د.محمد فراج يكتب : ليبيا تواجه المجهول.. وحلم الاستقرار لا يزال بعيداً
خارطة طريق جديدة.. وفوضى أمنية.. وتحالفات متغيرة.. والانتخابات قد تتأخر طويلاً
خروج القوات الأجنبية والمرتزقة وحل الميليشيات شروط ضرورية لإجراء انتخابات نزيهة
الدول الكبرى تتصارع على المكاسب البترولية والاقتصادية.. وأمريكا غير مهتمة بخروج تركيا
مستقبل ليبيا يلفه الضباب.. والاستقرار يظل أملاً فى رحم الغيب.. انقضت آخر أيام «خارطة الطريق» العتيدة دون إجراء الانتخابات فى موعدها المقرر (24 ديسمبر) وحتى دون إعلان القائمة النهائية للمرشحين لخوض السباق الرئاسى.. وقبل موعد الانتخابات بعدة أيام كانت ميليشيات «الإخوان المسلمين» وحلفائهم تنتشر فى العاصمة طرابلس معلنة إصرارها على منع إجراء الانتخابات بالقوة المسلحة، فى امتداد موسع لممارسات مشابهة شملت اقتحام مقار المفوضية العليا الرئيسى فى العاصمة، والاعتصام فى ساحته.
وجاءت كل هذه الممارسات الإجرامية تنفيذاً لتصريحات متكررة من جانب زعماء «الإخوان» والميليشيات التابعة لها والمتحالفة معها، على مدى الشهور الماضية، بمنع إجراء الانتخابات بالقوة المسلحة إذا لم تتخذ الأمور المسار الذى يريدونه هم.. وبغض النصر عن «خارطة الطريق» ومواقف المجتمع الدولى ممثلاً فى القوى الكبرى والأمم المتحدة، وعن مواقف القوى الإقليمية - باستثناء تركيا - والقوانين الصادرة عن البرلمان الليبى المنتخب!!.
وهكذا تعود الأمور إلى المربع رقم (1).. بما يعنى الإعلان صراحة عن فشل «خارطة الطريق» التى وضعها (ملتقى الحوار الليبى) تحت إشراف الأمم المتحدة فى فبراير من هذا العام.. فلا المصالحة الوطنية جرت، ولا تم اتخاذ خطوات جدية واحدة فى اتجاه تحقيقها.. ولا تغيير المسئولين الفاسدين عن المؤسسات السيادية حدث (وبصفة أساسية المصرف المركزى المسيطر على موارد البلاد المالية واحتياطياتها الدولارية الضخمة، ومؤسسة النفط الوطنية، والجهاز المركزى للمحاسبات.. ولا توحيد القوات المسلحة وقوات الأمن تحرك خطوة واحدة إلى الأمام.. ولا خروج القوات المسلحة الأجنبية والمرتزقة الأجانب تحقق منه شىء، بل على العكس تتوسع القواعد التركية البرية والجوية والبحرية فى غرب البلاد، من طرابلس إلى مصراتة إلى (الوطية) وغيرها، وتتدفق عليها الأسلحة، ويجرى إجلاء عدد من المرتزقة (السوريين) الذى جلبتهم تركيا، ليحل محلهم آخرون خلال أيام قليلة!!.
أما الميليشيات الإرهابية (وفى مقدمتها ميليشيات «الإخوان» - والقاعدة وداعش) والقبلية. والمناطقية فبقيت على حالها دون أى مساس بها.
النقطة الأساسية التى تم تنفيذها من «خارطة الطريق» هى اختيار «حكومة الوحدة الوطنية» برئاسة عبدالحميد الدبيبة، و«المجلس الرئاسى» بقيادة محمد المنفى.. وقد رأينا كيف رفض الدبيبة منذ توليه السلطة الخضوع لرقابة البرلمان، أو الالتزام بقراراته بشأن الموازنة العامة للدولة، (مستنداً إلى علاقته بمحافظ المصرف المركزى ليحصل على الموارد المالية التى يحتاجها، وبعيداً عن المراقبة البرلمانية!).. وحينما سحب البرلمان الثقة من الحكومة بسبب رفض الدبيبة الخضوع للرقابة، فإنه هاجم المجلس، ودعا الجمهور للتظاهر ضده، ثم رشح نفسه للانتخابات الرئاسية فى انتهاك للقانون، الذى يقضى «بتعليق» المرشح لمهام منصبه التنفيذى قبل الانتخابات بثلاثة أشهر، وكذلك فى مخالفة لتعهده أمام (لجنة الموارد الوطنى/ لجنة الـ75).
أما بالنسبة للمجلس الرئاسى فإن دوره أقل نشاطاً بكثير من مما تتجه له «خارطة الطريق» من صلاحيات باعتباره المسئول الأعلى عن السلطة التنفيذية فى البلاد، والقائد الأعلى للقوات المسلحة.. وهذه ملاحظة عامة فى أحاديث وتصريحات أغلب المعلقين الليبيين أنفسهم.
مرة أخرى.. مرحلة انتقالية جديدة!
وهكذا.. وبسبب فشل «خارطة الطريق» وعدم إجراء الانتخابات يجد الليبيون أنفسهم زمام وضع غامض وغير محدد.
وقد أعلنت المفوضية العليا للانتخابات تأجيل الاستحقاق الرئاسى لمدة شهر.. إلا أن هناك دعوات- وخاصة فى الغرب الليبى- لتأجيل الانتخابات لمدة ثلاثة أو أربعة أو حتى ستة أشهر، مع اشتراط التخلى عن قانون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والتوصل إلى قاعدة دستورية جديدة للانتخابات أو الاستفتاء على دستورية جديدة للانتخابات أو الاستفتاء على دستور جديد قبل إجرائها، الأمر الذى يفتح الباب على مصراعيه للخلافات المعروفة حول مشروع الدستور الذى وضعه «الإخوان» دون تشاور مع بقية القوى السياسية، والذى يقضى بتهميش سلطات رئيس الدولة لصالح رئاسة الحكومة.
ومن ناحية أخرى فإن ألمح الرئيس لفشل خارطة الطريق، والسبب الأكثر أهمية لإفشال العملية الانتخابية (أى وجود القوات الأجنبية والمرتزقة، والميليشيات المسلحة الإرهابية والقبلية والمناطقية) يظل قائماً، ويفتح الباب على مصراعيه للعنف وعدم الاستقرار، والتقسيم الفعلى للبلاد، فضلاً عن فقدانها لاستقلالها وسيادتها بسبب الوجود الأجنبى).. ومن ثم تظل إمكانية إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة أمراً متعذراً.. وهو ما أثبتته بوضوح تجربة الأشهر الماضية.
وبناءً على ذلك كله يتضح بجلاء أن ليبيا تعود إلى المربع رقم (1).. أو إلى نقطة الصفر التى انطلقت منها «خارطة الطريق» الأولى.
وأن تكرار التأكيد اللفظى على موعد الانتخابات، مع التراخى الشديد من جانب القوى الدولية فى تنفيذ أهم اشتراطات «الخارطة» العتيدة (وأهمها توحيد القوات المسلحة، وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة وحل الميليشيات وتوحيد المؤسسات السيادية).. كان لابد أن يؤدى إلى هذا الفشل.
وبناء على ذلك تتحدث مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة للشئون السياسية والاقتصادية والأمنية سيتفانى ويليامز (وهى مهندسة «خارطة الطريق» الأولى التى انتهت إلى الفشل) عن الحاجة إلى «خارطة طريق جديدة».. ومرحلة انتقالية جديدة، قبل إجراء الانتخابات.. وهو حديث يبدو أقرب إلى المعقول وإلى القابلية للتنفيذ من الحديث عن التأجيل لمدة شهر واحد أو ثلاثة أشهر فى ظل نفس الظروف العسكرية والأمنية والسياسية والقانونية، التى تسببت فى إفشال خارطة الطريق الأولى، والعملية الانتخابية الجارية فى إطارها.
شروط النجاح
غير أن نجاح «خارطة الطريق الجديدة» يقتضى قبل كل شىء وضع جدول زمنى صارم لتوحيد القوات المسلحة والأمنية، وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة وحل الميليشيات المسلحة بكل أنواعها، وحصر السلاح فى يد الدولة. وهنا نعيد إلى الذاكرة أنه حينما تم توقيع اتفاق جنيف (23 أكتوبر 2020) كان الاتفاق يتضمن بنداً يقضى بتحقيق الجوانب العسكرية والأمنية المذكورة خلال ثلاثة أشهر (أى بحلول يناير 2021).. لكن الميليشيات المسلحة فى طرابلس ومصراتة وغيرها من مدن الغرب الليبى أعاقت تنفيذ الجدول الزمنى المذكور.. واحتاج الأمر إلى أكثر من ثلاثة شهور ليتم تنفيذ نقطة واحدة فقط من الاتفاق (فتح الطريق الساحلى بين طرابلس وبنغازى) بسبب معارضة وتمرد ميليشيات مصراتة.
ثم انفضت عدة اجتماعات للجنة العسكرية (5+5) دون طائل.. وحينما أعلنت اللجنة مؤخراً (8 أكتوبر) عن جدول زمنى لتنفيذ الأهداف المشار إليها خلال ثلاثة أشهر (كان يفترض أن تنتهى فى 8 يناير القادم).. وها هى الشهور الثلاثة تقترب من الانتهاء دون تحقيق أى تقدم جدى.. والأوضاع العسكرية والأمنية باقية على ما كانت عليه قبل سنوات..
الإرادة الدولية .. والدور الأمريكى
والحقيقة أن هذا الوضع يرجع إلى غياب الإرادة الدولية الجدية لإنهائه، وخاصة من جانب الولايات المتحدة، وذلك بغض النظر عن المؤتمرات الدولية، وما تحاط به من ضجة إعلامية.. فالدول الأوروبية الكبرى أضعف من أن تمارس ضغطاً مؤثراً على تركيا (صاحبة أكبر وجود أجنبى، والقوة الحامية لميليشيات الغرب، والتى جلبت المرتزقة السوريين).. كما أنها أضعف من أن تمارس ضغطاً مؤثراً على روسيا لإخراج (قوات فاجنر) من الشرق والجنوب، خاصة أن روسيا (وبنغازى) تربطان خروج هذه القوات بخروج القوات التركية والمرتزقة المرتبطين بها.. وهما يمثلان دعماً «للإخوان» والميليشيات المسلحة فى (الغرب) بمختلف أنواعها، وبالرغم من العداء التاريخى للدول الغربية تجاه الوجود الروسى فى منطقة البحر المتوسط عموماً، فإن دولة مثل فرنسا يمكن أن ترى فى وجود (قوات فاجنر) الروسية المحدود عنصر توازن مع القوت التركية، لأن فرنسا لها مصالح بترولية (شركة توتال) وتجارية فى ليبيا، تخشى عليها من ابتلاع تركيا للكعكة الليبية بأكملها.. كما أن نظرة فرنسا لنفسها كدولة كبرى يجب أن يكون لها وضع استراتيجى مميز فى البحر المتوسط، تجعلها تنظر بعدم ارتياح عميق لتعاظم الدور التركى فى ليبيا، ولتأثيراته المحتملة فى تونس، لذلك تتخذ فرنسا موقفاً أقرب إلى حفتر وبنغازى، وتشير التقارير إلى إمدادها لقواته بالسلاح.
أما إيطاليا فليس لديها مثل هذه النظرة إلى دورها كقوة كبرى قائدة فى المتوسط، وهى تبدو أقرب إلى التفاهم مع تركيا وسلطات طرابلس حول احترام مصالحها البترولية و(الغازية) فى ليبيا (شركة إينى).
كما أن طرابلس والمنطقة الغربية أقرب إلى سواحلها من بنغازى، ولذلك فإن دورها أهم في حماية السواحل الإيطالية من تدفق الهجرة غير الشرعية.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، صاحبة الدور الأكثر أهمية وتأثيراً فى ليبيا والمنطقة والعالم عموماً، فأكثر ما يهمها هو استبعاد الدور الروسى من ليبيا، ومن حوض البحر المتوسط عموماً، بقدر ما تستطيع، نظراً لأهمية المتوسط الاستراتيجية. ولكونه البحر الذى يطل عليه الجناح الجنوبى لحلف «الناتو».. بينما تنظر أمريكا إلى تركيا (الأطلسية، ذات الطموحات الاستراتيجية الكبيرة) باعتبار أنها إحدى الدولتين القادرتين على لعب دور الوكيل للمصالح الأمريكية فى المنطقة (الثانية إسرائيل) بغض النظر عن الخلافات - غير الجوهرية مهما كانت عالية الصوت - بين واشنطن وأنقرة، وعن مشاكسات إردوغان، خاصة أن تركيا بقوتها العسكرية وموقعها الاستراتيجى بالغ الأهمية الرابط بين البحر الأسود والشرق الأوسط، والمسيطر على مضيقى البسفور والدردنيل، تظل قادرة على لعب دور مهم فى التضييق على النفوذ الروسى فى البحر المتوسط (وخاصة فى سورية وليبيا).. فضلاً عن مشاكسة طموحات فرنسا الاستراتيجية، التى تنظر إليها أمريكا دون تعاطف، بصورة تاريخية، بسبب سعى فرنسا الدائم للعب دور مستقل بدرجة أو بأخرى عن الهيمنة الأمريكية ، منذ أيام ديجول.
لذلك فإن الولايات المتحدة - وبغض النظر عن الكلمات الحادة أحياناً - تنظر بكل هدوء إلى الدور التركى فى ليبيا (وانعكاساته فى دول الساحل والصحراء).. وتدعمه بصورة أو بأخرى، وإذا عدنا بالذاكرة إلى (اتفاق جنيف 2020) الذى تم التوصل إليه تحت إشراف ستيافى ويليامز، فسنجد أنه لا يطالب بخروج القوات التركية من ليبيا، وإنما بتجميد مؤقت لمهام التدريب التى تقوم بها تلك القوات لوحدات الجيش (الغربى) ودون أي إشارة للقواعد التركية فى ليبيا.
وإذا كانت القوات والقواعد التركية، والمرتزقة (السوريون) الذين جلبتهم أنقرة، وميليشيات «الإخوان» الموالية لها، وحلفاؤهم.. إذا كان هؤلاء كلهم يمثلون القوة العسكرية التى تستند إليها حكومة طرابلس والتنظيمات و(الأقسام) السياسية الموالية لها فإننا نستطيع أن نتصور الدور السلبى الكبير الذى تقوم به هذه القوى كلها فى صنع الفوضى الأمنية، وعرقلة الانتخابات. ونستطيع أن نتصور الدور المطلوب من الولايات المتحدة لمنع هذه الفوضى وتلك العرقلة ، إذا كان لديها إرادة جدية لإجراء الانتخابات (وتأسيس شرعية جديدة) على أساس صندوق الاقتراع.. وما يحتاج إليه ذلك من ضغوط دولية وإقليمية على واشنطن، وهو أمر ممكن - برغم صعوبته.. لأن الاستقرار فى ليبيا مطلب إقليمى ودولى (وخاصة أوروبى) مهم لتحقيق السلام و«الاستقرار فى شمال إفريقيا، وحوض البحر المتوسط».
وفى هذه الحالة ستضغط أمريكا على الأطراف الليبية، وخاصة على السياسيين فى طرابلس ومصراتة وبقية مدن غرب ليبيا، لتهيئة ظروف يمكن فى ظلها إجراء تسوية معقولة، وانتخابات تتوافر لها الحدود الدنيا المقبولة من النزاهة والشفافية.
ويبدو لنا أن هذا هو السيناريو الأساسى المتاح فى ظل الأوضاع وعلاقات القوى الدولية والإقليمية الحالية حول ليبيا، والأوضاع الداخلية فيها.. وهو سيناريو يحتاج تحقيقه إلى الكثير من الوقت والشد والجذب، والصراع السياسى - وربما العسكرى والأمنى - وإلى أكثر من «خارطة طريق جديدة» وأكثر من مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر، ومن لا يصدمه ذلك عليه أن يتذكر «اتفاق الصخيرات» - و«اتفاق جنيف» و«خارطة الطريق الأولى».. والتراخى الشديد فى تنفيذ الجداول الزمنية والمراحل الانتقالية.. وأن يفكر جيداً في مغزى الصراعات السياسية والأمنية التي شهدتها السنوات الأخيرة والطريقة التى تم بها إفشال الانتخابات.. ويبدو أن تحقيق حلم ليبيا بالاستقرار لا يزال بعيداً.