أسامة أيوب يكتب : حكاوي على هامش أيام السادات وسنوات مبارك
فى أيام السادات التي أمضاها في رئاسة مصر طوال أحد عشر عامًا ما بين عامي ١٩٧٠، ١٩٨١.. ثمة مشاهد وحكاوي غير معلومة للمصريين حتى الذين عاصروا تلك الفترة من القرن الماضى باستثناء قلة ممن بقي على قيد الحياة من سياسيين وصحفيين وغيرهم من القريبين من كواليس السياسة والأحداث.
ثم إن ثمة مشاهد وحكاوى أخرى في عهد الرئيس مبارك الذى طال لنحو ثلاثين سنة.. وجدتنى أميل إلى ذكرها وتوثيقها باعتبارها جزءا من تاريخ مصر الحديث حتى وإن كانت على هامش الأحداث فى عهدين رئاسيين.
في البداية أود أن أؤكد أن تلك الحكاوى وعلى طرافة بعضها لا تنال بأى حال من مكانة كليهما «السادات ومبارك» ولا تُقلّل من إنجازات تحققت في عهديهما، ولكنها تعكس فى حقيقتها بعض الطبائع البشرية لأى إنسان حتى لو كان رئيسًا يتصرف بعفوية في بعض المواقف، ومن ثمَّ فإن اعتبارها من جانب البعض غير مقبولة إنما يُعد نوعًا من التعسف.
ولأن الرئيس السادات انتابته مشاعر الفخر والاعتزاز والزهو بعد نصر أكتوبر وبعد التوصل إلى استكمال تحرير سيناء عبر مبادرته للسلام، فإنه منح شخصه لقب كبير العائلة المصرية.. متأثرًا فى ذلك بنشأته الريفية التى كان يعتز بها دائمًا، وفى هذا السياق النفسى المُسيطر عليه جاء قراره بالقيام بزيارات لكبرى العائلات في ريف مصر فى عدة محافظات لإعلاء قيمة القرية، وحيث كان يتحدث دائمًا عما وصفها بأخلاق القرية التي تختلف عن المدينة و«الأفنديات».
<<<
ومن محافظة الشرقية بالوجه البحرى بدأ أولى جولاته بزيارة عائلة مشهور التى ينتمى إليها المهندس مشهور أحمد مشهور رئيس هيئة قناة السويس وقتها، وفى هذه الزيارة استقبله أفراد العائلة بالترحيب والهتاف مرددين: عائلة مشهور تحيّى الرئيس السادات، ومن جانبه وبطريقته فى نطق الكلمات قال: وأنا أحيى عائلة مشهور، وقد اعتبرت العائلة ذلك اليوم حدثًا مشهودًا، إذ شهد زيارة أول حاكم مصرى لها في مقرها الريفي.
<<<
وإلى الوجه القبلى كانت زيارة السادات الثانية لعائلة رضوان الكبيرة فى مركز أولاد طوق «دار السلام بعد ذلك» بمحافظة سوهاج وهى العائلة التى ينتمى إليها عبدالحميد رضوان وزير الثقافة في ذلك الوقت..
حفاوة الاستقبال والضيافة من عائلة رضوان فاقت الوصف والخيال بحسب الصحفيين الذين شهدوها ونواب البرلمان عن الصعيد الذين كانوا برفقة السادات، وقد استبقت العائلة الزيارة بإزالة مزروعات عدة أفدنة لتكون مهبطًا للطائرة الهليكوبتر، أما قصر العائلة الذى حلَّ عليه السادات ضيفًا فإنه لا يقل في مساحته وأسواره عن قصر القبة في القاهرة وعلى النحو الذى عكس ثراء هذه العائلة الكبيرة بقدر ما عكس نفوذها فى سوهاج وربما في الصعيد كله.
مائدة الطعام التى أعدها الوزير رضوان وعائلته كانت بالغة الفخامة وفي نفس الوقت غير تقليدية ولإعطائها نكهة ريفية مع فخامتها.. جلس كل أربعة أشخاص من النواب ومرافقى السادات أمام «طبلية» كبيرة ولكنها ليست كأى «طبلية» إذ كانت بالغة الشياكة، بينما كانت الطبلية التى وُضعت أمام الرئيس مصنوعة من الفسيفساء ومطلية إما بالذهب أو الفضة، حيث انبهر بها السادات إلى درجة أنه قال للوزير رضوان سوف أخذها معى يا عبدالحميد.
وبعد الطعام وأثناء الأحاديث التى تبادلها السادات مع نواب الصعيد.. فاجأ الحاضرين بأنه قرر إقامة مطار فى أولاد طوق لخدمة أبناء سوهاج، غير أن نائبًا من سوهاج من النواب النشطاء أذكر أن لقبه «الغول» أبدى اعتراضه على مكان المطار باعتبار أن بقية مراكز المحافظة تقع جميعها على الضفة الأخرى من النيل، ولذا فإنه من الأفضل إقامته فى أى من هذه المراكز لفائدة كل مدن سوهاج بدلا من أن ينفرد بها مركز أولاد طوق، غير أن السادات بادره وبطريقته أيضا في نطق الكلمات: «لا يا غول أنا عامل المطار لعائلة رضوان»، وحيث بدا أن الأمر يمثل لفتة خاصة لتكريم عائلة وزير الثقافة وردًا على حفاوة الاستقبال الأسطورى الذى حظى به فى الزيارة، والتي أذكر أن السادات لم يكررها لعائلة أخرى بعد ذلك.
مشهد آخر أو حكاية أخرى من حكاوى أيام السادات لا تخلو من الطرافة، حيث كان يستقل قطارا في إحدى زياراته وكان الأهالى يقفون على أرصفة المحطات التى يمر بها القطار لتحية الرئيس، وفى مرور القطار على إحدى المدن شاهد الكثير من الذبائح فطلب من النائب عن المدينة أن يتوجه إلى هؤلاء الأهالى ويُبلغهم شكره، إذ تصوَّر أن هذه الذبائح تنحر لتحيته بمناسبة مرور القطار والحقيقة التى لم يكن يعلمها أن هذا اليوم صادف موعد السوق الأسبوعى وأن هذه الذبائح بمناسبة السوق!
< <<
وبعيدًا عن الحكاوى الهامشية فى أيام السادات، فإنه كان يشعر بغبن كبير وما اعتبره جحودا إزاء إنجازاته بعد نصر أكتوبر سواء بإعادة فتح قناة السويس وإعادة سكان مدن القناة المهجرين إلى مدنهم أو بهامش الحرية الذى أتاحه لأول مرة منذ عام ١٩٥٢ وكذلك ظل غاضبا من انتقاد سياسة الانفتاح الاقتصادى التى انتهجها لرغبته فى إحداث نوع من الرخاء ورفع مستوى معيشة المصريين.
أما غضبه الأكبر الذى لازمه بقية سنوات حكمه وعمره كان بسبب ما وصفها بانتفاضة «الحرامية» فى يومى ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ فى مظاهرات الاحتجاج على رفع أسعار السلع الأساسية وإلغاء الدعم وحيث ظل يتهم الشيوعيين بأنهم وراء تلك الاحتجاجات العنيفة وما تخللها من تخريب وتدمير، وكان ما يزعجه أنه اضطر إلى إلغاء قرارات رفع الأسعار صونًا للاستقرار.
ولعل تلك الانتفاضة بل إنها فى الغالب كانت السبب المباشر الذي دفعه لقراره الصادم بزيارة إسرائيل والإعلان عن مبادرته للسلام، بحسبانه قد اعتبر أن استمرار الجزء الأكبر من سيناء لايزال تحت الاحتلال يمثل تكلفة باهظة.. سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية لا تتحملها مصر..
زيارة السادات لإسرائيل وما تلاها من توقيع اتفاقية كامب ديفيد فى سبتمبر ١٩٧٨ ثم معاهدة السلام فى مارس ١٩٧٩ هي التى وحّدت بين كل من الشيوعيين والناصريين الذين كانوا فى خصومة معه والإخوان والجماعات الإسلامية المتطرفة والذين كان السادات قد أخرجهم من السجون وسمح لهم بالعمل العلنى فى الساحة السياسية حتى يُحدِّث بحسب تصوره توازنًا سياسيًا فى مواجهة الخصوم الأصليين، غير أنه وصف اشتراكهم فى عدائه بأنه «مسخرة».
< < <
أما الرئيس مبارك الذى استهل رئاسته لمصر فى الرابع عشر من أكتوبر ١٩٨١ بعبارته الشهيرة المستحدثة من الثقافة المصرية الشعبية بأن «الكفن مالوش جيوب» وهى العبارة التى صدرت عنه بعفوية على خلفية إحساسه الذى تجسّد أمامه جليًا بعد أن رأى السادات مغتالا وهو يجلس بجانبه فى منصة العرض العسكرى وحيث رأى بنفسه أن الموت قد يأتى فى أى لحظة بل فى اللحظة التى قد لا يتوقعها الإنسان.
بهذه الروح أو لنقل بهذه الفلسفة ظل طوال العشرين سنة الأولى من رئاسته التي طالت لنحو ثلاثين سنة إلا قليلاً يمارس مهام منصبه باستقامة مشهودة وبصرامة وشفافية وحرص شديد على الاستقرار وصون الأمن القومى للبلاد، فى نفس الوقت الذى لم يلجأ فيه إلى إدارة البلاد بالصدمات وهى السياسة التى انتهجها السادات.
وخلال العشرين سنة الأولى وفى سياق حرصه على ما كان يعتبره استقرارا بينما كان السياسيون والنخب يرونه جمودا وركودا فإنه ظل محتفظا بمجموعة من الوزراء لمدد بلغت نحو ١٥ عاما ورئيس حكومة د. عاطف صدقى لمدة عشر سنوات، بينما ظل صفوت الشريف وزيرا للإعلام لسنوات طويلة ثم اختاره رئيسا لمجلس الشورى والمجلس الأعلى للصحافة وحيث أحكم قبضته على الصحافة مثلما أحكم قبضته على الإعلام وظل في السلطة حتى سقوط النظام وقد كان بفساده أحد أسباب قيام ثورة ٢٥ يناير.
< <<
ومع بداية السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك كان العد التنازلى لسقوطه وسقوط نظامه قد بدأ، حيث بدا واضحًا أنه أولا بحكم سنه الكبيرة ثم بإفساح المجال لنجله جمال والذين معه من رجاله الذين أطلقوا على أنفسهم وصف الحرس الجديد فى الحزب الوطنى الحاكم وفى إدارة الدولة.. بهذه الأوضاع الجديدة بدا واضحًا ومؤكدًا أنه لم يعد يدير الدولة.
وفي تلك السنوات العشر.. سنة بعد سنة كان الفساد يستشرى ويستقوى فى مصر خاصة مع بدء العد التنازلى لتنفيذ سياسات توريث جمال مبارك وعلى نحو بالغ الاستفزاز للمصريين وبالغ الانتهاك للدستور وللنظام الجمهورى ذاته الذي كاد يتحول إلى جمهورية وراثية، وهو أمر لم يكن من الممكن قبوله سواء من الشعب أو السياسيين وأيضا من المؤسسة العسكرية حامية الدستور والنظام الجمهورى.
<<<
من بين الحكاوى والمشاهد الطريفة للرئيس مبارك أنه عندما كان يفتتح تجديدات وترميمات فى مسجد صلاح الدين وقلعة محمد على وأشار فاروق حسنى وزير الثقافة وقتها إلى فخامة الزجاج إذ به يسأله فى دهشة وهل «كان فيه زمان زجاج»! وثمة حكاية أخرى أنه عندما كان يزور مصنع سجاد شهير أشار رجل الأعمال صاحب المصنع وأحسبه فريد خميس إلى نوع من السجاد غالي الثمن لأنه «يدوى» إلا أن مبارك سأله متعجبًا «ليه اليدوى أغلى؟».
ثم إنه فى زيارة لأحد مصانع الملابس الجاهزة أبدى إعجابه بفخامة وجودة القميص المصنع محليا ولكنه بدلا من الإشادة بجودة الصناعة المصرية التي لا تقل عن الأجنبية إذ به يقول «الواحد يشترى القميص ده ويقول عليه مستورد»!
< < <
أما أكثر الحكاوي عن مبارك طرافة أنه فى زيارة لأحد المصانع وقف بجوار إحدى العاملات وسألها «انتى متجوزة؟» ورغم أنها قالت له «لأ» فإنه عاد ليسألها «عندك ولاد؟»!!.. هذه الحكاية أو الواقعة والتي على طرافتها تعكس عدم تركيز واضح أعادها حرفيا الممثل هاني رمزى فى فيلم «محامى خلع» وقد شاهدها المصريون وضحكوا ولم يغضب مبارك، لذا فإن دواعى الإنصاف تقتضى الإشارة والإشادة بسقف الحريات الذى ارتفع جدا فى سنوات حكمه وعلي نحو غير مسبوق بالمقارنة حتى مع السادات الذى كان هامش الحرية فى عهده رغم إتاحته محدودًا وبالطبع لا مجال للمقارنة مع عهد جمال عبدالناصر.
ثم إن دواعى الإنصاف التاريخي تقتضى القول بأنه من الظلم وصف سنوات حكم مبارك الثلاثين بأنها كانت كلها فساداً بل الحقيقة أن العشر سنوات الأخيرة فقط هى التى تستحق هذا الوصف.
<<<
ولذا فإنه إذا كان السادات الذى رحل شهيدًا يحظى بما يشبه الإجماع من تقدير المصريين لإنجازاته وفى مقدمتها نصر أكتوبر، فإن مبارك الذى غادر منصبه ثم غادر الحياة ومهما كانت أسباب الثورة عليه فإنه وحسبما قال فى آخر خطاب عاطفى له قبل تنحيه إن له ما له وعليه ما عليه وأحسب أن ما له أكثر بكثير مما عليه.