أسامة أيوب يكتب : عندما يكون الوطن بالاختيار
لأن الوطن.. أى وطن هو الأرض التى يُولد ويعيش فيها مجموعة من البشر عبر مئات أو آلاف السنين، وصاروا شعبًا وعرقًا له سماته الجامعة وخصوصيته وعاداته وتقاليده المتوافق عليها وثقافته وآدابه وفنونه التى ينفرد بها ويتوارثها جيلا بعد جيل حتى صارت تراثه الحضارى الذى يعتز به، لذا فإن أبناء هذا الشعب هم أصحاب ذلك الوطن الذى ينتمون إليه دون اختيار.
أما أن تهاجر مجموعة من البشر من بلدانهم وأوطانهم التى وُلدوا فيها وعاشوا فيها أجيالا متلاحقة عبر مئات السنين ويغدوا إلى بلد آخر ثم يقرروا العيش والاستقرار فيها جيلا بعد جيل، فإن ذلك يعنى أنهم وجدوا فى ذلك البلد ما يجعله وطنًا بديلا لهم ولأولادهم وأحفادهم حتى صار وطنهم ليس بالانتماء أو العرق ولكن بالاختيار.
مناسبة هذا الحديث هى فيلم تسجيلى من إنتاج الهيئة الوطنية للإعلام بعنوان «وطن بالاختيار» والذى استوقفتنى فكرته ومحتواه وأعجبنى جدا عنوانه العبقرى بعد أن قادتنى المصادفة قبل أيام لمشاهدة قناة «نايل لايف» التى أفردت برنامجها للحديث عن الفيلم مع مخرجته حنان راضى ومدير إنتاجه إسماعيل يوسف.
<<<
موضوع الفيلم بالغ الأهمية لما ينطوى عليه من دلالات بالغة الأهمية أيضا، وأولها أنها تثير مشاعر الفخر والاعتزاز لدى أى مصرى لانتمائه لهذا الوطن.. مصر، التى قامت على أرضها أقدم حضارات الدنيا وأول حكومة مركزية فى التاريخ الإنسانى قبل آلاف السنين وقبل التاريخ ذاته.
الفيلم يستعرض ويرصد قصة الأجانب الذين عاشوا واستقروا وتوالدوا وعملوا منذ عقود فى مدينة الإسكندرية.. أقدم المدن المصرية المتحضرة وأعرقها والتى كانت ولاتزال توصف بعروس البحر المتوسط، وحيث كانت بمثابة مدينة «كوزمو بولتانية» جذبت إليها البشر من إقليمها ومن أنحاء العالم.
<<<
اللافت كما هو معلوم وحسبما أوضح الفيلم أن الغالبية العظمى من الذين استوطنوا الاسكندرية كانوا يونانيين وإيطاليين وأرمن، ومن بينهم استعرض الفيلم قصص ستة شباب من الجنسين.. تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين.. يمثلون الجيل الرابع والذين يمثلون امتدادًا لأجدادهم وآبائهم والذين قرروا الاستمرار فى الاسكندرية بعد أن صارت وطنهم بالاختيار.
اللافت أيضا أن هؤلاء الشباب من الجيل الرابع لم يغادروا الاسكندرية لزيارة أوطانهم الأصلية ولو لمرة واحدة وحتى الذين غادروا بسبب الدراسة فى الخارج سرعان ما عادوا لاستئناف حياتهم في وطنهم بالاختيار، وهم بذلك مثلهم كمثل أجدادهم وآبائهم الذين لم يفكر أغلبهم فى زيارة أوطانهم الأصلية بدافع الحنين إلى ذكرياتهم، وحيث بدا أن حنينهم بات متجذرًا فى الاسكندرية.. وطنهم بالاختيار.
بفعل هذا التجذر وبحكمه كان طبيعيًا أن تحدث حالات زواج بين اليونانيين والإيطاليين وبين المصريين فى الاسكندرية، وحيث شهدت الاسكندرية أجيالا خليطا من المصريين والإيطاليين واليونانيين، وقد كان أوضح مثال شخصية بشر التى أداها الفنان يحيى الفخرانى فى مسلسل «زيزينيا» للكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، إذ كان من أب مصرى وأم إيطالية.
فى مدينة الاسكندرية كان من المألوف جدا انتشار محال بقالة يمتلكها يونانيين ومطاعم ومتاجر يملكها إيطاليون، وأنا شخصيا شاهدت ذلك فى طفولتى وصباى فى الستينيات من القرن الماضى أثناء إجازة الصيف السنوية، وأحسب أن بقايا تلك المحال والمطاعم لاتزال موجودة ويعرفها جيدا أبناء الاسكندرية.
< <<
السؤال المنطقى هو لماذا عاش اليونانيون والإيطاليون فى الاسكندرية واستقروا فيها منذ عشرات السنين وعبر أجيال أربعة متلاحقة حتى صارت بالمعيشة وبالتقادم وبالزواج وبالميلاد وطنهم بالاختيار؟
الحقيقة أن ثمة إجابات كثيرة ومتنوعة من هذا السؤال قد يكون أولها أنها مدينة متوسطية تقع على الشاطئ الجنوبى للبحر المتوسط، ومن ثمَّ فإن ثمة خصائص سمات مشتركة وبين السكندريين بقدر الشبه بين البلدين وبين الاسكندرية من حيث الموقع على البحر وكذلك المناخ، ولذا فإنهم عندما يقفون على شاطئ الاسكندرية يرون أن البحر المتوسط يصلهم بشواطئ اليونان أو إيطاليا.
<<<
لكن لماذا اسكندرية تحديدا دون غيرها من المدن الساحلية المصرية المطلة على البحر المتوسط، ربما لأسباب تاريخية قديمة باعتبار أنها المدينة التى أسسها الاسكندرية الأكبر وربما لأنها إحدى منارات الحضارة العربية والإسلامية التى نقل منها وعنها الغرب عموما واليونان خصوصا الكثير من العلوم الحديثة التجريبية والإنسانية والاجتماعية بما فى ذلك الفلسفة التى نقل عنها ومنها فلاسفة اليونان، من أفلاطون وسقراط وأرسطو، وحيث كانت مكتبة الاسكندرية أكبر وأهم مكتبة فى العالم لما كانت تضمه من كتب ومراجع ومؤلفات فى كافة العلوم وحيث استفادت منها أوروبا بما فيها اليونان.
بالإضاف ةإلى كل ما سبق من أسباب تتبدى السمة المصرية المميزة بكسر الياء والمميزة بفتحها والتى تتسم بها مصر.. وطنا وبلدا وشعبا فى أى بقعة من أرضها.. فى الاسكندرية وكل مدنها وقراها وهى احتضان كل من يفد إليها.. طالبا اللجوء أو راغبًا فى العيش فيها، وذلك ما حدث مع اليونانيين والإيطاليين والأرمن وغيرهم من كل شعوب العالم.
وفى هذا السياق وحسبما رصد واستعرض ووثق ذلك الفيلم لتسجيلى المهم، فقد وجد هؤلاء بداية من الجيل الأول منذ عشرات السنين وحتى الجيل الرابع والأحدث فى الاسكندرية أبوابا واسعة للرزق الوفير وفرصا كبيرة وسانحة للعمل والتملّك وحيث صاروا جميعا من الطبقة الوسطى.. فى أعلي شرائحها بينما كثير منهم من الأثرياء، حتى الجيل الرابع من الشباب صار لهم «البيزنس» الخاص الربح وهو نجاح لا يتوفر لهم فى أوطانهم الأصلية بافتراض عودتهم إليها، وهنا أجدنى أتذكر وأذكر مقولة الإمام على بن أبى طالب «إن الفقر فى الوطن غربة والغنى فى الغربة وطن».
<<<
صحيح أن الاسكندرية فى تقديرى الشخصى على الأقل هى أجمل مدينة ساحلية مصرية على البحر المتوسط، ولها سحرها الجاذب جدا، ولعلى لا أبالغ إذا قلت إننى كنت ومازلت أحلم وأتمنى أن تكون وطنى الصغير وفى وطنى الكبير، لكن فيما يتعلق بهؤلاء الذين اختاروها وطنًا دائمًا فإنه من المؤكد أن ثمة شفرة مصرية سكندرية خاصة تنطوى على السر والسبب الحقيقى، والحقيقة أن هذه الشفرة وذلك السر تحتفظ بهما مصر وشعبها بتاريخها وبالجغرافية والحضارة والعراقة والكرم والقدرة الفائقة غير المحدودة والتى ليس لها مثيل على الاحتمال ومواجهة التحديات بكل صلابة فى أصعب الظروف منذ آلاف السنين.
.. ثم إنها مصر التى يتحيّر العالم فى تحديد انتمائها.. هل هي دولة عربية بانتمائها وهويتها العروبية وإسلامية بهويتها الاسلامية وانتمائها للعالم الإسلامي وبأزهرها الشريف.. كعبة المسلمين الثانية وبمكانتها العلمية والروحية فى قلوب مليارى مسلم، أم هى افريقية بوقوعها فى قارة افريقيا، أم هى متوسطية لوقوعها فى حوض البحر المتوسط، والحقيقة أنها كل ذلك.. عربية إسلامية افريقية متوسطية، ولذا كانت حاضنة لكل شعوب العالم ومصدرة لحضارتها لكل الدنيا.
<<<
عودة إلى الفيلم التسجيلى وعنوانه العبقرى «وطنى بالاختيار» وهو كما شاهدت البرنامج التليفزيونى الذى تحدث عنه على شاشة قناة «نايل لايف» من إخراج حنان راضى أو حنان محمد راضى ابنة المخرج محمد راضى شقيق الفنان سيد راضى، أى أنها من تلك العائلة الفنة التى تنتمى إليها أيضا المطربة المتميزة عفاف راضى وذلك ما أدركته حتى قبل أن تشير مقدمة البرنامج إلي أن المخرج من عائلة راضى بسبب الشبه الكبير والواضح بينها وبين عفاف راضى.. صوت وصورة، ومن الواضح بحسب البرنامج أنها مخرجة أفلام تسجيلية متميزة حيث حصلت على هذا الفيلم وفيلم آخر بعنوان «المتاهة على جنوب مصر» على عدة جوائز وتكريمات فى العديد من المهرجانات ومن كثير من الجهات والهيئات.
<<<
لكن من المثير للدهشة هو أن القناة التى أفردت أحد برامجها للحديث عن الفيلم لم تقم بإذاعته فى نهايته أو فى بدايته، وأحسب أنه يتعين على الهيئة الوطنية للإعلام أن تذيع هذا الفيلم على إحدى شاشات التليفزيون المصرى: الثقافية أو نايل لايف أو حتى نايل سينما ليشاهده المصريون أبناء الوطن بالانتماء ليزداد افتخارهم واعتزازهم بمصر التى اتخذها اليونانيون والإيطاليون وطنا بالاختيار.