د.محمد فراج يكتب : الانتخابات الرئاسية الليبية.. فى مهب الرياح (٢ - ٢)
تحدثنا فى مقالنا السابق «الأموال، ٥ ديسمبر» عن الانتهاكات الجسيمة التى صاحبت عملية قبول أوراق الترشيح للانتخابات الرئاسية الليبية من جانب المفوضية العليا للانتخابات، والطعون والطعون المضادة وما شابها من ضغوط على القضاء أو انحراف بعض القضاة، كما حدث تعدى إحدى المحاكم الابتدائية «بمدينة الرازوية غرب ليبيا» على اختصاصات محاكم الاستئناف، وإصدارها حُكمًا بمنع ترشيح المشير خليفة حفتر.. وعموما.. فقد انتهت فترة الطعون فى ٦ ديسمبر بإدراج أسماء أهم المُرشحين الذين دارت حولهم المعارك القضائية، وهم خليفة حفتر، وسيف الإسلام القذافى، ورئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة.
لكن المفوضية العليا للانتخابات لم تعلن- حتى كتابة هذه السطور- القائمة النهائية بأسماء المرشحين والمفترض ألا يقل عددهم عن ٧٣ ثلاثة وسبعين مرشحًا، وكما أشرنا فى مقالنا السابق فإن هذا عدد كبير جدًا، ومن شأنه أن يؤدى إلى درجة لا يُستهان بها من تفتيت الأصوات، بغض النظر عن ضعف أو قلة أهمية أغلب هؤلاء المرشحين، لأنه في مجتمع قبلى كالمجتمع الليبى، من المرجح أن يصوّت الناخبون البسطاء من أبناء القبائل والعشائر لصالح «أقربائهم» مما كان سقوطهم مؤكدًا، وليس على أساس موقف سياسى أو برنامجى أو حتى مناطقى، مما سيؤدى إلى تشتيت أصوات كثيرة.
غير أن تفتيت الأصوات الأكثر أهمية يبرز بصورة رئيسية فى الجزء الشرقى من البلاد «إقليم برقة وعاصمة بنغازى» حيث يتمتع خليفة حفتر بالوضع الأقوى، ولديه فرصة للحصول على دعم نسبة لا بأس بها من الناخبين فى المنطقة الوسطى، وكذلك فى المنطقة الجنوبية «إقليم فزان» وإن كانت التقسيمات القبلية تشير إلى أن أغلبية أصوات هاتين المنطقتين ستذهب غالبًا إلى سيف الإسلام القذافى، الذي ربما تؤدى التحالفات القبلية إلى حصوله على نسبة من أصوات بعض القبائل الغربية.
لكن ترشيح المستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان لنفسه يؤدى إلى نشوء موقف معقد فى «الشرق» حيث يملك صالح قاعدة قبلية قوية، الأمر الذى ينشأ عنه تفتيت للأصوات قد يؤدى إلى تأثير خطير علي موقف كل من حفتر وعقيلة، وإسقاطهما كليهما في الدور الأول من الانتخابات «تفترض ـ ويفترض أغلب المراقبين أن كثرة المرشحين عموما، ووجود عدد من المرشحين الأقوياء، سيفرض إجراء جولة إعادة بين المرشحين الاثنين الحاصلين على أعلى الأصوات».
لهذا فإن المنطق يفرض أن يتنازل أحدهما للآخر «حفتر أو عقيلة» حرصًا على إبقاء فرصة قوية «للشرق» في المنافسة على منصب الرئاسة، والمسألة هنا ليست جهوية أو مناطقية، وإنما تتصل بالموقف السياسى الأكثر انسجامًا بين القبائل وسكان المدن، والتيارات السياسية فى المنطقة الشرقية، والتي تشترك فى عدائها للإرهاب، وقد خاضت كلها معركة مريرة ضده تكللت بهزيمة قوى «داعش» و«النصرة» وغيرها من المنظمات الإرهابية، وطردها من المنطقة الشرقية، المشتركة فى الحدود مع مصر، كما تشترك هذه القوى فى عدائها للاحتلال التركى الذى جلبته حكومة فايز السراج ــ فى فترة حكمها ــ والذى يسيطر على طرابلس وميناء مصراته وقاعدتها الجوية، وعدد من القواعد العسكرية الأخرى فى المنطقة الغربية، كما يجمع بين القوى العسكرية والقبلية والمدنية فى شرق البلاد العداء لجماعة «الإخوان» وميليشياتها المسلحة وجماعات المرتزقة والمنظمات الإرهابية المتحالفة معها، والميليشيات القبلية والجهوية الموالية «للإخوان» ولتركيا فى طرابلس وغيرها من مدن وتجمعات «الغرب»، وهى كلها جماعات متناحرة فيما بينها على السلطة والنفوذ، ويمثل وجودها تهديدا جديًا للأمن والاستقرار، ولوحدة الكيان الوطنى الليبى.
ومادام الأمر علي هذا النحو فإن وحدة وتماسك القوى الوطنية فى «الشرق» بمختلف مكوناتها فى المعركة الانتخابية القادمة هى مسألة بالغة الأهمية.. وهو ما يقتضى السعى للالتفاف حول مرشح واحد يتم الاتفاق عليه فيما بين القوى الفاعلة فى «الشرق»، ويجب العمل بكل جهد ممكن لكى تكون الانتخابات سبيلا إلى توحيد القوى، وليس إلى تفتيتها، كما يجب أن تبذل القوى الإقليمية والدولية الصديقة للشعب الليبى جهدها فى هذا الاتجاه بالذات، مع مراعاة التوجهات الحقيقية لليبيين، دون محاولة لفرض أى شىء عليهم.
محاولات مستميتة لإفشال الانتخابات
نقول هذا دون أن نغفل المحاولات المستميتة فى غرب البلاد لإفشال الانتخابات، إن لم يكن على مستوى ليبيا كلها، ففى حدود المنطقة الغربية على الأقل، وقد كان آخر التطورات الأكثر خطورة فى هذا الصدد اقتحام عدد كبير من أعضاء وأنصار الميليشيا المعروفة باسم «ثوار طرابلس» لمقر مفوضية الانتخابات فى المدينة، ونصبهم لخيام للاعتصام في ساحة المبنى، سعيًا لتعطيل عمل المفوضية «٧ ديسمبر»، وهو الاعتصام المستمر حتى كتابة هذه السطور، والذى سبقته اعتداءات على عدد كبير من المقار الفرعية للمفوضية، وسرقة أوراق وبطاقات ترشيح.
وقبل ذلك أعلنت «ميليشيات مصراتة» رفضها لقانون الانتخابات ولإجرائها، بالرغم من أن زعيم هذه الميليشيات «فتحى الباشاغا» هو أحد المرشحين لخوض الانتخابات! ولم يعلن انسحابه منها!
وبالرغم من أن الولايات المتحدة أعلنت أنها ستسعى لتوقيع عقوبات دولية على «معرقلى» الانتخابات، فإننا لا نجد خطوة واحدة نحو تنفيذ هذا التهديد، الأمر الذى يشجع السياسيين فى الغرب «وفى مقدمتهم خالد المشرى رئيس ما يسمى (المجلس الأعلى للرئاسة) وأحد زعماء (الإخوان)» على مواصلة التحريض ضد إجراء الانتخابات، ودفع الميليشيات إلى ارتكاب جرائمها المشار إليها ضد مقار مفوضية الانتخابات، بل إن سياسيين رسميين مثل الدبيبة ومحمد المنفى «رئيس المجلس الرئاسى الانتقالى» يعلنان بلا مواربة أن تسلميهم السلطة لأى حكومة جديدة مرهون بـ«التوافق» على الاعتراف بنتائج الانتخابات!! أى أن رفض الأطراف «الغربية» كلها أو بعضها الاعتراف بنتائج الانتخابات يمكن أن يكون ذريعة لعدم تسليم السلطة لأي حكومة جديدة، وذلك بفرض النجاح فى إجراء الانتخابات في غربي البلاد، وهو ما يبدو أمرًا تكتنفه شكوك كثيفة، فى ظل الفوضى الأمنية السائدة. والمعنى الوحيد لمثل هذه المواقف هو التشكيك المسبق فى شرعية الانتخابات، وتكريس أوضاع الانقسام الحالية.
ويحتاج الأمر إلى ممارسة ضغوط جدية من جانب الدول الكبرى على القوى «المتمردة» والمثيرة للفوضى فى طرابلس والمنطقة الغربية «لإنقاذ الانتخابات».. وإن كان الأمر الذى يتضح أكثر فأكثر، أى المدة الباقية حتى موعد الانتخابات «٢٤ ديسمبر» لن تكفى على الأرجح لاستعادة ولو قدر معقول من الاستقرار الأمنى، الذى يمكن فى ظله إجراء أى عملية انتخابية، ويجب هنا أن نلاحظ أن التأكيدات الدولية على إجراء الانتخابات فى موعدها قد بدأت تتراجع، ولا نجد الزعماء الغربيين يرددونها كما كانوا يفعلون منذ شهر مثلا.
الضمانة الحقيقية للأمن
ويعيدنا هذا كله إلى ما سبق لنا التأكيد عليه مرارًا وتكرارًا فى «الأموال» من أن الضمانة الحقيقية لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة وديمقراطية حقًا، هى تطبيق ما نصت عليه «خارطة الطريق» من ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، وحل الميليشيات الإرهابية والقبلية والمناطقية، قبل إجراء الانتخابات، وهو ما أكد عليه قرار مجلس الأمن الدولى (٢٥٧٠) فى شهر أبريل الماضى، كما أكدت عليه قرارات مؤتمر «برلين2» ووضعت اللجنة العسكرية المشتركة «٥+٥» جدولا زمنيا لسحب القوات الأجنبية والمرتزقة فى «٨ أكتوبر الماضى» وكذلك حل الميليشيات الإرهابية والقبلية، لكن تركيا أعلنت أن قواتها فى ليبيا «ليست أجنبية»!! ورفضت القوى المسيطرة فى طرابلس ومدن الغرب التعاون الجدى مع اللجنة العسكرية، والنتيجة أنه بعد مرور شهرين من الإعلان عن الجدول الزمنى المذكور، لم يتم تنفيذ أى شىء منه، بالرغم من أن التنفيذ كان ينبغى أن يتم بالكامل فى أوائل شهر يناير القادم!
وبدأ الحديث عن «خارطة طريق جديدة» لإجراء الانتخابات، وعن الحاجة لإجراء تعديلات فى القانونين اللذين بدأت إجراءات العملية الانتخابية على أساسهما، وقطعت شوطا كبيرا.. «قانون الانتخابات الرئاسية وقانون الانتخابات البرلمانية»!! ويبدو أن عودة الدبلوماسية الأمريكية المخضرمة «ستيفانى ويليامز» مهندسة «خارطة الطريق» الأصلية إلى الساحة الليبية فى منصب المستشار الخاص لأمين عام الأمم المتحدة للشئون السياسية والاقتصادية والأمنية هى خطوة فى هذا الاتجاه، خاصة أن قرار تعيينها يتضمن إقامتها فى طرابلس.. وهو ما يعنى أن تكون بمثابة «مندوب سام» للأمم المتحدة يحظى بدعم أمريكى قوى فى ليبيا، ومعروف أنها تملك خبرة كبيرة فى الشئون الليبية، ولديها علاقات قوية مع مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية.. فهل نحن أمام «خارطة طريق جديدة» تشرف ستيفانى ويليامز على إعدادها؟ أم أمام محاولة أخيرة «لإنقاذ الانتخابات»؟ وهل يمكن إهدار الجهود المضنية التى تم بذلها للإعداد لهذه الانتخابات؟ وكيف سيكون الموقف القانونى للمرشحين؟.
أسئلة تبدو محاولة الإجابة القاطعة عليها ــ الآن ـ نوعًا من الرجم بالغيب.
وتظل السيناريوهات مفتوحة.
وتظل الانتخابات الليبية في مهب الرياح!