د.محمد فراج يكتب : العقوبات الغربية ضد روسيا.. ثغرات كبرى وسلاح ذو حدين (١)
منذ الأيام الأولى لبدء تصاعد الأزمة الأوكرانية أعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها فى «الناتو» والاتحاد الأوروبى أنه فى حالة عبور القوات الروسية للحدود الأوكرانية سيتم فرض عقوبات اقتصادية شديدة الصرامة على روسيا من شأنها «خنق» الاقتصاد الروسى وإلحاق أضرار مدمرة به، بما يؤدى إلى إجبار موسكو على الانسحاب من أوكرانيا.. وصرح الرئيس الأمريكى بايدن قائلا: إن العقوبات الاقتصادية هى البديل لمواجهة عسكرية مع روسيا يمكن أن تؤدى إلى اشتعال حرب عالمية ثالثة.. وهو يقصد بالطبع اشتعال حرب نووية من شأنها أن تؤدى إلى تدمير العالم كله.
وهذا هو ما حدث فعلا.. فما إن بدأت الحرب حتى اتخذت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى وأغلب دول التحالف الغربى بما فيها كندا واليابان سلسلة من القرارات بفرض عقوبات اقتصادية صارمة وواسعة النطاق بصورة غير مسبوقة في التاريخ، بما فى ذلك تجميد الاحتياطيات الدولية الروسية في البنوك الغربية والبالغة (٣٠٠ مليار دولار تمثل نصف احتياطيات روسيا الدولة البالغة ٦٠٠ مليار دولار) وحظر تعامل عدد من أكبر البنوك والشركات الروسية مع نظام «سويفت» لتسوية المدفوعات الدولية وإغلاق أجواء وموانئ تلك الدول أمام حركة الطيران والسفن الروسية، وغيرها من الإجراءات التى تضمنتها خمس حزم من العقوبات، وجار إعداد الحزمة السادسة وما يليها..
وكان من الطبيعى أن ينعكس تأثير هذه العقوبات الصارمة والشاملة على مجمل العلاقات الاقتصادية الدولية، بحكم ضخامة الاقتصاد الروسي وما له من تشابكات واسعة النطاق بالاقتصاد العالمى فى ظل «الاعتماد المتبادل» الذى أصبح سمة أساسية لهذا الاقتصاد في عصر العولمة، وبصفة خاصة لما يتمتع به إنتاج روسيا من البترول والغاز من أهمية كبرى فى منظومة الطاقة العالمية. وبصورة أخص بالنسبة لاستهلاك دول الاتحاد الأوروبى من البترول والغاز الروسيين، وفى مقدمتها الدول الصناعية الكبرى كألمانيا وإيطاليا وفرنسا.
< < <
الاعتماد الأوروبى الكبير على واردات الطاقة الروسية كان أول عقبة اصطدمت بها رغبة الولايات المتحدة فى فرض «حظر فورى» من جانب الاتحاد الأوروبى على صادرات البترول والغاز الروسيين، فالاتجاه الأوروبى يعتمد على تلك الصادرات بنسبة ٤٠٪ (أربعين بالمائة) من استهلاكه من الغاز الطبيعى، ترتفع إلى ٥٥٪ (خمسة وخمسين بالمائة) فيما يخص ألمانيا، فضلا عن ٣٠٪ (ثلاثين بالمائة) من استهلاك دول الاتحاد الأوروبي من البترول.
وبديهى أنه لكى يتم الاستغناء عن هذه النسب الكبيرة من واردات الطاقة، فقد كان لابد من توفير بدائل لها، علمًا بأن العالم كان قد بدأ يواجه «أزمة طاقة» متصاعدة بسبب استئناف النشاط الاقتصادى بوتيرته العادية، بعد فترة الإغلاق التى استمرت حوالي عامين بسبب تفشى «كورونا» وكذلك بسبب زيادة الحاجة للاستهلاك لغرض التدفئة فى الشتاء، مما أدى إلى ارتفاع كبير فى أسعار البترول والغاز.
الثغرة الأولى فى جدار العقوبات
هنا ظهرت مشكلة كبرى، لأنه إذا كان من الممكن تدبير مصادر بديلة للبترول الروسى، وبتكلفة أكبر فإن تدبير البدائل لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، والدول المنتجة مرتبطة باتفاقيات للتصدير، وليس هناك فوائض تستحق الذكر في السوق، وزيادة الإنتاج تصطدم باتفاقات «أوبك بلاس/ أوبك +» وبخشية أهم الدول المصدرة من إغراق الأسواق بما يترتب عليه من انهيار للأسعار، وبفرض نجاح الضغوط الأمريكية والغربية على الدول المنتجة لزيادة إنتاجها بدرجة أو بأخرى فإن هذا أمر يحتاج إلى وقت، لا يمكن خلاله الاستغناء عن البترول الروسى إلا بتدرج محسوب بدقة.
إلا أن المشكلة الأكبر والأخطر هى مشكلة الغاز الطبيعى الروسى الذى تبلغ نسبة اعتماد الاتحاد الأوروبى عليه ٤٠٪ كما سبق ذكره و٥٥٪ بالنسبة لألمانيا، وهذا الغاز يتدفق على الدول الأوروبية بمد شبكات الأنابيب التي تربطها بروسيا المجاورة جغرافيا وتوفير البدائل هنا أمر بالغ الصعوبة، فإذا تحدثنا عن توفير البدائل عبر الأنابيب من مصادر قريبة جغرافيًا مثل ليبيا والجزائر فهذه مسألة تصطدم بضآلة حجم الإنتاج وطاقة الخطوط «ليبيا - عشرة مليارات م٣ سنويا» والجزائر «خمسة عشر مليار م٣» ويتناقص إنتاج الدول الأوروبية المنتجة كبريطانيا والنرويج.
أما البديل الآخر الذى يمكن الحديث عنه بدور أكبر من الجدية.. أى الغاز المسالة من أسواق جيدة مثل أمريكا وقطر ونيجيريا واستراليا وغيرها (أو من مصر.. وهى سوق قريبة لأوروبا) بتكلفة لا تقل عن ١٥٠٪ ويمكن أن تصل إلى أضعاف تكلفة الغاز الروسى، لأن نقله يحتاج إلى منشآت لتسييل الغاز، وناقلات لنقل الغاز المسال، ثم إلى منشآت لتحويله إلى غاز عادى قابل للنقل فى خطوط الأنابيب.. فضلا عن تطوير حقول الإنتاج أساساً بما يكفى لزيادته بحيث يفى بالاحتياجات الأوروبية، وهذه كلها أمور تحتاج إلى استثمارات هائلة، وإلى وقت لا يقل عن عدة سنوات فضلا عن ارتفاع التكلفة بما يؤدى إلى زيادة تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية والسلع المرتبطة باستهلاك الغاز المسال، بما يؤدى إلى إضعاف القدرة التنافسية للسلع فى الأسواق العالمية، فضلاً عن ارتفاع نسبة التضخم وما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية وسياسية.
ويقدر الخبراء الأعباء الإضافية التى ستتحملها الدول الأوروبية لتوفير بدائل للغاز الروسى بمئات المليارات من الدولارات، فضلاً عن صعوبة توفير الكميات المطلوبة، إذ تتعهد الولايات المتحدة بتوفير ١٥ مليار م٢ فقط سنويا، ويمكن أن توفر قطر مثل هذه الكمية أو أكثر منها قليلا «بالتدريج» وهكذا بينما تقدم روسيا ما يتراوح بين (١٥٠ إلى ١٦٠ مليار م٣) سنويا.. والفارق واضح.
الدفع بالروبل
ونظراً لأن روسيا لم يكن ممكناً أن تقدم غازها وبترولها مجاناً، فقد ظهرت على الفور ثغرة كبرى أخرى فى جدار عقوبة إبعاد البنوك الروسية عن نظام «سويفت» إذ اضطرت الولايات المتحدة لأن تكتفى بعرض هذه العقوبة الخطيرة على عدد محدود فقط من البنوك الروسية، بينما ظلت البنوك الأخرى معفاة من هذه العقوبة، لكى يتم عن طريقها دفع ثمن واردات البترول والغاز.
غير أن روسيا كانت تدخر مفاجأة كبيرة غير سارة للأوروبيين، فقد أصدر الرئيس الروسى بوتين قرارا بأن يتم دفع ثمن الصادرات الروسية من الغاز «للدول غير الصديقة» ــ أى الدول الغربية التى تفرض عقوبات على روسيا ــ بالروبل الروسى حصرًا.. وعن طريق بنك «جازيروم» التابع لمؤسسة إنتاج الغاز الكبرى المعروفة بنفس الاسم.. وبهذا تضمن روسيا وصول ثمن الغاز إليها مباشرة، وشراء المستوردين للروبل الروسى لدفع ثمن وارداتهم، وأعلن الاتحاد الأوروبى فى البداية رفضه القاطع لهذه الطريقة، غير أن موسكو أعلنت أنها ستقطع الغاز عن أى دولة لا تدفع بالروبل، وقطعت الإمدادات بالفعل عن كل من بولندا وبلغاريا لهذا السبب.. وكانت النتيجة أن عشرات الشركات الأوروبية الكبرى الممثلة لأغلب البلدان الأوروبية اضطرت لفتح حسابات لدى بنك «جازيروم» وكانت النتيجة أن الروبل الروسي قد ارتفع سعر صرفه تدريجيًا إلى (٥٧ روبلا مقابل الدولار) بعد أن كان قد تهاوى إلى حوالى (١٤٠ مقابل الدولار) في بداية صدمة العقوبات، ليصبح الروبل هو أفضل العملات فى العالم أداءً أمام الدولار..
وللحديث بقية..