د.محمد فراج يكتب : الاقتصاد العالمى يدفع ثمن العقوبات الأمريكية ضد روسيا
زيادة التضخم.. وتباطؤ النمو.. بالأرقام الرسمية
جوتيريش: «إعصار الجوع» يهدد الدول الأشد فقراً واستقرارها السياسى
تحدثنا فى المقالين السابقين (الأموال - 6 و 13 مارس) عن «ثغرات كبيرة فى جدار العقوبات الغربية ضد روسيا» وأشرنا إلى أن الاعتماد الأوروبى الكبير على الغاز الطبيعى الروسى (40٪ من الاستهلاك تزداد إلى 55٪ بالنسبة لألمانيا) وصعوبة إيجاد البدائل، فضلاً عن إمدادات البترول الروسى إلى أوروبا (نحو 3 ملايين برميل يومياً) قد أجبرت الولايات المتحدة على التراجع عن خططها لعزل روسيا بصورة تامة عن نظام «سويفت» وترك عدد كبير من البنوك الروسية فى إطار النظام لتسوية مدفوعات الواردات الأوروبية من الطاقة الروسية بصفة أساسية فضلاً عن السلع الأخرى التى لم تشملها العقوبات.. كما تحدثنا عن الرفض الصينى المتوقع للالتزام بتلك العقوبات.. وهو ما تأكد خلال الأيام الماضية بصورة رسمية، وبغض النظر عن التهديدات الأمريكية وكذلك عن المبادلات التجارية بالعملات الوطنية.. أى خارج نظام «سويفت» مع دول كالصين والهند وفيتنام وإيران وتركيا وغيرها.. وانتهينا إلى نتيجة مؤداها أن تلك العقوبات (بما فيها تجميد حوالى نصف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزى الروسى فى الخارج) ستكون لها نتائج مؤلمة على الاقتصاد الروسى، إلا أنها لن تصل إلى حد «تدميره» أو «شله» كما هدد الولايات المتحدة وبريطانيا بصورة أساسية وكبرى دول الاتحاد الأوروبى بدرجة أقل من الحدة والصخب.
إلا أن من الضرورى أن نشير إلى أن «الحرب الاقتصادية» التى أعلنتها الولايات المتحدة وحليفاتها ضد روسيا، وما سبقها من توتر شديد على الحدود الروسية الأوكرانية وتهديدات أمريكية وأطلسية لروسيا، تم عقوبات قاسية ضدها ونشوب الحرب نفسها وتصاعد العقوبات كلها لها انعكاساتها الكبيرة الفورية ومتوسطة وبعيدة المدى على الاقتصاد العالمى كله. كما أن بعضها سيكون سلاحاً ذا حدين ضد روسيا من ناحية، والدول التى فرضت العقوبات من ناحية أخرى، وخاصة تلك التى مضت بعيداً في العقوبات وفى مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا.
الطاقة.. والتضخم العالمى
أول الانعكاسات كان فى مجال أسعار الطاقة ومعروف أن فك حالة الإغلاق المرتبطة بكورونا قد أدى إلى زيادة كبيرة فى أسعار الغاز الطبيعى والبترول، بسبب ارتفاع الطلب عليها من ناحية، والنقص الكبير فى الاحتياطيات والمخزونات الأوروبية من ناحية أخرى، حتى أصبح الحديث عن «أزمة الطاقة» ضمن المفردات التى تتردد يومياً فى الاعلام وأحاديث رجال الاقتصاد منذ عدة شهور.
ثم أدى تصاعد التوتر على الحدود الروسية - الأوكرانية وتهديدات أمريكا بحصر واردات البترول والغاز من روسيا بما لها من وزن كبير فى الاستهلاك الأوروبى وفى السوق العالمية عموماً.. إلى قفزة كبيرة فى الأسعار، بحيث اقتربت أسعار البترول من ملامسة حدود الـ(140 دولاراً) للبرميل من خام برنت.. كما اقتربت أسعار العقود الآجلة للغاز من (ثلاثة آلاف دولار للألف متر المكعب من الغاز).. وصحيح أن تأكيد روسيا التزامها الوفاء وتعاقداتها، وتأكيد أوروبا أنها لا تستطيع الاستغناء عن واردات الغاز الطبيعى والبترول الروسيين، وتراجع أمريكا عن عزل البنوك والشركات الروسية بالكامل عن نظام «سويفت» كلها أمور قد أدت إلى تراجع الأسعار نسبياً.. وهو ما ساهم فىه أيضاً تأكيدات واشنطن و«الناتو» على عدم التدخل المباشر فى الحرب، ورفض بعض الأفكار غير المسئولة من قبيل فرض حظر جوى فى سماء أوكرانيا مما كان يهدد نشرب صدام مباشر مع روسيا، ومن ثم احتمال اشتعال حرب عالمية - صحيح أن كل هذه العوامل أدت إلى انخفاض أسعار الطاقة نسبياً، إلا أن أسعار البترول ظلت تتذبذب بين (المائة والمائة وعشرة دولارات) كما أن أسعار الغاز ظلت تتذبذب فوق الألفى (2000 دولار) للألف متر المكعب.. مما أدى لرفع تكلفة إنتاج السلع عموماً باعتبار أن الطاقة هى أحد أهم مدخلات الإنتاج - كما أدى إلى زيادة تكلفة النقل، ومن شأن ذلك كله زيادة التضخم فى الاقتصاد العالمى إجمالاً من (2.6٪ - اثنين وستة من عشرة) كما كان متوقعاً هذا العام بسبب تأثيرات كورونا إلى (4.2٪ أربعة واثنين من عشرة فى المائة) بسبب الحرب وما رافقها من توتر وارتفاع فى تكلفة الطاقة.. وإلى انخفاض توقعات النمو الاقتصادى العالمى من (4٪ - أربعة بالمائة) إلى (2.8٪ - اثنين وثمانية من عشرة بالمائة) وذلك حسب تقديرات «لجنة السوق المفتوح الفيدرالىة الأمريكية» - (الأهرام - 17 مارس 2022) وهو ما أدى لاضطرار الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى (البنك المركزى) لرفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ (2018) .. وهو ما ستضطر إليه أغلب الاقتصادات العالمية، وستكون له آثاره السلبية على الاستثمار.
وحتى بفرض استمرار أسعار البترول فى الانخفاض (والغاز بدرجة أقل) فإن وكالة الطاقة الدولية تحذر من أنه سيعاود الارتفاع كما تحذر من «صدمة إمدادات» - «الأهرام - 17/3» علما بأن روسيا عقدت صفقة ضخمة مع الصين وأخرى مع الهند بأسعار تفضيلية مما يعطى بكين ميزة تنافسية فى مواجهة الدول الصناعية الأخرى فضلاً عن ضمان استمرار تدفق البترول والغاز الروسيين إليها (1.6 مليون ب/ى من البترول) والاتفاق على زيادة صادرات الغاز من (28 مليار م3 سنوياً إلى 38 مليار متر مكعب) قابلة للزيادة.
أوروبا تدفع الثمن
وكل هذه المعطيات ستدفع ثمنها الاقتصادات الأوروبية الكبرى وخاصة الاقتصاد الألمانى، علماً بأن الدمار الذى يلحق بالاقتصاد الأوكروانى سيصل هذا العام إلى أكثر من (ثلث الناتج المحلى الإجمالى) حسب تقدير خبير اقتصادي عالمى كبير هو الدكتور محمد العريان (المصرى اليوم 16 مارس) الذى يؤكد أيضاً أن الاقتصادات الأوروبية ستعانى أكثر من الاقتصاد الأمريكى.. وربما تنزلق إلى الركود.. بينما صعب أن يفلت اقتصاد الولايات المتحدة من الآثار السلبية للتضخم وإن كان أداؤه سيظل أفضل نسبياً من أداء الاقتصادات الأوروبية (لمصرى اليوم - 16/3).
ومن ناحية أخرى فإن الدول الأوروبية - وخاصة ألمانيا - هى التى سيتعين عليها استيعاب الأعداد الكبيرة من اللاجئين الأوكرانيين الذين بلغ عددهم حتى الآن (ثلاثة ملايين لاجئ) بينما الحرب لاتزال فى بدايتها .. وأوضح أن العدد سيتجاوز التقديرات الأولية، التى كانت تصل إلى أربعة أو خمسة ملايين لاجئ.. ومفهوم أن هؤلاء لن يستقروا فى دول العبور الفقيرة (مثل بولندا ورومانيا ومولدوفا) - وإنما ستكون وجهتهم النهائية دولاً غنية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها.. علما بأن بريطانيا من الدول الأعلى صوتاً فى التصعيد وفرض العقوبات بين كل دول أوروبا - قد بدأت على الفور فى وضع العقبات أمام وصول اللاجئين الأوكرانيين إليها، تاركة عبء استيعابهم للدول الأوروبية الأخرى!! وبديهى أن هذا ما سيحدث أيضاً حينما يحل أوان إعادة الإعمار، كما تشير الخبرة التاريخية مع بريطانيا أما أمريكا فتعتمد على القيام بدور رمزى فى كل هذه المحاولات.
العالم الثالث.. وأزمة الغذاء
من ناحية أخرى فإن روسيا هى أكبر مصدر للقمح والحبوب فى العالم.. تليها أوكرانيا، وخاصة لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا كما أن أوكرانيا من أكبر مصدرى الذرة والزيوت النباتية (زيت عباد الشمس) وكذلك السكر، وقد أعلنت الدولتان عن وقف تصدير القمح والحبوب والزيوت النباتية والسكر لعدة شهور كما أن موسم إنتاج وحصاد القمح فى أوكرانيا قد تعرض لكارثة بسبب الحرب فضلاً عن حصار موانيها، وتعرضها لآثار الأعمال الحربية، ويؤدى هذا لارتفاع كبير فى أسعار القمح والمواد المذكورة التى كانت مرتفعة أصلاً بسبب كورونا وكوارث الجفاف فى عدد من البلدان، مما يضطر الدول التى تعتمد على روسيا وأوكرانيا ضرورة إيجاد بدائل ستكون بالضرورة أكثر تكلفة بسبب أسعار قمحها من ناحية وتكلفة الشحن من ناحية أخرى (استراليا ، كندا ، الأرجنتين ، أمريكا وغيرها).. ولذلك كله آثاره على التضخم بالتأكيد.
أما الدول الأشد فقراً، وخاصة فى إفريقيا، فإن أمين عام الأمم المتحدة (أنطونيو جوتيريش) يتحدث عن «إعصار جوع» سيصيبها وسيكون له تأثير على استقرارها السياسى.. كما يشير إلى أن مؤشر منظمة الأغذية الزراعية العالمية الفاو» قد وصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، مما سيكون له تداعياته على العالم بأسره (الأهرام - 16/3).
حدود القدرة الأمريكية
وإذا كانت الدول الأوروبية قد فرضت على أمريكا ترك ثغرة كبيرة فى نظام «سويفيت» كما اتخذت موقفاً واضحاً بشأن إمكانية انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبى بدون استيفاء الشروط الضرورية، فإن دول «الأوبيك» هى الأخرى قد رفضت الضغوط الأمريكية لزيادة إنتاجها وإغراق أسواق البترول بصورة تلحق أضراراً فادحة بروسيا.. بدعوى حل مشكلة الطاقة الأوروبية لأن إغراق الأسواق يلحق ضرراً شديداً بالدول المنتجة كلها، ليس بروسيا وحدها.. فضلاً عن أنه لا يحل مشكلة أوروبا الأساسية- نغمة إمدادات الغاز الطبيعى.
وهكذا أعلنت دول «الأوبيك» وفى مقدمتها السعودية والإمارات تمسكها بحصص الإنتاج المتفق عليها فى إطار المنظمة، وكذلك فى إطار (أوبيك بلاس) أو (أوبيك +) التى تضمها هى وروسيا وعددا من البلدان الأخرى وهذه هى المرة الأولى التى تقول فيها (أوبيك) لأمريكا : «لا».. بهذا الوضوح بعد أن تساوقت معها مراراً من خلال العقود والسنوات الماضية (وآخرها عام 2014 حين استعادت روسيا شبه جزيرة القرم) وتعرضت لخسائر ضخمة بسبب هذا التساوق.. ولم تجد من أمريكا إلا كل إهمال لمصالحها.
أما الآن فإن العالم يتغير فعلاً.. ويكفى أن نشير إلى التقارير التى تتحدث عن التفاوض بين السعودية والصين حول الاتفاق على شراء البترول (باليوان) الصينى.. وإذا حدث هذا فسيكون ضربة قاسية للدولار الأمريكى المعتمد كعملة لتقويم أسعار البترول، وشرائه فى السوق العالمية، وسيمثل ثغرة خطيرة قابلة للتكرار، سواء من جانب الدول المنتجة للبترول، أو فيما يتصل ببيع وشراء سلع أخرى، مما يعرض الدولار لفقدان هيمنته على أسواق المال والتجارة العالمية.
ومن ناحية أخرى فإن تجميد الولايات المتحدة لاحتياطيات روسيا الدولية - وهى دولة عظمى - سوف يمثل رسالة لا يمكن تجاهلها للدول الأخرى التى تستثمر فى سندات الخزانة الأمريكية، وفى السوق الأمريكية عموماً، بما يمكن أن يحدث لأموالها واستثماراتها إذا اختلفت مع أمريكا.. ولاشك أن هذا سينعكس أيضاً على بريطانيا، التى تبدى حماساً خاصاً لمسايرة أمريكا فى مجال العقوبات .
أما تجميد ومصادرة أموال واستثمارات كبار رجال الأعمال الروس فى كل من بريطانيا وأمريكا بدعوى قربهم من الكريملين، فهى الأخرى إجراءات تمثل رسالة لا يمكن تجاهلها لكبار رجال الأعمال والمستثمرين الخليجيين وغيرهم بما يمكن أن يصيب أموالهم فى حالة اختلاف أمريكا أو بريطانيا مع دولهم.. ونعتقد أن هذا سيترتب عليه انسحاب تدريجى لاستثمارات هؤلاء من السوق الأمريكية والبريطانية وتوجيهها لبلدان أكثر أمناً، أو للاستثمار فى بلادهم.
ولابد من الإشارة إلى أن الصين ستكون هى الرابح الأكبر من كل هذه التطورات .. وأنها ستعزز اقتصادها ومكانتها فى مواجهة أمريكا.. والمؤكد أن هذا آخر ما يتمناه الساسة الأمريكان والغربيون.. ولكنه ما سيحدث.