د.محمد فراج يكتب : أزمة الغذاء العالمية.. الأسباب الحقيقية وسبل المواجهة (٢)
أزمة الغذاء العالمية مشكلة خطيرة تهدِّد بحدوث مجاعة يعانى منها عشرات الملايين من البشر، وخاصة فى الدول الفقيرة والأشد فقرًا، ولذلك فإن الوقوف على أسبابها الحقيقية أمر ضرورى بصورة مطلقة، لكى يُمكن معالجة هذه الأسباب وحل الأزمة. ويفرض هذا التعامل بجدية وبمسئولية عن حياة البشر حينما يتحدث أى سياسى أو إعلامى أو خبير اقتصادى عن هذه المشكلة، وألا يتم استخدامها بصورة مغرضة لإدانة هذا الطرف أو ذاك، أو دعم وجهة نظر سياسية بعينها على حساب الحقيقة، لأن هذا يؤدى إلى توجيه الاهتمام والجهود فى اتجاه خاطئ، وترك المشكلة تتفاقم، والضرر يقع على ملايين البشر المطلوب إنقاذ حياتهم أو تخفيف الضرر عنهم.
ومعروف أن أزمات الغذاء تتكرر بصورة شبه دورية عمومًا لأسباب تتصل بالكوارث الطبيعية من جفاف أو فيضانات أو زحف التصحر على الأراضى الزراعية مما يؤدى لتدمير المحاصيل في بعض المناطق وذلك على خلفية زيادة السكان، وخاصة في الدول النامية والأشد فقرًا بنسبة تسبق زيادة الموارد الطبيعية وتطوير الإنتاج الزراعى، والأمر الأكثر أهمية هو أن السياسات الزراعية فى أغلب دول العالم تهدف لتحقيق الربح وخدمة مصالح الشركات العملاقة وكبار منتجى الحبوب ومختلف السلع الغذائية، أكثر مما تهدف إلى تلبية احتياجات أوسع جماهير السكان للغذاء بأسعار تتناسب مع دخولهم، وهذا حديث يطول شرحه، ولا يتسع له المقام هنا.
أما بالنسبة للأزمة الحالية، فالثابت أنها بدأت مع تفشى وباء «كورونا»، وما صاحبه من إغلاقات واسعة النطاق للمؤسسات الاقتصادية «بما في ذلك مصانع الأسمدة الضرورية للزراعة» والاضطراب الكبير في منظومة التجارة الدولية والنقل البحرى، فضلاً عن التضخم المرتبط بطبع كميات هائلة من النقود، وخاصة في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، وغيرها من الدول الغنية، وهو التضخم الذى فاقمت منه أزمة الطاقة العالمية المرتبطة بصورة وثيقة بالعقوبات الغربية ضد روسيا، ومن ثمَّ الارتفاع الهائل فى أسعار موارد الطاقة، ومختلف السلع الصناعية والزراعية، بما فيها المواد الغذائية بالطبع.
ثم جاءت الحرب في أوكرانيا والمواجهة الشاملة بين الغرب وروسيا، وما صاحبها من عقوبات اقتصادية قاسية، وارتباك فى سلاسل التوريد لتفاقم من هذه الأزمات المترابطة.. ولكن ليس لتخلقها أصلا، كما يحاول السياسيون والإعلاميون الأمريكيون والأوروبيون أن يقنعونا.ومعروف أن روسيا هى أكبر مصدِّر للقمح فى العالم بنسبة تبلغ حوالى ٢٠٪ من الصادرات العالمية، وأن أوكرانيا هى خامس أكبر المصدرين، بنسبة تتراوح بين (٨ - ٩٪)، كما يسيطر البلدان على ٢٧٪ من صادرات الشعير و١٧٪ من صادرات الذرة، التى تمثل ثلاثة أرباع مكونات أعلاف المواشى والدواجن، علاوة على إسهامهما بحوالى ٧٥٪ من زيت عباد الشمس، الأكثر استخدامًا فى العالم من أنواع الزيوت النباتية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن روسيا تصدِّر ١٧٪ من الأسمدة الأزوتية «النيتروچينية» و١٥٪ من أسمدة البوتاسيوم حسب المصادر الدولية (راجع «الأموال» - ١٩/ ٦/ ٢٠٢٢).
ونود أن نلفت النظر إلى خلط شائع فى عديد من الكتابات والتقارير، بين التصدير والإنتاج.. فكثيرًا ما يتم ذكر أرقام التصدير على أنها أرقام الإنتاج أو العكس، أما في الحقيقة فإن الصين والهند هما أكبر منتجى القمح في العالم على التوالى، لكن أعداد السكان الهائلة فيهما تجعلهما بحاجة لإنتاجهما «بالكامل تقريبا» ولا تصدِّران إلا كميات قليلة وغير مؤثرة، فى أعوام المحصول الوفير.
الأزمة بين الدعاية والحقائق
مع نشوب الحرب الأوكرانية كان من الطبيعى أن تتفاقم الأزمة الناشبة أصلا منذ أيام تفشى «كورونا»، وقد أعلن عدد من الدول المصدِّرة للقمح والحبوب عن وقف صادراتها مؤقتًا، أو فرض قيود عليها، خوفًا عن مواجهة نقص فى الإمدادات لديها، وكانت روسيا بين هذه الدول.. ثم عادت فخففت القيود، وأعلنت أنها لن تصدِّر إلا للدول الصديقة، وستمنع الصادرات عن الدول «غير الصديقة».. أى المشاركة في العقوبات ضدها.. واتخذت نفس الموقف فيما يخص الأسمدة. ولنلاحظ أن روسيا هى أكبر الدول المصدِّرة للقمح (٣٧.٥ مليون طن عام ٢٠٢٠ - مقابل ٢٦.١ مليون طن لأمريكا، و٢٦ مليون طن لكندا، و١٩.٧ مليون طن لفرنسا، و١٨ مليون طن لأوكرانيا).
غير أن الجزء الأكبر من الصادرات الروسية قد توقف بسبب العقوبات، وخاصة بسبب مصاعب حركة السفن في البحر الأسود في ظل مخاطر الحرب، وامتناع شركات التأمين وإعادة التأمين عن التعامل مع الشحنات الروسية، لهذا السبب وأيضًا بسبب إبعاد أغلب البنوك الروسية عن منظومة «سويفت».
أما أوكرانيا فقد قامت بتلغيم موانئها لمنع الأسطول الروسى من دخولها، كما فرض هذا الأسطول حصارًا بحريًا على تلك الموانئ، لكن من المهم ذكر أن صادرات القمح الأوكرانية لم تتوقف تمامًا، بل انتقل جزء منها إلى الموانئ الرومانية.. أو إلى التصدير بالقطارات عبر بولندا والمجر وسلوفاكيا.. وإن كان من المؤكد أن حركة هذه الصادرات قد ارتبكت.
وقد أشرنا فى الجزء الأول من هذا المقال «الأموال ١٩/ ٦» إلى حديث لوزير الزراعة الأوكرانى نفسه ذكر فيه أن إجمالى محصول الحبوب المخزون في بلاده «قد يصل» إلى ٢٣ مليون طن من القمح والشعير والذرة وبذور عباد الشمس وغيرها، منها «خمسة ملايين طن» لأزمة الاستهلاك المحلى، وبديهى أن الوزير الأوكرانى لن يقلل من حجم مشكلة بلاده، بل إن الأرجح أنه سيلجأ إلى تضخيمها.
< < <
ومن ناحية أخرى فإن الرئيس الروسى بوتين قدم اقتراحًا من شقين:
الأول: أن تقوم أوكرانيا بإزالة الألغام التي نشرتها حول موانئها.. ويفتح الأسطول الروسى ممرًا إنسانيًا لعبور شحنات القمح والحبوب وتوفير الحماية للسفن التى تنقلها، وهى مبادرة يفترض أن تشارك تركيا في تنفيذها، لأن المبادرة صدرت بعد محادثات بين بوتين وأردوغان.. علمًا بأن تركيا دولة عضو فى حلف «الناتو».
الشق الثانى: أن يتم رفع العقوبات عن روسيا، على أن تتعهد بتصدير ٥٠ مليون طن من الحبوب فورًا، فضلا عن الأسمدة التى أدى نقص إمداداتها إلى ارتفاع صاروخى في أسعارها، وأضاف بوتين نقطة أخرى إلى هذا الشق من مبادرته، تقضي برفع العقوبات الغربية عن بيلاروسيا لتقوم بتصدير ما لديها من أسمدة «وهى دولة متقدمة ومنتج معتبر فى هذا المجال» علاوة على ما لديها من مخزون القمح الذى لا تستطيع تصديره بسبب العقوبات الغربية الشاملة المفروضة عليها.
< < <
لكن أوكرانيا وأمريكا وبريطانيا، والدول الصناعية السبع الكبري، والمفوضية الأوروبية، كلها رفضت هذه المبادرة وطالبت روسيا برفع الحصار عن الموانئ الأوكرانية فورًا، مع رفض العرض الروسى بتوفير ٥٠ مليون طن من القمح فورًا، بالإضافة إلى ملايين الأطنان من الأسمدة.
وحملت تلك الدول كلها روسيا مسئولية الأزمة الغذائية المتفاقمة متهمة إياها بارتكاب «جريمة حرب» ودفع العالم نحو المجاعة.. وأصبحت هذه النغمة هى السائدة فى الإعلام الغربي وأحاديث السياسيين الغربيين خلال الفترة الأخيرة.
< < <
أسئلة لا يمكن تجاهلها
هنا تبرز أسئلة لا يمكن للمراقب الموضوعى أن يتجاهلها:
أولها: إذا كانت الصادرات العالمية من القمح تبلغ حوالى مائتى مليون طن، وإذا كان مخزون أوكرانيا من جميع أنواع الحبوب يبلغ- حسب شهادة وزير زراعتها نفسه (٢٣ مليون طن) منها خمسة مطلوبة للاستهلاك المحلى.. أى أن القابل للتصدير يبلغ (١٨ مليون طن).. وإذا كانت كل صادرات أوكرانيا تبلغ (١٨ مليون طن).. والموسم الآن فى نهايته، ويفترض أن يكون كل ما بقىَّ منها هو الربع أو الثلث.. فهل خمسة أو ستة ملايين طن من القمح هي التى ستتسبب في المجاعة العالمية؟!!
السؤال الثانى: إذا كان بوتين يعرض توفير ٥٠ مليون طن من القمح والحبوب، فضلا عن تسهيل خروج المخزون الأوكرانى (بمجموع يبلغ حوالى سبعين مليون طن).. فضلا عن الإفراج عن الصادرات الروسية الأوكرانية الضخمة من القمح والحبوب (حوالى ٥٥ مليون طن من القمح وحده - منها ٣٧.٥ مليون من روسيا و١٨ مليوناً من أوكرانيا) وفضلا عن الإفراج عن صادرات روسيا وأوكرانيا من بقية أنواع الحبوب، وعن زيت عباد الشمس (حوالى ٧٥٪) من الإنتاج العالمى.. وعن صادرات الأسمدة الروسية والأوكرانية البيلاروسية.. فهل هذا أكثر جدوى لحل الأزمة- أو على الأقل التخفيف منها بشدة- أم الإصرار على حصر القضية فى المخزون الأوكرانى؟!! علمًا بأن إنتاج روسيا المتوقع من القمح وحده هذا العام يبلغ ٨٧ مليون طن (RT - ٢٨/ ٣/ ٢٠٢٢)..
السؤال الثالث: وإذا كان الأمر كذلك فمن هو الطرف الذى يُصر على تعقيد الأزمة، ودفع عشرات الملايين من البشر نحو المجاعة؟!!
السؤال الرابع: إذا كانت أمريكا والدول الغربية تفرض العقوبات غير المسبوقة على روسيا وتعلِّن ليل نهار أن هدفها هو تدمير الاقتصاد الروسي، واستنزاف موسكو.. الخ.. علمًا بأن هذه العقوبات مفروضة خارج إطار الأمم المتحدة، وأغلب دول العالم ترفضها، وإذا كان هناك إقرار غربى عام حاليًا بأن العقوبات قد فاقمت الأزمة الاقتصادية العالمية، وانعكست سلبًا على الاقتصادات الغربية نفسها.. فهل من حق أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى والدول السبع الكبرى أن تتمسك باستمرار العقوبات.. وفي الوقت نفسه تطالب روسيا برفع حصارها عن الموانئ الأوكرانية دون مقابل؟؟!! أى أن تستسلم بهدوء للخنق والتدمير؟؟!! هل هذا من الواقعية في شىء، وخاصة في ظروف المواجهة الشاملة الجارية، والحرب المشتعلة؟؟!!
والسؤال الخامس: هل المطلوب إنقاذ حياة عشرات الملايين من البشر من غائلة المجاعة.. أم دفع روسيا وبوتين «بجريمة الحرب» والمسئولية عن تجويع الناس؟؟ ومن المسئول أصلا عن إشعال المواجهة الشاملة والحرب في أوكرانيا؟؟
ليست سياسة توسيع «الناتو» شرقًا ووضع ظهر روسيا للحائط هى المسئولة عن هذه المواجهة، والحرب التى تنعكس آثارها شديدة السلبية على العالم بأسره؟؟
وللحديث بقية عن انعكاسات هذه الحرب على مصر وعلى المنطقة.. وسبل تجاوز أزمة الغذاء العالمية.