د.محمد فراج يكتب : أزمة الغذاء العالمية.. الأسباب الحقيقية وسبل المواجهة (٣-٣)
سد الفجوة الغذائية.. ضرورة قصوى للأمن القومى المصرى
تحدثنا فى المقالين السابقين من هذه السلسلة «الأموال- ١٩ و٢٦ يونيو» عن مظاهر وأسباب أزمة الغذاء العالمية الحالية.. وأشرنا فى عجالة إلى الأسباب العامة لتكرار الأزمات الغذائية بصورة شبه دورية، ثم ركزنا على أسباب الأزمة الأخيرة، وأكدنا أن تحليل الأسباب الحقيقية للأزمة وإبعادها عن التسييس وتوجيه الاتهامات إلى هذا الطرف أو ذاك بالتسبب فى حدوثها- بصورة غير صحيحة- أمر ضرورى للغاية ليمكن التعامل بصورة موضوعية مع الأزمة وإزالة أسبابها، بما يحقق إنقاذ عشرات أو مئات الملايين من البشر من مخاطر المجاعة أو انخفاض مستوى الأمن الغذائي بصورة خطيرة، فيما يؤدى التضليل عن الأسباب الحقيقية إلى ترك الأزمة تستفحل، بعيداً عن معالجة الأسباب التى أدت إليها.
وأوضحنا أن الأزمة الحالية بدأت بالفعل مع تفشى وباء «كورونا»، وما صاحبه من إغلاقات للمؤسسات الاقتصادية، وارتباك فى حركة النقل والتجارة العالمية، وانقطاعات فى سلاسل التوريدات، ثم زيادة التضخم فى اقتصادات الدول البرى، وانتشاره عبرها فى الاقتصاد العالمى كله، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية بدرجة كبيرة.
وأوضحنا أن نشوب الحرب الأوكرانية قد أدى إلى تفاقم الأمة بحكم أن روسيا هى أكبر مصدر للقمح فى العالم وأوكرانيا هى خامس المصدِّرين، نصيب إجمالى الدولتين يبلغ نحو ٣٠٪ فضلا عن إسهامهما بنحو ٢٧٪ من تجارة الشعير العالمية و١٧٪ من تجارة الذرة الصفراء، التى تحتل حوالى ٧٥٪ من أعلاف المواشى والدواجن فضلا عن إسهامهما بحوالى ثلاثة أرباع تجارة زيت عباد الشمس، بالإضافة إلى مساهمة روسيا بـ١٥٪ من صادرات الأسمدة الآزوتية و١٧٪ من تجارة أسمدة البوتاسيوم «الأموال- ٢٦/ ٦/ ٢٠٢٢».
كما أوضحنا دور العقوبات الغربية فى إعادة تصدير القمح الروسى فى ارتباط ذلك بإحجام السفن عن نقل السلع الروسية عموما، بسبب خطورة الوضاع فى البحر الأسود، فى ظل امتناع شركات التأمين وإعادة التأمين عن التعامل مع البنوك الروسية بسبب إبعاد أغلب هذه البنوك عن منظومة «سويفت» لتسوية المدفوعات، مما أدى لخفض شحنات القمح الروسية بدرجة كبيرة.
كما أدى تلغيم أوكرانيا لموانئها لمنع السفن الروسية من دخولها، وكذلك حصار الأسطول الروسى لتلك الموانئ إلى إعاقة الطريق الرئيسية لتصدير القمح الأوكرانى (٨ - ٩٪ من الصادرات العالمية)، وتحويل التصدير إلى موانئ رومانيا، وإلى التصدير بالطريق البرى عبر بولندا والمجر وسلوفاكيا، ما أثر على سهولة وصول الشحنات الأوكرانية إلى الأسواق العالمية
غير أننا رفضنا بصورة واضحة تحميل روسيا المسئولية عن الأزمة بصورة أساسية، فضلا عن المبالغات من قبيل ارتكابها «جريمة حرب غذائية» و«تجويع العالم» بسبب بضعة ملايين من الأطنان يتعطل تصديرها عن طريق الموانئ الأوكرانية، وأشرنا إلى دور العقوبات الغربية في مفاقمة أزمة الطاقة والغذاء، وارتفاع نسبة التضخم فى الاقتصاد العالمى إلى مستويات لم تحدث منذ أربعين عاما، الأمر الذى أدى إلي ارتفاع أسعار القمح مثلا بنسبة بلغت ٦٥٪ ـ خمسة وستين بالمائة» وارتفاع أسعار زيت الطعام بنسبة بلغت (٧٥٪ ـ خمسة وسبعين بالمائة) فضلاً عن ارتفاع تكلفة الشحن بسبب جنون أسعار الطاقة، وذلك بحلول نهاية مايو ٢٠٢٢ «سكاي نيوز عربية- ١٤/ ٦/ ٢٠٢٢- حديث للخبير الاقتصادى الزراعى الدكتور نادر نور الدين- نقلا عن أرقام المؤسسات الدولية المتخصصة».
الحل فى أيديهم
ومن ناحية أخرى فإن الدول الغربية الكبرى والغنية تسيطر على حوالى ٧٠٪ (سبعين بالمائة) من تجارة القمح العالمية، وتستفيد من ارتفاع أسعاره، إذ تُشير الأرقام إلى أنه إذا كانت روسيا قد ساهمت بـ٣٧ مليون طن وساهمت أوكرانيا بـ١٨ مليون طن حسب أرقام عام ٢٠٢٠ فإن كلا من أمريكا وكندا ساهمت بـ٢٦ مليون طن بمجموع ٥٢ «اثنين وخمسين مليون طن للدولتين» وفرنسا بحوالى ٢٠ مليون طن «عشرين مليون طن» واستراليا بأكثر من ١٠ ملايين طن «عشرة ملايين» وكذلك الأرجنتين «عشرة ملايين طن» وألمانيا بأكثر من تسعة ملايين طن «المصدر: الدستور ٣/ ٦/ ٢٠٢٢ نقلا عن الفاينانشيال تايمز».. أى أن الدول المذكورة تسيطر على أكثر من نصف تجارة القمح العالمية، وبما يقترب من ضعف مجموع صادرات روسيا وأوكرانيا معًا.. فأين دورها فى إنقاذ العالم من المجاعة؟
لهذا رأينا أن زعماء الدول النامية والفقيرة الذين كانوا مدعوين لحضور قمة الدول الصناعية السبع الكبرى GO7 كضيوف قد طالبوا الولايات المتحدة وكندا بصراحة ووضوح بالإفراج عن مخزونات القمح الهائلة لديهما وبيعها للدول النامية بأسعار مخفضة للحيلولة دون حدوث مجاعة، خاصة فى بعض الدول الأفريقية، إذ كانت القمة جادة في طرح حلول لهذه الأزمة «وننقل هنا بالنص عن جريدة الأهرام - ٢٨ يونيو ٢٠٢٢- الأهرام ووكالات الأنباء» وقد ذكرنا أعلاه أن الولايات المتحدة وكندا وحدهما تساهمان بما يقارب مجموع صادرات روسيا وأوكرانيا معا.. وإذا أضفنا مساهمة فرنسا «٢٠ مليون طن» وألمانيا واستراليا والأرجنتين «عشرة ملايين طن لكل منهما» فسيتضح لنا على الفور أن الدول الغربية الكبرى والغنية وخاصة أمريكا وكندا وفرنسا وألمانيا ـ قادرة علي تغطية أى نقص مؤقت فى الأسواق، خاصة وأن لديها مخزونات هائلة، كما أشار ضيوف قمة السبع الكبار، وأن لديها كلها القدرة على نجدة الدول الفقيرة والأشد فقرا فى افريقيا وجنوب آسيا «مثل سريلانكا، وبنجلاديش، ونيبال وبورما» بدلا من ذرف دموع التماسيح على عشرات الملايين الذين يواجهون المجاعة!
والواقع أن فى ظل الارتفاع الكبير للغاية فى أسعار القمح والحبوب وغيرها من السلع الغذائية فإن وضع الدول الفقيرة والأشد فقرًا بل وبعض الدول متوسطة الدخل من الشريحة الأدنى قد أصبح بالغ الصعوبة، الأمر الذى يقتضى تقديم مساعدات دولية عاجلة وسخية إليها، وأن يتم هذا خارج الأطر التقليدية محدودة الأثر، لأن حجم الأزمة كبير وموارد الدول الفقيرة تعجز عن المواجهة الفعالة للمشكلة.
وعلاوة على المساعدات السخية والمنسقة، فإن الدول الغنية ومنظمات التمويل الدولية مدعوة لتأجيل سداد القروض المطلوبة من الدول الفقيرة، وشطب أجزاء ملموسة منها.
كما أنه لابد من تخفيف جذرى لشروط مؤسسات التمويل الدولية وخاصة صندوق النقد الدولى و«روشتته» الشهيرة المفرضوة على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية، مقابل حصولها على القروض، مثل رفع الدعم عن السلع الأساسية والسلع الغذائية بصورة أخص، ولو لعدة سنوات، وإلاّ فإن العواقب الإنسانية والاجتماعية ـ بل والسياسية ــ ستكون وخيمة، وسيدفع ثمنها العالم كله، فى صورة اضطرابات مؤثرة على الاستقرار السياسى، وهجرات اقتصادية غير شرعية، وحركات نزح واسعة داخل الدول.
مصر والفجوة الغذائية
والواقع أن تكرار الأزمة الغذائية العالمية خلال أقل من عقدين (٢٠٠٨ - ٢٠١٦ ثم الأزمة الحالية) بفرض على الدول النامية مثل مصر «فضلا عن الدول الفقيرة والأشد فقرًا» انتهاج سياسات اقتصادية وخاصة فى مجال الزراعة تساعدها على سد الفجوة الغذائية خلال أقصر فترة ممكنة، لأن تكرار الأزمات الغذائية العالمية يمكن أن يفرضها لأوضاع بالغة الصعوبة ليس من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية فحسب.. على أهميتها البالغة بل وأيضا من الناحية السياسية، سواء من ناحية الاستقرار وعلاقته بالأمن القومى، بل وأيضا من ناحية تعرضها لضغوط على إرادتها واستقلالها، حتى لو توافرت الأموال، لأن تجارة السلع الغذائية ليست مجرد مسألة تجارية، بل إن لها أبعادها السياسية والاستراتيجية، خاصة وأن كبرى الدول المنتجة للسلع الغذائية الأساسية فى العالم هى إما دول كبرى «كالولايا المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وغيرها» أو أنها دول مرتبطة بتحالفات دولية وعلاقات متشابكة مع الدول الكبرى،، مما يجعلها عرضة للتأثير على مواقفها.
وبالنسبة للدول العربية بما فيها مصر فإن الأرقام تشير إلى أنها تستورد حوالى ٦٥٪ من احتياجاتها من السلع الغذائية الاستراتيجية «الأهرام ـ ٣٠ مارس ٢٠٢٢» وهو رقم يمثل وضعا غير مريح على الإطلاق بالنسبة للأمن الغذائى الذى يمثل أحد الوجوه بالغة الأهمية للأمن القومى، مما يستوجب ضرورة الاهتمام بالتعامل معه وتعديله بأسرع ما يمكن.
والمؤكد أن هذا يتطلب ضرورة إعادة هيكلة الزراعة لصالح إنتاج السلع الأكثر أهمية «وخاصة القمح والأرز والذرة والذرة الصفراء، والحبوب الزيتية مثل عباد الشمس وغيرها، من ناحية والنظر فى إعادة توزيع الاستثمارات بما يحقق هذا الهدف، والأمن الغذائى عموما من ناحية أخرى.
فنحن نستورد حوالى ١٢ مليون طن من القمح سنويا، أى حوالى ثلثى استهلاكنا، وهذا وضع يجيب تغييره من خلال التوسع فى زراعة القمح علي حساب محاصيل أقل أهمية، وكذلك من خلال التوسع الرأسي بتطوير الإنتاجية.
وإذا كنا وضعنا آمنا من حيث احتياطيات القمح بالرغم من الأزمة العالمية، إلاّ أن تكلفة الاستيراد الكبير فى ظل ارتفاع الأسعار تمثل عبئا على اقتصادنا، وضغطا على مواردنا من العملة الصعبة، وهذا وضع غير مريح.
من ناحية أخرى فإن تشجيع الفلاحين على زراعة القمح وتوريد أكبر نسبة ممكنة من الإنتاج يقتضى رفع أسعار شراء المحصول منهم وهنا نلاحظ أن سعر شراء الدولة للأردب من أفضل نوعية «نقاوة ٢٣.٥ قيراط» يبلغ ٨٨٥ جنيها للأردب «وزن ١٥٠كجم» هذا الموسم، أى أن سعر شراء الطن من الإنتاج المحلى أقل قليلا من سبعة أرادب يبلغ حوالى ٥٩٠٠ جنيه، بينما يبلغ ثمن الطن عند تاجر الجملة ٨٣٠٠ جنيه من القمح الروسى والألمانى والليتوانى (٨٢٥٠ جنيها) للطن من القمح الأوكرانى «الدستور ـ ١٢ مايو بالنسبة لأسعار التوريد المحلية، ومصراوى ومباشر وغيرها» ـ «وموقع أسواق» بالنسبة لأسعار القمح المستورد، ويعنى هذا أننا ندفع ثمنا للطن من القمح المستورد أكثر بـ٢٤٠٠ جنيه مما دفع ثمنا للقمح المحلى، وهذا يعنى أننا ندعِّم الفلاح الأجنبى على حساب الفلاح المصرى، وهو وضع ينبغى تعديله تشجيعا للفلاح على زراعة القمح وعلى توريده للدولة، لأن بعض الفلاحين يمكن أن يستخدموا جزءا من إنتاجهم كعلف للمواشى! نظرا لارتفاع أسعار العلف وهذا وضع ينبغى إنهاؤه بأسرع ما يمكن.
الذرة الصفراء أيضا من الحبوب بالغة الأهمية كعلف للحيوانات والدواجن ونحن نواجه فجوة فى إنتاجها يبلغ ١٠.٥ مليون طن نحتاج لاستيرادها بالدولار «المصرى اليوم، ١٥ مارس» مما يؤثر على أسعار العلف بشدة، وبالتالى على أسعار اللحوم.
كما تواجه مصر فجوة فى إنتاج زيوت الطعام «عباد الشمس والكتان وبذرة القطن وغيرها»، فقد استهلكنا عام ٢٠٢٠ كمية من الزيوت تبلغ ٢.٦٦ مليون طن استوردنا منها ١.٨٢ مليون طن «الأهرام، ٢٠/ ٤/ ٢٠٢٢».
وتمتد الفجوة الغذائية إلى إنتاج الفول المدمس الوجبة الأساسية لإفطار المصريين، و«العدس» وغيرها من المحاصيل التي يكلفنا استيرادها كثيراً.
ولن ندخل في مزيد من التفاصيل حول الفجوة فى إنتاج اللحوم الحمراء والأسماك وغيرها، فالأمر الرئيس الواضح هو ضرورة إعادة هيكلة الزراعة المصرية بما يقلل من الفجوة الغذائية ويحقق الأمن الغذائى لمصر، ويجنبنا تقلبات البورصات العالمية والسياسات الدولية، انطلاقا من أن الأمن الغذائى هو أحد الوجوه الأساسية للأمن القومى للبلاد.
وبديهى أن هذا يتطلب سرعة توجيه استثمارات إضافية كبيرة لتحقيق هذا الهدف بالغ الأهمية، وحماية وطننا من مخاطر الأزمات الغذائية المتكررة فى العالم.
حفظ الله مصر من كل سوء.