د.محمد فراج يكتب : فشل «خطة اصطياد الدب الروسى» (1)
«توسع الناتو».. والرغبة الأمريكية فى السيطرة على موارد الطاقة
الهدف الكبير.. ثروات هائلة من البترول والغاز فى سيبيريا والقطب الشمالى
الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى هو فى جوهره صراع من أجل السيطرة على الثروات والموارد الاقتصادية والأسواق، والمواقع الاستراتيجية التى تتيح الدفاع عن هذه السيطرة، أو انتزاعها من أيدى الآخرين لصالح الأقوى، وضمان الاحتفاء بها أو توسيعها على حساب القوى الأخرى.
والجيوش والأحلاف العسكرية والتكتلات السياسية والاقتصادية، ومؤسسات التمويل الدولية وغيرها من أشكال القوة الصلبة والناعمة هى أدوات فى هذا الصراع من أجل السيطرة على الثروات والموارد الاقتصادية والأسواق.
ولذلك فإنه حينما انتهت الحرب الباردة بانتصار العسكر الغربى، وحل حلف وارسو (1989) وتفكك الاتحاد السوفيتى (1991) كان المفروض منطقياً أن يفقد حلف «الناتو» وظيفته المعلنة.. أى «مواجهة الخطر السوفيتى» خاصة أن روسيا قد دخلت طوال تسعينيات القرن الماضى، فيما يمكن تسميته «رحلة الغيبوبة التاريخية» تحت حكم بوريس يلتسين.. ووقعت فى حالة من التبعية شبه الكاملة للولايات المتحدة، والدول (الأطلسية) الكبرى، ودخل اقتصادها فى حالة انهيار شامل.
ولكن لأن القاعدة فى الصراع الدولى هى «الويل للمهزوم» تماما كما فى الغابة - فإن ما حدث هو انتهاج الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين لاستراتيجية «توسيع الناتو شرقاً» بحيث يتم ضم كل دول أوروبا الوسطى والشرقية الأعضاء فى حلف وارسو المنحل وكل ما يمكن ضمه من الجمهوريات السوفيتية السابقة، المجاورة مباشرة لروسيا وإحكام الحصار على روسيا نفسها، وإضعافها إلى أقصى حد ممكن، بل وتقسيمها على أسس قومية وعرقية ودينية إن أمكن (الحركة الإرهابية فى الشيشان وشمال القوقاز) وعزلها عن جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية (السوفيتية السابقة) وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا (فى القوقاز).. وفى هذا السياق تم إلحاق جمهوريات البلطيق الثلاث (استونيا ولاتفيا وليتوانيا) «بالناتو» - (2004) وإشعال «الثورات الملونة» فى أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزستان.. وإحاطة الدب الروسى بحلقة محكمة من الدول المعادية، الأعضاء في «الناتو» أو المتحالفين معه (فى آسيا الوسطى) لمنع أي إمكانية لاستعادة روسيا فى المستقبل لوضعها ليس كدولة عظمى، بل حتى كدولة كبرى.
رقعة الشطرنج الكبرى
بل إن المنظرين الاستراتيحيين الأمريكيين طرحوا مهمة تقسيم روسيا كهدف ينبغى السعى إليه.. ونشر المنظر الاستراتيجى الكبير (زبيجينيو بريجينسكى) - وهو مستشار سابق للأمن القومى فى عهد الرئيس كارتر - ويمكن مقارنة أهميته بهنرى كيسنجر الاستراتيجى الأمريكى الأشهر- نشر كتاباً بالغ الأهمية عنوانه: «رقعة الشطرنج الكبرى» دعا فيه إلى تقسيم روسيا لثلاث دول: الجزء الأوروبى وسيبيريا والشرق الأقصى ليسهل لأمريكا السيطرة عليها، واستغلال ثرواتها الطبيعية الهائلة، وتحويلها إلى سوق للمواد الخام المعدنية والزراعية، ولتوزيع البضائع الأمريكية! وقد صدر الكتاب عام (1997) ولقى انتشاراً واسعاً فى أوساط النخبة السياسية والعسكرية والبحثية الأمريكية.
ومعروف أن النخبة الوطنية الروسية من رجال الدولة وضباط الجيش والمخابرات ومهندسى الصناعات العسكرية والقضائية والمثقفين قد تمكنت من الإطاحة بالرئيس العميل والمخمور دائماً- بوريس يلتسين، وعصابة الصهاينة مزدوجى الجنسية المحيطة به، وتنصيب فلاديمير بوتين رئيساً للبلاد مع آخر أيام عام 1999.. الأمر الذى مثل انقلاباً فى مسار روسيا التاريخى، وليس بنقل بوتين وحده - مع التسليم بمواهبه القيادية والاستراتيجية الفذة - ولكن أساساً بفضل انسجام وتماسك هذه النخبة الوطنية التى أطاحت بيلتسين وعصابة الصهاينة والفاسدين المحيطين به.
وقد قضى هذا التحول التاريخى على أحلام المنظرين الاستراتيجيين الأمريكيين بتقسيم روسيا على النحو الذى طرحه (بريجينسكى) - ثم كانت (الصدفة التاريخية) بارتفاع أسعار البترول فى بداية القرن، فرصة تاريخية كذلك لإعادة بناء الاقتصاد والقوات المسلحة اعتماداً على الموارد الضخمة التى وفرتها صادرات روسيا من البترول والغاز الطبيعى.
استعادة البترول الروسى
ومن الأهمية بمكان كبير جداً أن نشير إلى أن هذه العملية ارتبطت باستعادة الدولة الروسية للسيطرة على شركات البترول الكبرى، التى كانت قد تم خصخصتها لصالح المليارديرات الصهاينة مزدوجى الجنسية (روسية - إسرائيلية) مثل بيريزوفسكى (شركة سيب نفط / نفس سيبيريا) وخودوركوفسكى (شركة بوكوس).. وكان الأخير يخطط لبيع شركة «بونكوس»- التى تنتج ما يقارب إنتاج دولة كالكويت- لشركة شيفرون الأمريكية، بوساطة (جورج بوش الأب) الرئيس الأمريكى الأسبق، ووالد الرئيس (وقتها) جورج بوش الابن.. فضلاً عن تطلعات الشركات الأمريكية مثل (تكساكو) لشراء حصص أغلبية فى شركات مثل «روسنفط» و«لوك أويل» وغيرها، أو شرائها بالكامل.. وهو ما أوقفه بوتين ورفاقه بالاستيلاء على هذه الشركات لصالح الدولة، مقابل الضرائب ورسوم التصدير، التى لم يكن يتم تحصيلها فى عهد يلتسين وعصابته، والتى كانت قيمتها تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، أى أكثر من قيمة أسهم الشركات المذكورة، فضلاً عن محاكمة هؤلاء المليارديرات الفاسدين، بتهمة التهرب الضريبى والتهرب من سداد رسوم الصادرات، وأشكال أخرى من الفساد، ولولا ذلك لكانت الشركات البترولية الأمريكية الكبرى قد وضعت أيديها على ثروات البترول والغاز الروسية الهائلة، بما لها من أهمية استراتيحية لا حدود لها.
والغريب أن الإعلام الغربى قد تجاهل كل هذه الحقائق، وأخذ يتحدث وقتها عن «المصادرة» وعدم احترام قوانين السوق، بل و«معاداة السامية» فى روسيا، لأن هؤلاء المليارديرات كانوا من أتباع الديانة اليهودية!! دون اعتبار لأنهم صهاينة ومزدوجو الجنسية (إسرائيليون - روس).. وفاسدون حتى النخاع، وناهبون لأموال الدولة والشعب.
والحقيقة أنه بدون ما ذكرنا حول استعادة سيطرة الدولة على ثرواتها ومواردها الطبيعية الهائلة، لم يكن ليمكن إعادة تنظيم الاقتصاد وإعادة بناء القوات المسلحة وتحديث الترسانة النووية والصاروخية الروسية.. وهو ما سمح (لبوتين) بأن يقف فى مؤتمر ميونيخ للأمن والتعاون فى أوروبا (2007) ليعلن رفض روسيا لتوسيع «الناتو» باتجاه الشرق ولانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، وليدعو إلى نظام عالمى متعدد الأقطاب.
وصحيح أن روسيا لم تتمكن من الحيلولة دون انضمام دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا واستونيا) للانضمام إلى حلف «الناتو» - (2004).. ولكن استعادتها لقوتها مكنتها من منع انضمام جورجيا للحلف (2008).. ومن دعم حركة قوية استقلالية فى (أوستينيا الجنوبية) و(إنجازيا) اللتين انفصلتا عن جورجيا، وانضمتا إلى روسيا فى معاهدات دفاعية جعلت موسكو تسيطر على الركن الشمالى الشرقى للبحر الأسود (بانضمام إنجازيا) وتوسع ساحلها على هذا البحر ذى الأهمية الاستراتيجية البالغة بدرجة كبيرة.
استعادة القرم
كما أن استعادة روسيا لقوتها العسكرية والاقتصادية هى التى مكنتها من استعادة شبه جزيرة القرم إلى أراضيها (2014) حينما أطاح حكام أوكرانيا الموالون للغرب، بالرئيس المنتخب (بانوكوفيتش) وأعلنوا إلغاء إتفاقية كانت تقضى بتأجير قاعدة (سيناستوبول) البحرية لروسيا حتى عام (2042) «ألفين واثنين وأربعين».. وهى القاعدة الرئيسية للأسطول الروسى على البحر الأسود منذ القرن الثامن عشر.. ومنفذ روسيا إلى المياه الدافئة، علماً بأن شبه جزيرة القرم هى أصلاً أرض روسية تنازل عنها الزعيم السوفييتى (أوكرانى القومية) خروشوف لأوكرانيا بقرار إدارى لم يتم التصديق عليه قانوناً من البرلمان ثم عاد يلتسين (فتركها) لأوكرانيا، عام (1991).. مع أن (75٪ خمسة وسبعين فى المائة من سكانها من الروس).. ثم جاء حكام أوكرانيا الجدد والموالون للغرب ليلغوا اتفاقية تأجير قاعدة (سيفاستوبول) إلى روسيا، معلنين أنهم سينضمون إلى حلف شمال الأطلنطى «الناتو» الأمر الذى كان يعنى خنق روسيا، ومجىء الأساطيل الأطلسية إلى جوار الحدود الروسية مباشرة.. وهو ما لم يكن يمكن لروسيا أن تقبل به، خاصة أن شبه جزيرة القرم هى جزء من أراضيها تاريخياً ، وحتى عام (1954) حينما منحها خروتشوف لأوكرانيا، إدارياً وليس قانونياً، وحينما كانت أوكرانيا جزءاً من الاتحاد السوفيتى السابق، وليست دولة أخرى.
ومرة أخرى لو لم تكن روسيا قد استعادت قوتها والسيطرة على ثرواتها لما كان ممكناً أن تستعيد (القرم) وأن تعطل خطة انضمام أوكرانيا إلى «الناتو».. وأن تصمد فى وجه عقوبات اقتصادية قاسية فرضتها عليها أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى منذ عام (2014) حتى الآن.
الدونباس .. فحم وحديد وصناعة
جانب آخر من الصراع بين روسيا والغرب حول أوكرانيا يتصل بمنطقة (الدونباس) .. أى مقاطعتا (دونيتسك) و(لوجانسك) الأوكرانيتان سابقاً، واللتان أعلنتا انفصالهما عن أوكرانيا منذ عام (2014) وتأسيس جمهوريتين شعبيتين مستقلتين بنفس الاسمين.. ويمثل الروس والناطقون باللغة الروسية الأغلبية الساحقة من سكان الجمهوريتين الواقعتين فى جنوب شرق أوكرانيا، والمجاورتين مباشرة للحدود الروسية.
السلطات الجديدة الموالية للغرب، والتى تولت الحكم بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب (يانوكوفيتش) (فبراير 2014) اتخذت قراراً بإلغاء استخدام اللغة الروسية كلغة رسمية ثانية (أكثر من 20٪ من سكان أوكرانيا من أصل روسى، والغالبية العظمى من سكانها يتحدثون باللغة الروسية)- كما اتخذت قراراً بإغلاق المدارس التى يجرى فيها التعليم بالروسية، وإغلاق الصحف والقنوات التلفزيونية الناطقة بالروسية، الأمر الذى كان يتناقض مع الدستور الأوكرانى ومع اتفاقية إعلان استقلال أوكرانيا وكلاهما ينص على احترام الحقوق الثقافية لسكان الدونباس، وفى مقدمتها حقهم فى استخدام لغتهم الأم وتعليم أبنائهم بها.
إعلان استقلال جمهوريتى (دونيتسك) و(لوجانسيك) كان بمثابة كارثة اقتصادية لأوكرانيا لأن الجمهوريتين تمثلان الجزء الأكبر من منطقة (الدونباس) التى تملك الجزء الأعظم من إنتاج الفحم فى أوكرانيا، وكذلك من الحديد، فضلاً عن ثروتهما الزراعية الكبيرة (حقوق القمح) وعن الصناعات الثقيلة والمتقدمة الموجودة بهما، وفى مقاطعة (خاركوف) الواقعة شمالى (لوجانسيك) وسكانها هى الأخرى ذوو أغلبية روسية أو ناطقة بالروسية، ومن ثم فهى مرشحة لانتقال عدوى الانفصال إليها.. علماً بأن منطقة (الدونباس) كلها ترتبط بوشائج قوية للغاية بروسيا، لأنها كانت جزءاً منها حتى عام (1922) حين قرر الزعيم السوفيتى لينين نقل تبعيتها لأوكرانيا، بما في (الدونباس) من صناعة وطبقة عمالية غالية، سعياً لإضفاء طابع عمالى (بروليتارى).. حسب الخطاب السياسى وقتها.. على الجمهورية السوفيتية الأوكرانية التى كان الطابع الزراعى يغلب على اقتصادها ومجتمعها.. ولكى تكون المنطقة الغربية من (الاتحاد السوفيتى) ذات طابع عمالى واشتراكى بما يخدم أهداف الدفاع عن الحدود الغربية للبلاد.
وصحيح أن نقل تبعية (الدونباس) من روسيا إلى أوكرانيا قد تم حسب الأصول القانونية والدستورية فى حينه.. وفى إطار دولة واحدة هى (الاتحاد السوفيتى) لكن هذا لا ينفى الروابط القومية والاجتماعية والثقافية مع روسيا عبر الحدود.. ولا ينبغى غلبة الأصول واللغة الروسية على سكان المنطقة.. وضرورة أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار من جانب أى سياسى حصيف فى كييف، خاصة مع الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية العالقة (للدونباس).
وما حدث هو أن كييف وجهت جيشاً إلى المنطقة.. ونشبت حرب أهلية، ذهب ضحية لها أكثر من (13 ألف مواطن أوكرانى).. ولم يكن بوسع روسيا أن تترك مواطنيها يواجهون الجيش والميليشيات - التى وجهتها إليهم كييف- وحدهم سواء بحكم اعتبارات الترابط القومى، أو بحكم اعتبارات هيبة الدولة العظمى التى استعادت قوتها.. أو بحكم مخاطر هذا الوضع على الأمن القومى الروسى، إزاء حكم جديد غيّر الدستور، وأدرج فيه مادة تنص على ضرورة انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو».
وللحديث بقية