د. محمد فراج يكتب : كيف أفلت الاقتصاد الروسي من مقصلة العقوبات الغربية (1)
من الركود.. إلى التعافى.. والانطلاق
روسيا من البلدان التي تهمنا حالة اقتصادها، لأنها أحد أهم شركائنا التجاريين والاقتصاديين عموماً، وبالأخص مع اقتراب توقيع عقود المحطة النووية فى الضبعة، وعودة السياحة الروسية، وتشير كل الشواهد إلى أن الاقتصاد الروسى يتجه للتعافي هذا العام، والخروج من دائرة الركود التي أمسكت بخناقه خلال الأعوام الثلاثة الماضية، والتي وصلت إلى نحو سالب قدره 3.7% ــ سالب ثلاثة وسبعة أعشار بالمائة ــ عام 2015 وسالب نصف بالمائة (-0.5%) عام 2016، نتيجة للعقوبات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية، وسياسة إغراق الأسواق النفطية العالمية التي انتهجتها الولايات المتحدة وأدت إلى انهيار أسعار البترول والغاز.. ومعروف أن عائداتهما تشكل أكثر من 70% من موارد العملة الصعبة لروسيا، وحوالى نصف موارد موازنتها العامة.
وبديهى أن العقوبات الغربية وإغراق الأسواق النفطية ليسا السببين الوحيدين لمتاعب الاقتصاد الروسى، ولم يكن لهما أن يتركا هذا التأثير الكبير لولا الأسباب العميقة الكامنة في بنية ذلك الاقتصاد.. لكن المؤكد أنهما كانا السببين المباشرين في المتاعب التي واجهها خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
تشير الأرقام إلي أن الاقتصاد الروسى سيحقق نموًا يصل إلى 1.5% علي أقل تقدير هذا العام لينهى الركود الذي بلغ -3.7% عام 2015 و-0.5% عام 2016.. وهذه هى تقديرات خبراء صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد الروسى، بينما يرى الخبراء الروس أن النمو سيصل إلى 2% هذا العام أو يقترب منها كثيرًا. وكان خبراء الصندوق قد رفعوا توقعاتهم لنمو اقتصاد روسيا هذا العام من 1.1% في نهاية العام الماضى، إلى 1.4% فى شهر مايو الماضى (2017).. غير أن توقعات الربع الثالث من العام الجارى (يوليو ـ أغسطس ـ سبتمبر) مع قرب انتهائه تشير إلى نمو قدره 2.5% مع نمو للإنتاج الصناعى قدره 1.6%، الأمر الذى يشير إلى أن توقعات الخبراء الروس هى الأقرب إلى الصحة، وأن اقتصاد بلادهم يمكن أن يحقق نسب نمو تبلغ 2% أو تقترب منها، وهى نسبة تفوق توقعات النمو الوسطية في أغلب الدول الصناعية الغربية هذا العام »الاتحاد الأوروبى 1.1% واليابان أقل من 1%«.
كما توقع خبراء الصندوق أن يواصل نمو الاقتصاد الروسى اتجاهه الصعودى خلال السنوات القادمة بصورة تدريجية بحيث يصل خلال عدة سنوات إلي مستوى يكون فيه ـ هو والاقتصاد البرازيلى ـ من روافع النمو فى البلدان الصناعية »مع الأخذ فى الاعتبار بالطبع نسبة النمو المتواضعة في الاتحاد الأوروبى واليابان«.
ويعتقد الخبراء الروس أن النمو فى بلادهم سيصل إلى 4% أو أكثر عام 2020 أو 2021، ثم يحقق معدلات أعلى بعد هذا التاريخ.. علمًا بأن روسيا كانت قد حققت نسبة نمو تتراوح بين 6% و7% فى الأعوام من 2000 حتى 2008 قبل انفجار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
وجدير بالذكر أن الناتج المحلى الإجمالى لروسيا قد تجاوز (2 تريليون دولار) لكنه حسب القيمة الشرائية للعملة المحلية (الروبل) يبلغ حوالى (4 تريليونات دولار).
> نمو الاحتياطيات الدولية الروسية هو الآخر أحد المؤشرات الهامة لتعافى الاقتصاد الروسى.. فبعد أن تآكلت الاحتياطيات الروسية من (600 مليار دولار) عام 2006 (الأزمة المالية والاقتصادية العالمية) لتنخفض إلى (350 مليار دولار) عام 2010.. عادت إلى الارتفاع التدريجى مع بداية العام الجارى لتقترب من 400 مليار دولار ثم لتصل إلى 420 مليار دولار في بداية شهر أغسطس الماضى، تضاف إليها 104 مليارات دولار فى رصيد صندوقى الرفاه الاجتماعى والاحتياط الحكومى.. علمًا بأن البنك المركزى الروسى أضاف إلى رصيده 200 طن من الذهب عام 2016.
<< ومن ناحية أخرى فقد تحسَنَ سعر صرف الروبل الروسى مقابل الدولار الأمريكى من (82.44 روبل مقابل الدولار في يناير 2016) إلى (59.58 روبل مقابل الدولار ـ أى بنسبة تحسن تزيد على الربع ــ
بنهاية شهر يوليو الماضى، ويحافظ الروبل بقوة على تماسكه أما الدولار تحت رقم الـ(60 روبلا للدولار).. وهذا بدوره أحد المؤشرات الأكثر أهمية لتعافى الاقتصاد.
> كما تراجع التضخم من 13% عام 2015 إلى 6% فقط هذا العام (2017)، وتراجع عجز الموازنة من 3.7% عام 2016 إلى 3.2% فى العام الجارى.. كما تراجعت هجرة رءوس الأموال من البلاد من 57 مليار دولار عام 2015 إلى 17 مليار دولار عام 2016.. وهو ما يشير إلى ازدياد الثقة في الاقتصاد بدرجة كبيرة، ويشجع على تدفق الاستثمار الأجنبى.
ومن ناحية أخرى فقد تراجعت البطالة من 5.6% في يناير من العام الجارى إلى 5.4% فى شهر يوليو الماضى، واتجاه التحسن ملحوظ بالطبع، وهو أيضًا يشير إلى استمرار تعافى الاقتصاد.
إنجاز كبير لبوتين وفريقه
الأمر المؤكد أن الأرقام المذكورة تمثل كلها إنجازًا كبيرًا للقيادة الروسية المتمثلة في فلاديمير بوتين وفريقه الذى برهنَ على درجة عالية من الوحدة والانسجام فى مواجهة تحديات ضخمة فرضتها إجراءات الضغط والحصار الأمريكية والأوروبية ضد روسيا.. وهو إنجاز له أبعاده السياسية والاستراتيجية إلى جانب أبعاده الاقتصادية.
ومعروف أن روسيا كانت قد بدأت تعانى من تناقص نسبة نموها الاقتصاد، بعد الأزمة العالمية (2008 ــ 2009) وما ارتبط بها من انتهاء »الثورة الاقتصادية« التى حققتها بنسبة نمو تتراوح بين 6% و7% خلال الفترة من عام 2000 إلى 2008، تأثير الطفرة فى أسعار البترول والغاز تزامنت مع وصول فريق قيادى متماسك إلى السلطة، علي رأسه فلاديمير بوتين، مما أتاح إعادة تنظيم الاقتصاد الروسى، وإعادة بناء ما تصدع منه فى عهد بوريس يلتسين، وما ارتبط به من فوضي وفساد.
كما أتاحت الموارد البترولية الضخمة الفرصة لإعادة بناء القوات المسلحة الروسية فى مواجهة التوسع المستمر لحلف الأطلنطى باتجاه الشرق وصولا إلى دول البلطيق على الحدود الغربية لروسيا، وبرنامج »الدرع الصاروخية« الأمريكى ـ الأطلسى.
ومعروف أن تلك التطورات قد فرضت على روسيا الدخول في سباق تسلح منهك لاقتصادها.. إلا أن ارتفاع أسعار البترول والغاز عزز مواردها بصورة ساعدتها على الصمود.. وفضلا عن ذلك فإن الدولة كانت قد استعادت الشركات النفطية الكبري من أيدى ملياديرات الخصخصة الفاسدين، بصورة قانونية تماما.. (وفاء للضرائب ورسوم التصدير المتراكمة التي لم يكونوا يسددونها فى ظل فوضى عهد يلتسين، مما ساعد الحكومة علي تحمل أعباء إعادة تنظيم الاقتصاد، وإعادة بناء القوات المسلحة، وتطوير المجمع العسكرى ـ الصناعى في الوقت نفسه.
(وللحديث بقية)