د. محمد فراج يكتب : الانتخابات الرئاسية الليبية في مهب الرياح (1)
الانتخابات الرئاسية الليبية في مهب الرياح.. أشباح العنف والفوضى تطل على المشهد.. وكلما بدا أن ليبيا تقدمت خطوة إلى الأمام، تعود فتتراجع خطوات إلى الخلف، وآخر الأخبار أن وزير الداخلية الليبى خالد مازن صرح في مؤتمر صحفي عقده في وقت متأخر من مساء الثلاثاء (٣٠ نوفمبر) أن «اتساع رقعة الخروقات الأمنية تهدد سلامة العملية الانتخابية». وأن الأوضاع الأمنية والشكاوى تؤكد «ما يمس بنزاهة العملية الانتخابية وسلامة إجراءاتها» - (RT، ٣٠ نوفمبر) وإذن فإن هناك احتمالاً قوياً لتأجيل الانتخابات عن موعدها المقرر في ٢٤ ديسمبر.. وهو الموعد الذى تتمسك له كل القوي الكبرى، والأمم المتحدة، وأغلب الأطراف الإقليمية والليبية، باستثناء تركيا وأنصارها فى غرب ليبيا والذين يبدو أنهم عازمون علي عرقلة الانتخابات أو حتى تقويضها.
المفوضية العليا للانتخابات كانت قد بدأت فى تلقي أوراق الترشيح.. وتسلمت بالفعل أوراق ٩٨ مرشحا استبعدت ٢٥ منهم وأصدرت قائمة أولية بأسماء ٤٣ مرشحا.. لتبدأ عمليات الطعون والطعون المضادة، والفحص الدقيق لأوراق المرشحين المقبولين بصفة أولية، لاستيضاح مدى انطباق شروط الترشيح عليهم، تمهيدًا لإصدار القائمة النهائية للمرشحين، على ضوء هذا الفحص الدقيق، ونتائج الطعون القضائية.
وقبل إغلاق باب الترشيح بأيام قليلة برزت مشكلتان كبيرتان:
- المشكلة الأولى تتصل بترشيح سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى وأحد أركان حكمه، ومعروف أن «الإخوان المسلمين» وأنصارهم فى غرب ليبيا بقيادة «خالد المشرى» رئيس المجلس الأعلى للدولة يعارضون بصورة قطعية ترشيح كل من القذافي الابن والمشير خليفة حفتر «قائد الجيش الوطنى الليبى» بل ويطالبون بمحاكمتهم كـ«مجرمى حرب»! كما يطالب الإخوان وأنصارهم بتأجيل الانتخابات عموما، والانتخابات الرئاسية خصوصا، بدعوى أن البرلمان الليبى أصدر قانونى الانتخابات البرلمانية والرئاسية دون الرجوع إلى «المجلس الأعلى» برئاسة المشرى، علمًا بأن هذا المجلس هو كيان استشارى من بقايا اتفاق الصخيرات عام ٢٠١٥، وبالتالى فإن رأيه غير ملزم.. وعلمًا بأن البرلمان الوطنى هو جهة التشريع، وأن البعثة الأممية والدول الكبرى قد قبلت القانونين، وأن المفوضية العليا للانتخابات قد فتحت باب الترشيح، وبدأت في قبول أوراق المرشحين للانتخابات الرئاسية والبرلمانية علي أساس القانونين المذكورين، وبدعم من البعثة الأممية والمجتمع الدولى، وتقدم إليها مرشحون من «الشرق» و«الغرب».. ومن كافة الاتجاهات السياسية، بما يفيد إقرارهم بشرعيتها وشرعية القانونين اللذين تعمل علي أساسهما.
وبالرغم من ذلك كله، فوجئ المراقبون بمذكرة تقدم بها «المدعى العام العسكرى» لجيش طرابلس إلى مفوضية الانتخابات يطالب فيها برفض قبول أوراق كل من المشير حفتر وسيف الإسلام القذافى بدعوى أنه مطلوب محاكمتهما كـ«مجرمى حرب».. علمًا بأن «المدعى العسكرى» المذكور ليس من حقه أصلا مخاطبة مفوضية الانتخابات، ولم يكن ينبغى أن تقبل مذكرته أصلا.. ومن ناحية أخرى فإن «المدعى» المذكور هو أحد مرءوسى السيد «الدبيبة» باعتبار أن رئيس الحكومة هو القائم بأعمال وزير الدفاع، وليس من المقبول أن يقوم مرءوس لأحد المرشحين «الدبيبة» بالاعتراض على ترشيح منافس لرئيسه.. علمًا بأن «المدعى العسكرى» هذا كان قد تم تعيينه من جانب الدبيبة قبل أسابيع قليلة.. مما يجعل تدخله فى قضية كهذه محل ريبة.
>> والأهم من ذلك أن المؤسسة العسكرية لم يتم توحيدها، وبالتالى فإن ولاية «المدعى العسكرى» المذكور تقتصر على «جيش طرابلس» ولا يمكن أن تمتد إلى «الجيش الوطنى الليبى» الذى يقوده المشير حفتر.. وهو أكبر بعدة مرات من «جيش طرابلس».. ومعترف به دوليا واقليميا ومحليا، ومن العبث أن يطالب ضابط في تشكيل عسكرى آخر محاكمة قائد الجيش الأكبر!
ومع ذلك فقد وصل العبث بالقانون والمنطق إلى حد إصدار «المدعى العسكرى» المذكور قرارا «بضبط وإحضار» كل من حفتر والقذافي لمحاكمتهما! وهو قرار غير قابل للتنفيذ بالطبع.
والمحكمة الجنائية الدولية أيضا..
من ناحية أخرى فإن المحكمة الجنائية الدولية أيضا قد تركت، في نفس التوقيت، وأصدرت قرارا يطلب إحضار سيف الإسلام القذافي لمحاكمته علي «جرائم حرب»، علمًا بأن القذافى كانت قد تمت محاكمته ـ غيابيا ـ أمام محكمة جنايات طرابلس عام ٢٠١٥ وصدر حكم بإعدامه، ثم أعيدت محاكمته أمام المحكمة الدولية (٢٠٢١) التى أصدرت حكمًا بتبرئته، وبهذا يسقط حق المحكمة الجنائية الدولية في محاكمته مادام قد حوكم وصدر حكم بتبرئته من أعلي محكمة في بلاده.. وهذه قاعدة قانونية مستقرة في القانون الدولي.
تسييس القانون ومخاطره
هنا تبدو محاولات التلاعب بالقانون «وتسييسه» واضحة تماما.. والحقيقة أنه بغض النظر عن موقف أى شخص أو جهة من سيف القذافي أو حفتر أو أى طرف كان فإن «تسييس» القانون وإخضاعه للأهواء يظل أمراً مرفوضاً فى الفقه القانونى لأنه يعنى إهدار العدالة، وإخضاع معاييرها للتوجهات السياسية، وإدخال عنصر ازدواجية أو تعددية المعايير، بينما الأصل أن القاعدة القانونية «مجردة» ولا علاقة لها بالأشخاص أو بالأهواء.
>> وواضح أن قرار استبعاد اسم سيف القذافي من قائمة المرشحين قد تأثر بالضغوط المحلية والدولية المشار إليها، والغريب أنه حين تقدم محامو «القذافى» بطعن فى قرار المفوضية أمام دائرة الطعون في محكمة استئناف «سبها» قام «مسلحون مجهولون» باقتحام مبنى المحكمة، ومنعها من تلقي الطعن، وبتهديد أعضاء الدائرة القضائية إذا ما تلقوا الأوراق أو ينظرون دعوى «القذافى».. ولايزال القضاة ـ حتى كتابة هذه السطور ـ ممتنعين عن الذهاب إلى المحكمة خوفا على حياتهم.
أما العبث الحقيقى فيتجلي في أن محكمة فرعية فى مدينة «الزاوية» غربى البلاد، قد أصدرت حكما بمنع ترشيح المشير حفتر والمطالبة بإسقاط اسمه من قائمة المرشحين!! علمًا بأن هذا أمر خارج تمامًا عن اختصاص المحكمة المذكورة، لأن الطعن يجب تقديمه أمام دائرة الطعون بمحكمة استئناف بنغازى بالذات «حيث قدم حفتر أوراق ترشيحه» ولا علاقة للمحكمة الفرعية في «الزاوية» بالأمر من قريب أو بعيد، وإقحامها لنفسها في القضية يوضِّح إلى أى مدى بلغ العبث بالقضاء والقانون، وإفساد جماعة الإخوان لبعض أعضاء السلطة القضائية!
ترشيح واستبعاد الدبيبة
المشكلة القانونية والسياسية الثانية الكبري أثارها ترشيح رئيس الحكومة المؤقتة عبدالحميد الدبيبة لنفسه في انتخابات الرئاسة، وهو الأمر الذى اصطدم بعقبتين رئيسيتين من الناحية القانونية:
الأولي: أن قانون الانتخابات الرئاسية ينص في مادته الثانية عشرة «مادة١٢» على ضرورة تعليق أى مرشح يتولي مسئولية قيادية لمهام منصبه قبل إجراء الانتخابات بثلاثة أشهر على الأقل، منعا لإساءة استغلال صلاحيات وتسهيلات منصبه فى المعركة الانتخابية، وهو شرط منطقى وقد خضع له المشير حفتر وعقيل صالح رئيس البرلمان اللذان تخليا عن صلاحياتهما لنائبيهما.
أما الدبيبة فلم يعلن عن نيته فى الترشح، إلا قبل الانتخابات بحوالى شهر، وظل طوال الوقت يمارس مهام منصبه حتى بعد تقديم أوراق ترشيحه!! وهو ما يمثل انتهاكًا واضحًا لشروط المادة «١٢» المشار إليها، وكان ينبغى أن يفرض على المفوضية العليا للانتخابات رفض قبول أوراق ترشيحه.. لكنها قبلت الأوراق، وأدرجت اسمه فى قائمة المرشحين، تاركة الأمر للطعون القضائية!! علمًا بأن الدبيبة كان يتصرف في الأموال العامة طوال الفترة الماضية خارج رقابة البرلمان، الذى رفض اعتماد مشروع الموازنة المقدم منه، لكثرة البنود غير القابلة للرقابة فيه، ثم أصدر قرارا بسحب الثقة منه بسبب هذه القضية، ومع ذلك لم يتوقف الدبيبة عن التصرف بالأموال العامة، اعتمادا على صلته الوثيقة بـ«محافظ المصرف المركزى»، وخارج الرقابة البرلمانية، وهو الأمر الذى يحمل شبهة استغلال المال العام في الدعاية الانتخابية ولو قبل الترشيح، ومن ثم كان يفرض على المفوضية العليا عدم قبول أوراق ترشيح الدبيبة.
المشكلة الثانية: أن «الدبيبة» كان قد قدَّم تعهدا مكتوبا بعدم ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية إلى ملتقي الحوار الوطنى «لجنة الـ٧٥» باعتبار أن مهمة الحكومة هى الإعداد للانتخابات وإجراؤها، وليس خوضها، وهو تعهد قدمه كل أعضاء اللجنة الذين تولوا مناصب قيادة، وواضح طبعا أن الحِكمة من هذا التعهد هى ضمان عدم استغلال أعضاء اللجنة لمناصبهم في المعركة الانتخابية، علمًا بأن هذه اللجنة هى التي وضعت «خارطة الطريق» وعملت تحت إشراف بعثة الأمم المتحدة، وتم إدراج «خارطة الطريق» فى قرار مجلس الأمن «٢٥٧٠» وهذا سبب آخر كان يفرض على «الدبيبة» عدم ترشيح نفسه، كما كان يفرض على المفوضية العليا عدم قبول أوراق ترشيحه، ولكن هذا لم يحدث!
وبناء علي ذلك كله، تم تقديم طعنين في ترشيح الدبيبة، أمام محكمة استئناف طرابلس «دائرة الطعون» أحدهما من المرشح فتحى الباشاغا، وزير الداخلية السابق وزعيم ميليشيات مصراتة وأحد أقوى المرشحين عمومًا «من سياسيي عرب ليبيا». أما الطعن الثانى فقد قدمته مجموعة من المرشحين.
وقبلت المحكمة الطعن، وحكمت باستبعاد اسم رئيس الحكومة من قائمة المرشحين «الثلاثاء ٣٠ نوفمبر» مما خلق موقفا شديد التوتر، لأن «الدبيبة» قد أصبح يملك نفوذا كبيرا في المنطقة الغربية، استنادا إلى الاعتمادات التى خصصها لعدة فئات جماهيرية، بعيدا عن الإشراف البرلمانى من جهة، وإلى الأموال التى خصصها للإنفاق على الميليشيات المسلحة من جهة أخرى، والتي جعلت زعماء هذه الميليشيات يرتبطون به.
أشباح الفوضى والعنف
ولا يمكن هنا أن نغفل التزامن اللافت للنظر بشدة بين صدق حكم المحكمة باستبعاد ترشيح الدبيبة من جهة، وتصريحات وزير الداخلية حول الأوضاع الأمنية وتأثيراتها السلبية علي إمكانية إجراء الانتخابات من ناحية أخرى.. وهى التصريحات التي صدرت في نفس يوم الحكم بإلغاء ترشيح «الدبيبة»! كما لا يمكن أن نتجاهل التحركات المسلحة ضد مقار لجان المفوضية العليا للانتخابات، التى قامت بها الميليشيات في غرب البلاد، بتحريض من «خالد المشرى» وغيره من زعماء «الإخوان» وتحت إشرافهم من جهة أخرى، وهى امتداد للفوضى الأمنية السائدة في الغرب الليبى والعاصمة طرابلس طوال السنوات الماضية.
وإذا افترضنا أن أنصار سيف الإسلام القذافى لم يلجأوا للعنف ردًا على منع المحكمة بالقوة من نظر طعن مرشحهم، فإن عناصر العنف والفوضي فى المنطقة الغربية كافية وزيادة، وتصريحات وزير الداخلية فى حكومة الدبيبة تؤكدها بقوة.. وهكذا فإن احتمالات نسف إمكانية إجراء الانتخابات بسبب الفوضي الأمنية فى الغرب تزداد استفحالا.
<<<
أما الأوضاع فى المنطقة الشرقية واحتمالات تفتت الأصوات بين المشير حفتر والمستشار عقيلة صالح، وبسبب كثرة المرشحين عمومًا فهو موضوع يستحق معالجة مستقلة.
وللحديث بقية..
قبل الطبع
هام : قبل إعداد المقال للطبع نشر موقع (فرنسا 24) فى وقت متأخر من مساء (الأربعاء 1 ديسمبر) خبراً مؤداه أن محكمة استئناف طرابلس رفضت الطعنين المطالبين باستبعاد ترشيح رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة.. وهو ما أكدته جريدة «المصرى اليوم» (عدد الخميس 2 ديسمبر).. بينما لوحظ غياب الخبر عن نشرات الأخبار فى عدد من القنوات الرئيسية، وكذلك عن مواقع إلكترونية رئيسية.
ــ وكنا قد ذكرنا نقلاً عن موقع (RT) - (روسيا اليوم) فى وقت متأخر مساء الثلاثاء (30 نوفمبر) أن المحكمة قبلت الطعنين، وأمرت باستبعاد ترشيح الدبيبة، وسنواصل متابعة الموقف فى الجزء التالى من مقالنا.