروبل أقوى العملات أداءً أمام الدولار، بينما كان «اليورو» يتراجع أمام الدولار وبفعل تدهور الاقتصاد الأوروبى ـ ليصبح مساويًا له لأول مرة منذ إصدار العملة الأوروبية الموحدة قبل عشرين عاما.
صراع تكسير العظام
ودون مبالاة بمتاعب الحلفاء الأوروبيين لجأت أمريكا لدفع أوكرانيا إلى إغلاق أحد الخطين اللذين يمر عبرهما الغاز الروسى إلى أوروبا عبر الأراضى الأوكرانية، متذرِّعة بظروف «القوة القاهرة» مما أدى لحرمان القارة العجوز من ٤٠٪ من الواردات القادمة عبر أوكرانيا، وبالتالي إلى ارتفاع الأسعار.
ورد بوتين بإغلاق خط «يامال» الروسي الذى يصل إلى ألمانيا ـ عبر بولندا ـ والذى تبلغ طاقته ٣٠ مليار م٣ سنويا، فازدادت الأزمة تعقيدًا في أوروبا، وخاصة في ألمانيا.
ثم تلكأت ألمانيا فى إعادة توربين أساسى لضخ الغاز عبر خط «السيل الشمالى -١» فقررت موسكو خفض ضخ الغاز عبر الخط بنسبة ٦٠% (ستين بالمائة) وازدادت الأزمة استحكامًا مما دفع ألمانيا بمطالبة كندا بإصلاح التوربين بسرعة «فى مصنع لشركة سيمنز الألمانية الموجود في كندا».. وكانت الأخيرة ترفض إعادة التوربين الذى تم إصلاحه، بدعوى أن هذا يتناقض مع العقوبات على روسيا، وبتحريض من أمريكا، غير أن الضغط الألمانى أدى لإعادة التوربين ــ وبموافقة أمريكية اضطرارية ــ وهو الآن فى طريق إلى روسيا عبر ألمانيا.
إلاّ أن بوتين كان يدخر للأوروبيين وخاصة للألمان مفاجأة أسوأ، فقد تقرر وقف ضخ الغاز تمامًا عبر خط «السيل الشمالى-١» لمدة عشرة أيام (١١ - ٢١ يوليو الجارى» مما أدى إلى قفز الأسعار فورًا إلى ما فوق الـ١٨٠٠ دولار (ألف وثمانمائة دولار) للألف متر المكعب.. والسبب المعلن لوقف «السيل الشمالي-١» هو «إجراء الصيانة الدورية» لكن توقيت «الصيانة» من الواضح أنه تم اختياره بعناية، وكان سببًا أساسيًا فى خلى كندا والولايات المتحدة عن إعادة توربين الضخ الذى تم إصلاحه!! ونعتقد أن «الصيانة» لن تنتهى قبل إعادة التوربين المطلوب!
ولا نستبعد أيضًا أن يكون وقف ضخ الغاز عبر خط السيل الشمالى ورقة ضغط روسية على الاتحاد الأوروبى لحمله على الضغط بدوره على ليتوانيا، التي اتخذت بتحريض أمريكى، قرارا مفاجئًا بمنع مرور القطارات والشاحنات الروسية إلى إقليم «كالينينجراد» التابع لروسيا، والواقع بين ليتوانيا وبولندا.. بالرغم من وجود اتفاقية بين موسكو وليتوانيا والاتحاد الأوروبى تنظِّم مرور هذه الشحنات.. وتحت ضغط ألمانى اضطرت المفوضية الأوروبية لدعوة ليتوانيا للتخلى عن هذا القرار، لتعلن الأخيرة استجابتها بعد مماطلة.
نعم إن سلاح الغاز والطاقة عمومًا هو سلاح فعال للدرجة التى دفعت مسئولا ألمانيًا كبيرًا هو «ماركيرى سودير» رئيس حكومة ولاية بافاريا الألمانية للتحذير من «فوضي حقيقية ستواجهها ألمانيا» إذا استمر النقص في الإمدادات، بل ومن «سكتة دماغية سيعانى منها الاقتصاد ولن يتعافى منها بسهولة» (تاس - RT - نقلا عن قناة ARD TV الألمانية - ١٠ يوليو).
وظهرت هذه النغمة نفسها بصورة واضحة فى تصريحات المسئولين في عدد من الدول الأوروبية كالنمسا وسلوفاكيا وتشيكيا، والمجر التي أعلنت أنها لن تلتزم بأى قرار لحظر استيراد البترول أو الغاز من روسيا، لأن هذا معناه تدمير الاقتصاد المجرى، ومعروف أن رئيس الوزراء المجرى «فيكتور أوربان» هو صاحب العبارة الشهيرة: «إن فرض العقوبات على روسيا يشبه من يقطع أنفه ليغيظ جاره».
لهذا كله تبدأ فى الانتشار فى أوروبا نغمة تدعو إلى الحوار مع روسيا، وإلى مراجعة الموقف من الدعم غير المشروط لأوكرانيا.. وإلى ضرورة البحث عن السبل الممكنة للتسوية.
وللحديث بقية..