د. أحمد علي سليمان يكتب : كيف نتوضأ لشهر رمضان؟
ربما يسترعى عنوان هذا المقال انتباه القارئ الكريم، ويتساءل: هل ثمة فرق بين وضوء الصلاة، ووضوء رمضان؟! أم أن ذلك من قبيل الدعابة المصطلحية أو من فصيل البلاغة المجازية؟.
لقد شاءت إرادة الله الحكيم أن تسير الحياة على نحو متدرج في جُلِّ شيء تقريبًا، بدءً من أطوار خلق الإنسان، مرورًا بشتى مراحل حياته، حتى مماته. وقد أقر الله تعالى للإنسان منهج التدرج في التشريع، وفي الحياة عمومًا، بعيدًا عن الطفرات المعنوية والحسيّة والمادية، التي لا يتحمل وطأتها كثيرٌ من الناس..
كل ذلك في سبيل تربية المسلم تربية إيمانية على أسس ربانية، تتناسب وإمكاناته العقلية والروحية والجسمية، وبما تؤهله وتساعده لإعمار الكون والحياة وفق منهج الله، حيث شرَّع الأحكام على نحو فريد في التدرج، كما في تحريم الربا والخمر... إلخ.
وكما جعل الله تعالى إسراء نبيه الكريم من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى مقدمة للمعراج، وجعل معراجه في السموات وما رأى فيها من آيات الله الكبرى مقدمة للقاء الله العظيم.
كما جعل الحق سبحانه للعبادات والشعائر مقدمات تعد بمثابة التأهب والتدرج والاستعداد.. فمقدمة الصلاة –على سبيل المثال- الوضوء والآذان والذكر، ومقدمة الزواج الخِطبة، ومقدمة الحج الإحرام والذكر والتأهب والتجرد من علائق الدنيا.
وكذلك شهر رمضان له مقدمات ينبغي أن تسبقه -وهو ما نعنيه بوضوء شهر رمضان- وهو بمثابة التأهب والاستعداد، الذي ينقلنا من حال إلى حال أفضل مع الله الجليل سبحانه وتعالى.
وفي هذا الوقت الذي نعيشه الآن، نتوضأ لشهر رمضان الكريم المبارك الذي اختاره الله تعالى لينزّل فيه القرآن الكريم على رسوله الأمين... قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ..) (185 سورة البقرة).
نتوضأ له.. ونتأهب له.. ونستعد له.. ونستمد له.. بالإكثار من ذكر الله تعالى، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وإذا كانت مؤسسات الدول تستعد فترة طويلة لاستقبال شخص عزيز من الناس، فحري بنا أن نستقبل شهر رمضان استقبالا يليق به.. يليق بمقامه ومكانه ومكانته عند الله تعالى.. لاسيما وأن هذا الضيف الكريم هو مبعوث رب العالمين لصالح المؤمنين، يأتي في العام مرة واحدة.
ليطهر القلوب والوجدان والأجسام والإنسان من الأدران والشوائب المعنوية والحسية، فإنه يجب علينا أن نتوضأ له ونستقبله بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله -عز وجل- ومراقبته في السر والعلن، وترك الذنوب والمعاصي ما ظهر منها وما بطن؛ حتى نفوز ونحوز رضا الله في الدنيا والآخرة، وننعم بالسعادتين وبالنظر إلى وجه الله الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولنعلم أيها السادة أنه إذا وقف العباد فى ساحة الحساب يوم القيامة كان للعبد المؤمن عند الله تعالى شفيعان يشفعان له: ما هما؟ إنهما: (القرآن والصيام)، يقول القرآن: يا رب لقد منعته النوم ليلا فشفعني فيه، ويقول الصيام: يا رب لقد منعته الطعام والشهوة نهارًا فشفعني فيه، فيقبل الله شفاعتهما فيشفعان للعبد.
نتوضأ له، ونستقبله بالتحلي بصبر الصدق، وصدق الصبر، والشكر والورع والمراقبة والدعاء والإخلاص لله تعالى رب العالمين.
نتوضأ له ونستقبله بالابتعاد عن الإسراف والتبذير... وأن نضع في اعتبارنا ونحن نأكل وأمامنا ألوان من الأطعمة والأشربة ألا ننسى أن هناك مَن لم يجد معشار معشار هذه الأطعمة، ومن ثم نشكر الجليل على عطائه ونعمائه، ونُشعِر أولادنا بذلك، وعلينا أن ندعم اليتامى والفقراء والجمعيات الخيرية ونُغيث المكروبين في كل مكان.
نتوضأ له ونستقبله بأن يضع كل واحد منا لنفسه خطة في هذا الشهر الفضيل (فك الكروب - إصلاح بين الناس– جبر الخواطر – إماطة الأذى عن حياة الناس والمخلوقات.. الإبداع في إسعاد خلق الله ومخلوقات الله... إلخ).
وإذا كان الشخص منا يستطيع أن يمتنع عن الحلال فمن باب الأولى أن يمتنع عن الحرام؛ لذلك نتوضأ له ونستقبله بالتخلي والتخلص من أمراض القلوب، مثل: الكبر، والغرور والرياء، والحسد، والغل، والحقد، والبغض، والكراهية. ونتخلص أيضا من أمراض الجوارح: (العين، واللسان، والبطن، والأذن والفرج...) وأن نرد المظالم إلى أصحابها، ونطلب الغفران من الله والعفو من أصحابها.
نتوضأ له ونستقبله بأن نفتح باب عودة المياه إلى مجاريها مع الأهل والأقارب والجيران وزملاء العمل... ونفتح أبواب المودة والجود والكرم والسخاء بين الناس وبما لا يكلفهم أو يرهقهم، فقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أجود الناس وَكَانَ أجود مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ.
وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْانَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أجود بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" (متفق عليه). ويقول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ فَطَّرَ صَائمًا، كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أجْر الصَّائمِ شيءٍ) (أخرجه الترمذي) .
وفي ظل هذه الظروف الحالية التي يعيشها العالم، فإن هناك عشرات الأبواب ما تزال مفتوحة لفعل الخيرات، ومنها: (التوسعة على الفقراء، والمساكين، وعمال اليومية، ومَن توقفت أعمالهم، ومَن ضاقت به السُّبل، ومَن تضررت مصالحهم وأحوالهم...).
نتوضأ لشهر رمضان ونستقبله بأن نتحرك في سبعة خطوط متوازية، وهي:
الخط الأول: إصلاح الشخص علاقته مع الله سبحانه وتعالى، ومن ثم يعيش في (سكينة، واطمئنان، وخشوع وخضوع وتذوق طعم الإيمان وحلاوته)
الخط الثاني: إصلاح الشخص علاقته مع أهله (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)
الخط الثالث: إصلاح الشخص علاقته مع أقاربه وذوي رحمه.
الخط الرابع: إصلاح الشخص علاقته مع كل الناس.
الخط الخامس: إصلاح الشخص علاقته مع صحته النفسية والروحية والجسدية
الخط السادس: إصلاح الشخص علاقته مع عمله ورؤسائه وزملائه
الخط السابع: إصلاح الشخص علاقته مع شتى مفردات الطبيعة والكون.
إن رمضان أيها السيدات والسادة يحوّل الصائم المخلص من إنسان عادي، إلى إنسان فيه بعض الصفات الملائكية حيث (لا طعام، ولا شراب، ولا شهوة، ولا غِيبَة، ولا نميمة، ولا جدال...) فحرِّي بالصائم أن يُخلص كل أقواله وأعماله لله ليعيش في رحاب جناب الجليل جل وعلا :
(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (الأنعام: 162-163).
فاللهم أصلحنا في هذا الشهر الكريم وبهذا الشهر الفضيل، وأصلح لنا، وأصلح بنا، وأصلح أولادنا، وأصلح مَن حولنا، وأعنّا يا ربنا على صيام نهاره، وقيام ليله
وتقبل منَّا يا رب.