د. محمد فراج يكتب : توجهات الحكومة العراقية الجديدة.. قضية تهم مصر والعرب (٢-٢)
تحدثنا في مقالنا السابق "الأموال- ٩ يناير" عن النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية العراقية والسيناريوهات الممكنة لتشكيل الحكومة العراقية، والتأثيرات المحتملة لهذا التشكيل على توجهات سياسة البلاد، وما يستحقه ذلك كله من اهتمام مصرى وعربى كبير، نظراً للأهمية التى يتمتع بها العراق فى المعادلة الاستراتيجية للمنطقة، وللعلاقات المتنامية بسرعة بين القاهرة وبغداد، على مختلف الأصعدة.
وأشرنا إلى تعقيد عملية تشكيل الحكومة بالنظر إلى توزيع مقاعد البرلمان «ثلاثمائة وتسعة وعشرين/٣٢٩ مقعدا» بين عدد كبير من الأحزاب وإلى اختلاف مواقف تلك الأحزاب تجاه عديد من القضايا، الأمر الذى يجعل عقد التحالفات بينها أمرًا ليس باليسير إطلاقا.. وذلك كله بالإضافة إلى الطابع الطائفي للنظام السياسى بمجمله، بما فى ذلك البرلمان والتوزيع الطائفى للمناصب السياسية الكبرى، الذى يقضى بأن تكون رئاسة الحكومة للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة، ورئاسة الجمهورية للأكراد، وما تفرضه كل هذه الاعتبارات من مشاورات «ومناورات» معقدة لتشكيل المؤسسات القيادية للسلطة بصورة تستجيب لعلاقات القوى الانتخابية من ناحية و«التوازن» الذى يفرضه الدستور الطائفي من ناحية أخرى.. إذ يفرض الدستور مثلا أن يكون لرئيس البرلمان «السنى» نائبان أولهما شيعى والثانى كردى وأن يكون لرئيس الجمهورية «الكردى» نائبان مختلفى الطائفة، وكذلك لرئيس الحكومة، ثم يأتى توزيع الوزارات السيادية، وهكذا.. وفى كل هذا ينبغى مراعاة «المحاصصة» الطائفية والأوزان الانتخابية للأحزاب.
وقد انعقدت الجلسة الأولي للبرلمان العراقى الجديد فى «٩ يناير» الجارى، حيث تمت إعادة انتخاب رئيس البرلمان المنقضية ولايته «محمد الحلبوسى» زعيم كبرى الكتل السنية - كتلة «تقدم» بعد جلسة عاصفة شهدت مناوشات ومشادات ساخنة حول كل شىء تقريبا.. وحصل الحلبوسي علي أغلبية كبيرة «مائتى صوت»، بينما حصل نائبه الأول «شيعى من التيار الصدرى» على ٢٨٢ ونائبه الثانى «كردى من الحزب الديمقراطى الكردستانى» على مائة وثمانين (١٨٠) صوتا..
ونحن نذكر كل هذه التفاصيل التى قد تبدو غير ذات أهمية، لأنها مهمة بالفعل فى انعكاسها علي توزيع بقية المناصب.
تشابكات معقدة وتأثيرات متبادلة
وللتوضيح نذكر أن الفوز الكبير الذى حققه محمد الحلبوسى لم يكن يتيسر تحقيقه دون تفاهم مع التيار الصدرى، وهو الأمر الذى سينعكس بصورة أو بأخرى فى التصويت على رئاسة الحكومة، كما أن فوز ممثل للحزب الديمقراطى الكردستانى «بزعامة مسعود برزانى» بمنصب النائب الثانى لرئيس البرلمان يصب بصورة أو بأخرى في مصلحة إعادة انتخاب الرئيس الحالى برهم صالح «الاتحاد الوطنى الكردستانى» كرئيس للجمهورية لولاية ثانية، حيث إن برهم صالح ينتمى إلى ثانى أهم الأحزاب الكردية، وأن حزب «برزانى» يسيطر علي إقليم كردستان ورئاسة الحكومة فيه، وليس مقبولا أن يستأثر بكل المناصب الأكثر أهمية فى الإقليم، وعلى المستوى الاتحادى، ولا يترك منصبا رئيسيا واحدا لمنافسه التاريخى.. وهذا ما سارت عليه التقاليد خلال الفترة الماضية، حيث كان الزعيم التاريخى «للاتحاد الوطنى» جلال طالبانى رئيسا لفترتين، تلاه فؤاد معصوم ثم برهم صالح.. ويتميز «الاتحاد الوطنى» بأنه أقرب إلى الطابع الوطنى العراقى.. بينما يميل «الحزب الديمقراطى/ بارزانى» إلى الطابع الكردي القومي الضيق، وهو أكثر ارتباطا بالسياسة الأمريكية، كما تربط قياداته علاقات تاريخية بإسرائيل والحركة الصهيونية وهو الأمر الذى يجعل التيارات الوطنية العراقية تنظر إليه بقدر كبير من الارتياب وعدم الارتياح.. وبالتالى فإن هذه التيارات الوطنية «فضلا عن الأحزاب الشيعية الموالية لإيران» تنظر بقدر كبير من التحفظ لرغبة «الحزب الديمقراطى/ البارزانى» في تولى أحد زعمائه برئاسة الجمهورية.. وتفضل كثيرا الرئيس برهم صالح، الذى قام بمهام منصبه بكفاءة مشهودة خلال ولايته الأولى، وأبدى انفتاحا ملحوظا على علاقات العراق العربية، وتحررا من الطابع القومى «الكردى» الضيِّق الذى تتسم به قيادات «الديمقراطى الكردستانى».
وبناء على ذلك فإن التيار الصدرى والسنة وأغلب الأحزاب ذات التوجهات الوطنية والعروبية ستكون أكثر استعدادًا لممارسة الضغوط على «برزانى» للتخلى عن ترشيح أحد زعمائه لرئاسة الجمهورية، ولدعم برهم صالح كرئيس لولاية ثانية.. وهو ما سينجم أكثر مع مواقف التيار الصدرى، ومع تعزيز علاقات العراق العربية، وذلك بالرغم من معرفة الجميع بأن رئيس الحكومة ــ وليس رئيس الجمهورية ــ هو الذى يحدّد طابع السياسة الخارجية وتوجهاتها.
وإذا لم يستجب «الحزب الديمقراطى» لرغبة التيارات الوطنية والعروبية فى هذا الشأن فإنه من الممكن إسقاط مرشحه للرئاسة، برغم ما قد يثيره ذلك من مشكلات فى علاقات التيارات الوطنية بحزب بارزانى، وإن كان من المرجح أن يتم حل المشكلة من خلال ضغوط الكواليس، لتفادى حدوث مواجهات حادة.
وربما لهذا السبب لم يسارع البرلمان إلى فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية وتأجلت جلسات المجلس منذ الأحد، حتى كتابة هذه السطور «مساء الأربعاء ١٢/١» لإفساح المجال للمشاورات «والمناورات» المعقدة في الكواليس.
رئاسة الحكومة
رئاسة الحكومة هى السلطة العليا فى البلاد، ورئيس الحكومة هو القائد الأعلي للقوات المسلحة، ويقضى الدستور بأن يقوم رئيس الجمهورية ـ بعد انتخابه ـ بتكليف «الكتلة الأكبر» فى البرلمان بتشكيل الحكومة، ويقتضى الأمر توضيح أن «الكتلة الأكبر» ليست الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية، وإنما الحزب أو التكتل الذي يحظي بدعم الأغلبية «مائة وخمسة وستون مقعدا من ثلاثمائة وتسعة وعشرين» أو القادر على حشد هذه الأغلبية، فإذا لم يتمكن هذا الحزب أو التكتل من تشكيل الحكومة خلال ثلاثين يومًا والحصول علي ثقة مجلس النواب يقوم رئيس الجمهورية بتكليف ثانية الكتل الحائزة على دعم أكبر عدد من النواب.
وقد ذكرنا فى مقالنا السابق أن التيار الصدرى حصل على ٧٣ مقعدًا وأنه يحظى بدعم الكتلتين السنيتين الرئيسيتين (٥١ مقعدًا) والعدد الأكبر من المستقلين (٣٠ - ٤٠ مقعدًا) والحزب الديمقراطى الكردستانى (٣١ مقعدا) والاتحاد الوطنى الكردستانى (١٧ مقعدًا) وعدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى.. أى أنه يتمتع بأغلبية مريحة لتشكيل الحكومة.. وهذا هو السيناريو المرجح جدًا، حتى لو خسر التيار الصدرى دعم «الديمقراطى الكردستانى/برزانى» بسبب مشكلة رئاسة الجمهورية السابق الإشارة إليها، كما أنه يستطيع الحصول على دعم هذا الحزب أو ذاك من «الإطار التنسيقى» الذى يضم الأحزاب الطائفية الموالية لإيران، بمنحه حقيبة وزارية أو أكثر إذا اقتضت الضرورة ذلك.
غير أن أحزاب «الإطار التنسيقى» الموالية لإيران دأبت على إثارة قضية خلافية مؤداها أنه مادام رئيس الحكومة ينبغى أن يكون شيعيا فإن الأحزاب الشيعية وحدها هى المعنية باختياره.. وبالتالى قضية «الكتلة البرلمانية الأكبر» وليس البرلمان بأكمله!! وهذا ما حاولت تمريره قبيل تكليف مصطفى الكاظمى برئاسة الحكومة الأخيرة، حيث أرادت فرض مرشح من صفوفها ضد الكاظمى الذى كان يحظى بتأييد أوسع من قوات شيعية وغير شيعية، لكن رئيس الجمهورية «برهم صالح» رفض تكليف مرشح الأحزاب الطائفية.. استنادا إلى أن البرلمان يمنح ثقته للحكومة بأغلبية أصواته كلها، وليس النواب الشيعة وحدهم، وهو الموقف الذى أيدته المحكمة الاتحادية.
ويوم افتتاح البرلمان (٩ يناير) عادت الأحزاب الطائفية إلى محاولة تكرار هذه اللعبة بتقديم طلب لرئاسة البرلمان «بتوقيع ٨٨ نائبا» باعتبار أن «الإطار التنسيقى» هو الكتلة البرلمانية الأكبر، التى ينبغي تكليفها بتشكيل الحكومة، ولم يجمع التيار الصدرى سوى ٧٦ صوتا شيعيا، فأخذت الأحزاب الطائفية تروِّج لأنها تمثل «الكتلة الأكبر» ومن حقها تشكيل الحكومة!! والواقع أن هذه المناورة محكوم عليها بالفشل، لأن المؤيدين للتيار الصدرى عددهم أكبر بكثير، وبالتالى فإن الحكومة التى يدعمها الصدريون هى المرشحة للحصول على ثقة البرلمان، وليست الحكومة التى تشكلها الأحزاب الطائفية.
وبتعبير آخر فإن أى مناورات أو مماحكات من جانب الأحزاب الموالية لإيران سيكون محكوما عليها بالفشل في النهاية، ويظل التيار الصدرى هو الحائز على الدعم الذى يسمح له بتشكيل الحكومة، سواء من خلال تكليف «مصطفى الكاظمى» أو أى شخصية أخرى يختارها التيار. وتنفذ برنامجه، الذى تتمثل أهم نقاطه فى رفض استمرار العراق كساحة للصراع الأمريكى - الإيرانى على النفوذ، وفي انتهاج سياسة منفتحة على المحيط العربى، وحصر السلاح بيد الدولة، وإخضاع الميليشيات لسيطرة الدولة من خلال تطهيرها وإلحاقها بالقيادة العامة للقوات المسلحة بالكامل أو ما يعبر عنه «بإخضاع الحشد الشعبى» لقيادة القوات المسلحة.. ومكافحة الفساد ودعم الفقراء والمهمشين.. فقبل كل شىء مكافحة «داعش» والقضاء عليها، وهى نقطة تجمع عليها كل القوى السياسية العراقية.
وبعد كل المناورات والمساومات فإن حكومة كهذه تظل هى الحكومة المرشحة لأن تحظى بدعم وثقة البرلمان العراقى الجديد، والمؤهلة لإعادة إدماج العراق في محيطه العربى، وتقليص النفوذ الأمريكى والإيرانى على السواء، وإعادة بناء البلاد اقتصاديا واجتماعيًا، ومواجهة الطائفية المتجذرة، فى اتجاه إلغاء «الدستور الطائفى الأمريكى» خلال زمن يطول أو يقصر ليحل محله دستور ديمقراطى عصري يتعامل مع العراقيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم كمواطنين متساوين تماما فى الحقوق والواجبات ومتحررين من الطائفية البغيضة.