70 عاما على ثورة يوليو الوطن .. الشعب .. الجيش
تنظيم الصحافة
مر 62 عاما على تنظيم الصحافة في مصر. صدر القرار الجمهوري رقم 156 لسنة 1960 للتنظيم في 24 مايو من ذلك العام.
خلال تلك السنوات تغيرت الحياة في مصر والعالم بحيث لم يعد أي أثر للظروف التي كانت موجودة وقتذاك. تقلبت وتبدلت الأحوال سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وصحفيا. كانت مصر اشتراكية وتغيرت إلى رأسمالية بعدها بسنوات.
كان في العالم قطبان كبيران وصار هناك قطب واحد خلال السنوات التالية.
كانت الدول شرقية أو غربية فجاءت العولمة في محاولة لدمج الكيانات والسيطرة ثقافيا وإعلاميا على الدول. كانت الصحافة في مصر ملكا لأفراد وصارت بعد صدور قانون تنظيم الصحافة ملكا للاتحاد القومي التنظيم السياسي الوحيد في ذلك الوقت المعبر عن ثورة 23 يوليو.
أحدث تنظيم الصحافة زلزالا سياسيا واجتماعيا. رأته الثورة نوعا من تصويب المسار ودفاعا عن مكتسباتها ورآه المناوئون ردة على حرية الصحافة وتمسك من الثورة وقائدها جمال عبدالناصر بالسيطرة على وسائل توجيهالرأي العام.
أطلق البعض خاصة في المرحلة الساداتية نوعا من الترهات عن أسباب تنظيم الصحافة الذي صار يعرف بتأميم الصحافة. قالوا إن عبدالناصر غضب من العنوان الرئيس الذي نشرته جريدة الأخبار خال زيارته لباكستان. كان الرئيس يزور باكستان وفي الوقت نفسه قتلت الشرطة في مصر من أطلق عليه لقب السفاح والذي استمد نجيب محفوظ من حكايته رواية اللص والكلاب. نشرت الجريدة في سطر رفيع في أعلى الصفحة الأولى عنوانا يقول: مصرع السفاح، ونشرت العنوان الرئيس بالخط الأحمر عنوانا يقول: عبدالناصر في باكستان، ولم تضع الجريدة فاصا بن العنوانين فصار كلاهما مجتمعان يقرآن كالتالي: مصرع السفاح عبدالناصر في باكستان. رددوا أن الرئيس استاء من ذلك العنوان لكن قولهم هذا قصد به الإساءة إلى عبدالناصر ووصمه بأنه انفعالي وأن رد فعله بتنظيم الصحافة جاء ردا على مسألة اعتبرها مسيئة إليه شخصيا.
تأميم الصحافة أخطر
إجراءات ثورة يوليو لحماية المكاسب الاجتماعية
الحقيقة أن الرئيس عبدالناصر كان قبل قراره بتنظيم الصحافة يتحدث عن الصحافة باستياء وهاجم الصحف عدة مرات. في خطابه عام 1959 بمناسبة العيد السابع للثورة اتهم عبدالناصر الصحافة بأنها لا تلقي الضوء على حياة المواطنن الكادحين وأنها تخصص مساحات كبيرة لنشر أخبار العاطلن بالوراثة والطبقة الأرستقراطية وسيدات الصالونات وبذلك تبعد الصحافة كل البعد عن مجتمعنا الاشتراكي التعاوني الجديد. وقال إنه يعتبر أن الصحافة رسالة وليست سلعة أو تجارة.
يحكي محمد حسنين هيكل في كتابه بين الصحافة والسياسة قصة تنظيم الصحافة، يقول: "منذ أول يوم في الثورة لم يكن الرئيس عبدالناصر راضيا عن الظروف المحيطة بملكية الصحافة في مصر.
كان يرى أن آل زيدان أصحابدار الهلال وآل تقا أصحاب الأهرام وآل نمر أصحاب المقطم قد أدوا دورهم في مرحلة معينة من تاريخ مصر، لكن مصر الآن أمام مرحلة جديدة لا يستطيعون مسايرتها. كانت له تجربة مزعجة مع آل أبو الفتح أصحاب المصري، كما ظلت أمامه علامة استفهام طول الوقت على: آل أمين _ مصطفى وعلي _ ولم يكن عبدالناصر في يوم من الأيام يفصل بن المال وهوى صاحبه، وكان رأيه أن هوى كل صاحب مال يرتبط بمصالحه، وغير ذلك غير جائز، وإذا جاز فهو مؤقت تفرضه الضرورات".
ويضيف هيكل: "كانت بيننا مناقشات امتدت من سنة 1952 إلى سنة 1960 حول ملكية الصحافة في مصر. لم يكن راضيا عن الملكية الفردية أو العائلية للصحف. وكنت أرى غير رأيه وأناقشه مطولا ومفصا". "وأعتقد بأمانة أنني وقفت في الفترة ما بن سنة 1956 إلى سنة 1960 في محاولة للدفاع عن الواقع الراهن في الصحافة. وكان للثورة وقائدها وللتنظيم السياسي ورجاله رأي آخر". "ثم جاءت ظروف وتحولات وقال لي عبدالناصر أنه مهما كانت آرائي في موضوع الصحافة فهو الآن وصل إلى اقتناع كامل بأنه لا يستطيع أن يترك الأمور كما هي" . وأضاف ناصر: "لا تتصور أنني أريد أن أتخلص من أحد، لو أردت أن أتخلص من أحد فأنت تعرف أن لدي من الشجاعة ومن السلطة ما يسمح لي بأن أقول له اذهب إلى بيتك، ثم إنك ترى أن الكل يتسابق إلى التأييد أحيانا بأكثر مما أريد، لكن القضية أكبر من ذلك".
قال عبدالناصر: "إننا مقبلون على تحولات اجتماعية كبيرة، وقد بدأت هذه التحولات بتأميم البنك الأهلي وبنك مصر _ تم تأميمهما في فبراير 1960 _ إذا كنا نريد تنفيذ خطة للتنمية وإجراء تحولات اجتماعية عميقة فلا بديل عن سيطرة المجتمع على وسائل المال والإنتاج. ولا أستطيع عقلا أو عدلا أن أفرض سيطرة المجتمع على الاقتصاد بينما أترك لمجموعة من الأفراد أن يسيطروا على الإعلام. إنهم الآن لا يسيطرون عمليا لأن الثورة قوية وذلك مجرد خوف، وأنا لا أثق في خائف خصوصا إذا تغيرت الظروف".
يقول هيكل: ولما ناقشته وبدا أنني على وشك أن أخسر نتيجة النقاش، قال: فكر في أي ضمانات تريدها للمهنة. وفي اليوم التالي حاولت بكل ما أستطيع. وربحت بعض النقط وخسرت بعضها الآخر. استطعت أن أستبعد منطق التأميم بحدوده القاطعة ووصلنا إلى صيغة أخرى تسمح بمرونة، وهكذا كان تنظيم الصحافة وليس تأميمها. وحاولت أن أجعل الملكية مشتركة بن التنظيم السياسي وبين جمعية العاملين في كل دار صحفية: 50 % لكل فريق، لكنه رفض ثم خرج باقتراح وسط، انتقال الملكية إلى التنظيم السياسي وليس إلى الدولة واحتفاظ كل صحيفة بأرباحها داخلها، ثم توزيع الأرباح مناصفة: نصف للتجديد والإحلال في دور الصحف، ونصف لجمعية العاملين في كل دار صحفية.
بجانب ما ذكره هيكل كتب بعض أصحاب دور الصحف وكبار الصحفين قبل صدور قرار التأميم مقالات ترحب بتنظيم الصحافة بعدما ظهرت بوادر عن نية الرئيس عبدالناصر في هذا الشأن.
كتب هيكل: إن الصحافة المصرية لم تستطع أن تتحول من كونها صحافة أشخاص تعبر عن الرأي الخاص لمالكيها إلى صحافة تعبر عن المجتمع على اختلاف طبقاته، وانتقد هيكل الخفة التي عالجت بها الصحافة المشاكل، والسطحية التي تعبر بها سريعا على ما يقتضي التعمق من الأمور.
وقال فتحي غانم في روزاليوسف: إن من حق الدولة أن تتدخل لتوجيه حرية الرأي وأن المعارضة في الجمهورية العربية المتحدة يجب أن تقوم تحت إطار الاعتراف بمبادئنا الأساسية: القومية العربية – الاشتراكية – الديمقراطية التعاونية. وهاجم علي أمين انفلات بعض الكتاب وتصورهم أن الحرية تسمح لهم بأن يدوسوا مقدسات المجتمع والمثل العليا واستخدام ما يخرج عن الأدب والحياء. وقال إن الانفلات ليس مظهرا من مظاهر حرية الفكر، إنه بداية الفوضى، بل هو في رأينا مؤامرة جاهلة على حرية الصحافة، وطالب علي أمين رؤساء التحرير بحماية حرية الصحافة من انفلات المستهترين والعابثين.
وكتب مصطفى أمين يقول: كنا نؤيد الثورة ونحن أصحاب أخبار اليوم، والآن نؤيد الدولة ونحن أصحاب أخبار اليوم سابقا، وسواء كنا نملك أو لا نملك فنحن جزء من الشعب الذي أصبح يملك أخبار اليوم ولا يهمنا في معركة الوطن أن نكون في الصف الأول أو الأخير.
أما إحسان عبدالقدوس فكتب يقول: في أبريل 1958 ماتت أمي وتصدعت كل أحلامي وأحسست بأني منهار تماما. بدأت أفكر في تأميم الصحافة كعملية إنقاذ لدار روزاليوسف وهو الأمر الذي لم يكن ممكنا تنفيذه في وجود أمي.
وكتبت مقالا قلت فيه: لماذا لا تؤمم الصحافة؟ لقد أممنا كل شيء تقريبا. ألجا إلى هذا الحل بعدما أرهقت ماليا وأرهقتني الرقابة على ما ينشر.
وقرأ جمال عبدالناصر المقال الذي نشر في أبريل 1960 وأخذ منه أربعة سطور بالنص وأصدر بها قانون تنظيم الصحافة.
اتصل بي صديقي عبدالقادر حاتم وقال: الرئيس أخذ من مقالك وأمم الصحافة وسوف يتم تعيينك رئيسا لمجلس إدارة
روزاليوسف. كنت رئيس مجلس الإدارة الوحيد الذي عين من أصحاب الصحف التي أممت. أنا أعتبر أن روزاليوسف استفادت من تأميم الصحافة ولولا التأميم لكانت قد أفلست.
كل هذه التفاصيل تؤكد أن قرار تنظيم الصحافة لم يكن وليد غضبة من عبدالناصر ولم يكن رد فعل على المانشيت الذي أشرنا إليه كما يروج ويردد المتعاملين بخفة مع الأمور.
عبد الناصر هاجم الصحافة
وأصر على نقل ملكيتها من أصحابها إلى الاتحاد القومي
وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم 156 لسنة 1960 بتنظيم الصحافة الذي نص على انتقال ملكية صحف الأهرام وأخبار اليوم والهلال وروز اليوسف المملوكة ملكية خاصة إلى ملكية الاتحاد القومي _التنظيم السياسي في ذلك الوقت_ وقد طبقت تلك المادة فيما بعد على دار المعارف في عام 1963 وعلى دار التحرير في عام 1967 .
استقبلت الصحف القانون بالترحيب وظهر ذلك في افتتاحياتها ومقالات كبار الكتاب ورؤساء التحرير. كان العنوان الرئيس لجريدة الأخبار "الشعب أصبح مالكا لوسائل التوجيه الاجتماعي والسياسي". وجاء مانشيت الأهرام "الصحافة يملكها الشعب، قانون تنظيم الصحافة يضعها في مكانها كسلطة شعبية إلى جانب مجلس الأمة، ملكية الشعب لوسائل التوجيه هي العاصم الوحيد من الانحرافات"، وكان عنوان جريدة الجمهورية "الشعب يملك كل الصحف، الأهرام وأخبار اليوم وروزاليوسف ودار الهلال انتقلت ملكيتها بجيمع حقوقها والتزاماتها للاتحاد القومي، ونشرت الجمهورية نص القرار الجمهوري كاما في صفحاتها الداخلية.
التقى الرئيس عبدالناصر بعد صدور القرار والانتهاء من تشكيل مجالس إدارات المؤسسات الصحفية فتحدث عن الظروف التي اقتضت تنظيم الصحافة وقال إنه يعتبر الصحافة رسالة وليست سلعة أو تجارة ولم يكن مقصودا بهذا الإجراء أي فرد وإلا كنا تصرفنا مع هذا الفرد وليس مع الصحافة كمهنة وصناعة.
وأكد: لم نهدف إلى اغتصاب بضعة مباني، إنما نسعى لبناء مجتمع متحرر من الاستغلال، المؤكد أنه ليس مجتمع النوادي أو السهرات الليلية، فهذه ليست بلدنا بحال من الأحوال، إنما بلدناهي كفر البطيخ.. بلدنا القرية.. أي قريةهي نموذج لبلدنا. هناك مشاكل حقيقية لمن يريد أن يكتب، هناك العاملون تحت الشمس الحارقة، في الحقول والمصانع، بلدنا ليست قصة فلانة التي تطارد فلانا أو التي تركت علانا. كنت آمل أن تكتبوا عن العاملات اللائي يخرجن من بيوتهن للبحث عن لقمة العيش.. اللائي يكافحن بشرف، فا أظن أن مجتمعا نظيفا يشجع على الكتابة في موضوع الجنس الذي تنشر عنه الصحف.
بعد مرور كل هذه السنوات على تنظيم الصحافة يحق لنا أن نُقوّم ما حدث لكن ليس في هذا المقال بالتأكيد. إنما هنا نرصد بعض النتائج لتنظيم الصحافة._ لم يحظر القانون على الأفراد والشركات الخاصة والمساهمة إصدار الصحف لكنه قيد هذا الحق بالحصول على ترخيص من الاتحاد القومي وبالتالي جعل حق إصدار الصحف رهينة بالولاء السياسي للنظام.
مالك الصحافة الجديد
تخاذل في مراقبة إدارتها فتحولت إلى عزب لرؤسائها
_ نص على أن تباشر مجالس الإدارات جميع التصرفات نيابة عن الاتحاد القومي وقد أضعف هذا النص المضمون الإداري للقانون وبذلك فقد الاتحاد القومي وبعده الاتحاد الاشتراكي سلطته على المؤسسات الصحفية مما أدى إلى افتقاد الرقابة على رؤساء مجالس الإدارة ومجالس الإدارة وتكريس الإحساس لديهم بأن سلطتهم لا حدود لها وهو ما بدا وكأنه انتقال السلطة داخل المؤسسات الصحفية من ملاكها الأصلين إلى رؤساء مجالس الإدارة وهو ما نتج عنه الكثير من مظاهر الخلل والتعثر المالي والإداري.
_ أدى انعدام الرقابة على المؤسسات إلى ظهور مفهوم سيطرة رئيس مجلس الإدارة على كامل صلاحيات مجلس الإدارة.
تراجع دور الاتحاد الاشتراكي في تعيين مراجع الحسابات الخارجي بما يتنافى مع القواعد القانونية فصار المراجع يقدم تقريره إلى المؤسسة التي تحتفظ به بدون مراجعة
_ عدم التزام المؤسسات بعمل موازنات
_ غياب اللوائح التي تنظم العمل واختلافها بين كل مؤسسة والأخريات.
_ في غيبة المالك _ الاتحاد الاشتراكي_ تأثرت الاستثمارات الصحفية وتكررت المشروعات التي صارت با جدوى.
_ لم تشهد أساليب توزيع الصحف أي تطوير خال تلك الفترة وما بعدها مما أثر على نسب البيع.
_ تأثر المستوى المهني كثيرا نتيجة الرقابة الصارمة والممارسات السلطوية ضد الصحافة فتمحورت الصحف حول السلطة كما عكست سياساتها التحريرية موقفا مهادنا في معالجتها للقضايا المختلفة فتحولت إلى مجرد أداة تعبر عن مشروع السلطة وبذلك فقدت الصحافة المصرية قدرتها على التعبير عن المجتمع بكل طوائفه وتياراته السياسية والاجتماعية والثقافية وتحولت إلى أداة لتبرير وتفسير قرارات السلطة والدفاع عنها ومهاجمة أي تيارات أخرى تخالفها.
على مدى 60 عاما كانت هذه الكلمات مجرد لقطة صغيرة لما حدث للصحافة في مصر. ربما كانت الظروف في ذلك الوقت داعية للتأميم وربما كانت الصحافة بعد ثورة يوليو وحيت 1960 قد ارتكبت أخطاء، لكننا نرصد الواقع الحالي الذي كان نتيجة لستة عقود من التأميم لم تعد بعدها الصحافة في مصر كما كانت من قبل.. وللحديث بقية مفصلة
المقال ( نقلاً عن دار الهلال) للكاتب الصحفي رفعت رشاد رئيس تحرير مجلة أخر ساعة سابقاً