اسامة ايوب يكتب: بين الرموز المضيئة ورموز الفساد المتعفن
من المفارقات والتناقضات التي تبدّت فى المشهد المصرى في الأيام القليلة الماضية والتي تدعو إلى التأمل والتدبّر.. أنه بينما كانت مصر تنعى وتودّع ثلاثة رموز مضيئة وقامات شامخة من أبنائها الأبرار، كانت هيئة الرقابة الإدارية تضبط رمزًا من رموز الفساد.
الرموز الثلاثة المضيئة شاءت الأقدار أن يرحلوا تباعًا وودعتهم مصر كلها وداعًا يليق بمكانتهم وبما قدموه من عطاء مخلص للعلم والوطن والإنسانية.
كان أول الراحلين من هذه القامات الشامخة العالم الطبيب العالمى الدكتور عادل محمود رغم أن الإعلان المتأخر عن وفاته جاء متزامنا مع رحيل الرمزين الآخرين، والمثير أنه لولا أن نعاه بيل جيتس على حسابه فى تويتر ثم لحقت به الأوساط العلمية والطبية في العالم ما كنا علمنا بوفاته، بل ما علم المصريون شيئا عنه وهو الذى كان ملء السمع والبصر باعتباره أحد نوابغ الطب.
الذى لا يعرفه المصريون أن هذا العالم النابغة غادر مصر والتدريس في الجامعة وهاجر إلي الولايات المتحدة أستاذًا في إحدى جامعاتها، وقضى حياته فى تطوير لقاحات وأمصال أسهمت في إنقاذ عشرات الملايين من البشر من أمراض لم يكن لها علاج، وظل يواصل مسيرته العلمية فى مهجره وفى غربته التى قدم خلالها إنجازاته الطبية الهائلة.
المؤسف حقًا أن هذا العالم المصرى النابغة الذى اعترفت بعبقريته الأوساط الطبية والعلمية في أرجاء العالم وشهدت بإنجازاته.. لم يكن معروفًا ولا مسموعًا عنه فى وطنه مصر ولم يلق التقدير الواجب من علماء وطنه ولا حتى من إعلام وطنه!
والمؤسف أيضًا أنه لم يلق هذا التقدير المستحق فى مصر إلا متأخرًا وبعد رحيله باعتباره رمزًا من رموز مصر المضيئة.. افتخرنا به بعد طول نسيان وتجاهل حتى بدا صحيحًا أنه لا كرامة لعالم في وطنه..
سوف يبقي الدكتور عادل محمود خالدًا بعطائه في خدمة البشرية باعتراف العالم، وسوف يبقى في نفس الوقت نموذجًا ومثالا حيًا حتى بعد رحيله لما يلاقيه العلم والعلماء فى مصر من تهميش واغتراب، لكن فى كل الأحوال سوف يبقى مثالا وتجسيدًا لعبقرية الإنسان المصرى فى كل العصور وفي كل مكان في العالم.
< < <
أما أول الراحلين من حيث الترتيب الزمنى فكان فضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم أكبر عالم أزهرى معمّر، والذى كانت جنازته المهيبة بحضور الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وعلماء وخريجى وطلاب الأزهر من مصر والعالم الإسلامى.. تقديرًا لهذا العالم الجليل الذى امتد عمره الزمنى لـ106 سنوات وامتد عطاؤه العلمى والفكرى لنحو ثمانية عقود.
لقد كان هذا العالم الإسلامى الجليل الذى أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته فى مختلف العلوم الشرعية.. صاحب عطاء مشهود وعلم وافر. ومثالا للعالم الأزهرى الفقيه بعلمه وفكره الوسطى المعتدل حسبما نعاه الإمام الأكبر والذى سبق وكرّمه قبل رحيله.
برحيل الشيخ معوض فإن مصر والعالمين العربي والإسلامى فقدوا رمزًا تاريخيًا من رموز الأزهر الشريف، كان بقدر ما طال عمره بقدر ما حُسن عمله وعطاؤه في خدمة الأزهر وعلوم الدين ووسطية الإسلام.
< < <
ثم كان وداع ثالث تلك الرموز اللواء مهندس باقى زكى يوسف بطل خط بارليف بمثابة استدعاء لذكرى أعز وأغلي بل أول انتصار مصرى عربى منذ عدة عقود فى السادس من أكتوبر 1973 وهو الانتصار الذى أعاد العزة والكرامة للعرب جميعا.
ورغم أن هذا الرمز الوطنى لم يكن وقتها من قادة الجيش الكبار، إذ كان ضابطًا مهندسًا صغير السن متوسط الرتبة العسكرية، إلا أنه بفكرته العبقرية كان أحد مفاتيح النصر العظيم فى تلك الحرب المجيدة.
هذه الفكرة العبقرية باستخدام مضخات المياه المندفعة لتحطيم خط بارليف وفتح ثغرات فيه للعبور إلى سيناء ورغم بساطتها إلا أنها كانت أقوى من القنبلة الذرية التى ظلت إسرائيل تؤكد أنها الوحيدة القادرة علي تحطيم هذا الخط الدفاعى المنيع في سياق خطتها الدعائية لإشاعة اليأس فى صفوف الجيش المصرى.
ظل اسم هذا الضابط مجهولا ولسنوات طويلة حتي عرفه المصريون جميعًا بعد ذلك بالاسم والصوت والصورة.. إنه المقدم مهندس «أثناء الحرب» باقى زكى يوسف والذى صار برتبة لواء إلي أن تقاعد وتم تكريمه في القوات المسلحة، ثم جاء تكريمه الأكبر بعد رحيله حيث ودعته مصر كلها.. شعبًا وقيادة وجيشًا وبرلمانا وكنيسة فى القداس الذى أقيم على روحه الطاهرة.
إن عبقرية هذا الضابط المسيحى العسكرية الذى اعتصم بالتواضع ولم يفاخر يومًا بفكرته والذى ينتمى إلي أقباط مصر الذين تواتر وصفهم بأنهم خير أجناد الأرض.. تؤكد صدقية هذا الوصف والذى انطبق على اللواء باقي الذى سيظل ذكره باقيًا مع سابقيه ولاحقيه من أبطال الجيش فى تاريخ العسكرية المصرية عبر العصور.
< < <
وسط هذه الأمجاد وهذا الزهو الوطنى فى وداع تلك الرموز المصرية المضيئة.. جاء الإعلان عن ضبط هيئة الرقابة الإدارية لرئيس حى الدقى متلبسًا بتقاضى رشوة للتستر على مخالفات البناء.. جاء بمثابة صدمة وبقعة سوداء مظلمة فى ذلك المشهد الوطنى المضىء.
ورغم أنه لا خلاف علي وجود الفساد في كل مكان فى العالم باعتباره من طبائع بعض البشر، إلا أن جريمة هذا المسئول وخيانته للأمانة ولمقتضيات منصبه تثير الكثير من التساؤلات والملاحظات.
إذا كان من الممكن تفهم فساد الصغار لاعتبارات الاحتياج المالي رغم أنه فساد مجرم لا يجوز تبريره، فإنه من غير الممكن تفهم فساد مسئول كبير نسبيًا برتبة رئيس حى مهما كانت الإغراءات.
الأمر الآخر أن مثل هذا المسئول عندما يتقاضى رشوة فإنه يتحصن بموقعه وبمنصبه متصورًا أنه بعيد عن المحاسبة، وفي نفس الوقت فإنه بفساده يفتح الباب علي مصراعيه لتفشي الرشوة بين مرؤوسيه ومن ثم ضياع حقوق ومصالح الوطن والمواطنين.
ومع أن الرشوة جريمة فى كل الأحوال ومهما كانت قيمتها، إلا أن واقعة رشوة رئيس حى الدقى تعكس نوعًا من التدنى المهين، إذ بلغت قيمتها 250 ألف جنيه وشقة قيمتها نحو مليونى جنيه، وهو مبلغ ضئيل نسبيا في عالم الفساد لا يستدعى التردى إلى مستنقع الرذيلة والانحطاط في الفساد علي هذا النحو الحقير.
هذا المعنى تضمنه «الكاريكاتير» المنشور في جريدة الأخبار يوم الأربعاء الماضى والذى صوّر زوجة هذا المسئول توبّخه وتصفه بأنه فاسد «معفن» بالنظر إلى ضآلة قيمة الرشوة مقارنة بما سيلحقه من إدانته بالفساد وبما سيناله من عقاب.
< < <
إن هذا الفساد.. كبيرًا مستقوياً كان أم صغيرًا متعفنًا والذى تجرى ملاحقته.. يتضاءل حجمه أمام عطاء وطنى مخلص متدفق لا ينضب لرموز مضيئة وقامات شامخة من المخلصين والنوابغ فى كل المجالات . <