د. محمد فراج أبوالنور يكتب: 100 يوم من ترويض «المؤسسة» الأمريكية لترامب.. نتائج مبهرة!!
يقضى تقليد سياسى عتيد فى الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم الرؤساء لنوع من «كشف الحساب» بعد مائة يوم من توليهم للسلطة، يعرضون فيه على جمهور الناخبين والمراقبين السياسيين ومراكز الأبحاث والإعلام طبعاً محصلة عملهم خلال المائة يوم الأولى لحكمهم، يوضح تحقيق تلك البرامج، وبديهى أن وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث لا تنتظر أحاديث الرؤساء وإنما تسرع على الفور لإعداد كشف الحساب الرئاسى الخاص بكل منها.. وينطبق هذا بالطبع على الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى تولى السلطة فى 20 يناير من هذا العام..
إلاّ أن «كشف حساب» ترامب جاء فريدًا من نوعه.. وغير مألوف فى تاريخ الرؤساء الأمريكيين حسبما تعيد الذاكرة السياسية على الأقل.. توجهات تختلف في كثير من جوانبها الهامة عمّا كان يعلنه أثناء حملته الانتخابية، وقرارات متناقضة متخبطة تتسم بكثير من التسرع وغير قليل من الرعونة وتعكس قدرًا كبيرًا من العشوائية ونقص الخبرة وضعف عمل المستشارين أو عدم إقامة الاعتبار لنصائحهم، وأسلوب خشن في التعامل مع كثير من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة.. والنتيجة: قدر كبير من التوتر والارتباك فى الحياة السياسية الأمريكية، وفى السياسة الخارجية للولايات المتحدة.. وبالتالى درجة عالية من التوتر، بل التأزم فى العلاقات الدولية، فلسنا بحاجة إلى القول إن الولايات المتحدة يؤثر كل ما يحدث فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة على ما يحدث فى العالم، باعتبارها القوة العظمى الأولى فيه حتى إشعار آخر.
ومعروف أن ترامب هو رجل أعمال ناجح جاء من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية تماما، ولم يتول منصبا رسميا طوال حياته.. وتبنى سياسات شعبية استندت إلى شعارات تتسم بكثير من الغموض حول عظمة أمريكا المطلوب استعادتها، وضرورة وضع حد لسيطرة المؤسسات الحاكمة فى واشنطن التى اعتبرها غير ديمقراطية، وغير معبرة عن مصالح وطموحات الشعب الأمريكي.. الخ، كما ناصب الإعلام عداءً متبادلا، ومعروف أنه نجح فى الانتخابات بالرغم من هذا العطاء المتبادل، ومن توقعات استطلاع الرأى العام، وتبنى آراء اقتصادية يمينية قوامها خفض التزامات الدولة تجاه الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وتقليص الضرائب على الأغنياء، ونزعة تجارية حمائية تهدف للحد من الواردات وزيادة الاستثمارات في الداخل وإعادة تشغيل المصانع التى تعطلت بسبب ضعف قدرتها التنافسية.
أما فى السياسة الخارجية فقد أعرب عن نزعة انعزالية واضحة، موجهاَ اللوم لإدارة أوباما على الحروب التى خاضتها، وما ترتب عليها من نفقات دفاعية ضخمة، ووجه انتقادات قاسية إلى حلف الأطلنطى، وما تتكلفه الولايات المتحدة من إنفاق باهظ بسببه، ومطالباً الاتحاد الأوروبى وحلفاء أمريكا عموماً بدفع تكاليف دفاعها عنهم!! وكان من أكثر ما أثار غضب الدوائر الأمريكية الحاكمة عليه إشادته المتكررة بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين وإعلانه العزم على تخفيض حدة التوتر مع موسكو.
وبسبب هذه المواقف وخاصة ما يتصل منها بالسياسة الخارجية ذهب عدد كبير من المراقبين والخبراء ـ إن لم يكن أغلبهم ـ إلى حد القول بأن هناك احتمالات كبيرة لوقوع صدام كبير بين ترامب و«الاستابلشمنت» الأمريكية، يمكن أن يؤدى إلى عزله قبل اكتمال مدته الرئاسية، إن لم يكن إلى اغتياله، كما حدث مع جون كيندى فى حينه.
غير أن «المؤسسة» الحاكمة الأمريكية، وفى مقدمتها الكونجرس وأجهزة المخابرات والأمن القومى، برهنت على أنها أكثر قوة وأوسع حيلة مما كان يتصور ترامب وفريقه وكثير من المراقبين.. واستطاعت القيام بـ«ترويضه» بأسرع كثيرا مما ظن هو.. ومما توقع أغلب المراقبين.. وحتى قبل أن تنقضى المائة يوم الأولى لرئاسته، فى أغلب قضايا السياسة الخارجية، وفى عدد كبير من قضايا السياسة الداخلية.. والبقية فى الطريق!! واتضح أن ترامب أضعف كثيرا مما كان يبدو، وما كان يشير إليه تبجحه.. وذلك بفضل استغلال أخطائه الفادحة، التي أوقعه فيها تسرّعه وقلة خبرته السياسية.
وكانت البداية هى سلسلة الأحكام القضائية بوقف تنفيذ قراره بوضع قيود شديدة على دخول مواطنى سبع دول إسلامية إلى الأراضى الأمريكية، ثم قرار ثان اتخذه بوضع نفس القيود على مواطنى ست دول مع إسقاط العراق من القائمة الأولى.. مع إدخال تعديلات طفيفة فى الصياغة.
ثم كانت اللطمة الدستورية الثانية لترامب حينما رفض الكونجرس بأغلبية ساحقة «بما فيه الأغلبية الجمهورية» مشروع قرار له بإلغاء قانون «أوباما كير» الخاص بالرعاية الصحية لعشرات الملايين من الأمريكيين الأقل دخلا، مما كان سيتسبب ـ لو حدث ـ فى مشكلات اجتماعية معقدة، ومعروف أن إلغاء «أوباما كير» كان من النقاط المحورية فى برنامج ترامب.
أما الخطأ الأكبر الذى وقع فيه دونالد ترامب والذى أوقعه فى قبضة «المؤسسة/ الاستابلشمنت» الحاكمة، وفي مقدمتها أجهزة الأمن القومى والمخابرات، فكان إخفاء عدد من أركان حملته الانتخابية لإجراء اتصالات بينهم وبين السفارة الروسية فى واشنطن.. فى ظل تصاعد التوتر الشديد بين الولايات المتحدة وروسيا. فقد اتضح أن مستشاره للأمن القومى «مايك فلين» الذى كان قد تم تعيينه رسمياً، قد اجتمع بالسفير الروسى فى واشنطن مرتين، فوعده بإلغاء العقوبات التى كانت إدارة أوباما قد فرضتها ضد موسكو، فى حالة فوز ترامب وحينما أنكر «فلين».. أخرجت أجهزة المخابرات تسجيلا للمقابلتين.. واضطر مستشار الأمن القومى لتقديم استقالته بسبب هذه الفضيحة الكبرى.. والأسوأ هو أن التحقيق مستمر فى الموضوع، وأن تهمة «التخابر» مع روسيا تطارد مستشار الأمن القومى السابق «فلين» شخصياً.. وليس أى موظف صغير فى إدارة ترامب.. والأدهى أنه ثبت تقاضيه (45 ألف دولار) مقابل خدمات أداها لقناة «روسيا اليوم» الروسية!!
أما المدعى العام «وزير العدل» جيت سيشينز، فقد ثبت أنه هو الآخر التقى مرتين بالسفير الروسى فى واشنطن، وأنكر ذلك ـ تحت القسم ـ فى الكونجرس وقت تعيينه.. ثم أبرزت المخابرات التسجيلات! والآن يطالب الديمقراطيون بإقالته، ومحاكمته على الكذب تحت القسم.
والواقع أن هذه النقطة بالذات هى التى «وضعت إصبع ترامب تحت ضرس المؤسسة» الحاكمة، كما يقال.. فقد اضطر لتعيين سفير معروف بتشدده ضد روسيا كسفير لأمريكا فى موسكو.. كما اضطر لتأجيل لقائه ببوتين إلى نهاية شهر يوليو القادم، أى لأكثر من 6 أشهر بعد توليه الرئاسة، علماً بأن اللقاء لن يتخذ شكل القمة المألوف، وإنما سيكون على هامش قمة العشرين فى ألمانيا.
وجاءت تطورات السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط لتضيف مزيدًا من التعقيدات للموقف بين روسيا وأمريكا.. من إرسال قوات أمريكية إضافية لسوريا والعراق، إلى قصف مطار الشعيرات السورى بدعوى استخدامه في قصف لمدينة خان شيخون بقذائف كيماوية، إلى تصاعد الدعم العسكرى الأمريكى للتوجهات الانفصالية الكردية، إلى انقلاب ترامب علي الرئيس السورى بشار الأسد بعد أن كان قد صرح بأنه لا يعارض بقاءه في السلطة.. هنا نجد سياسة البنتاجون هى التى تنتصر، مع إضافة توابل ترامب الخاصة إليها مثل شتيمته البذيئة للرئيس السورى.
ومرة أخرى ينتصر «البنتاجون» حين تقدم الإدارة الأمريكية الجديدة مشروع ميزانية جديدة تقضى بزيادة النفقات الدفاعية 10٪ لتصل إلى 640 مليار دولار عام 2018.. متضمنة اعتمادات جديدة لتعزيز الوجود العسكرى الأمريكى والأطلسى علي الحدود الروسية.. وليستقبل ترامب سكرتير عام الناتو بحفاوة مشيّدًا بالحلف بعد أن كان يوجه إليه أقسى الانتقادات، ويؤكد أنه لا ضرورة له.
وبالنسبة لإيران فقد لاذ ترامب بالصمت مؤخرًا عن دعوته لإلغاء الاتفاق النووى معها، لكنه اتجه لفرض عقوبات عليها بسبب برنامجها الصاروخى، ويحاول تشكيل «ناتو» شرق أوسطى ضدها.. لكن هذا لا يمنعه من المضى قدماً فى محاولة ابتزاز الدول العربية النفطية الحليفة لأمريكا مطالباً إياها بتحمل المزيد مقابل ما يسميه «حماية أمريكا» لهذه الدول، برغم أن الجزء الأكبر من استثماراتها موجود في الأسواق الأمريكية.
وبينما تراجعت إلى الظل مسألة نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، فإن ترامب يعلن صراحة تراجعه عن حل الدولتين.. ويقول إن ما يهمه هو اتفاق الفلسطينيين والإسرائيليين، مع التزامه بدعم إسرائيل، ورفضه لإدانة الاستيطان!!
أما الصين التى شن هجمات عنيفة ضدها أثناء حملته الانتخابية، فقد لجأ إلى التهدئة معها مطالباً إياها بتهدئة كوريا الشمالية.. وبعد أن كان قد قرع طبول الحرب ضد بيونج يانج.. عاد فأعرب عن رغبته في «التشرف بلقاء» الزعيم الكورى الشمالي.
السياسة الخارجية الأمريكية تعود تدريجياً إلى ما كانت عليه، وإن كانت ستتخذ مسخة جمهورية تتسم ببعض التشدد وزيادة الإنفاق العسكرى، بما يحقق مصالح شركات صنع السلاح واحتكاراته الكبري.. علماً بأن السياسة الخارجية الأمريكية كانت تتجه للتشدد بوضوح في عهد إدارة أوباما، بما يكاد يتطابق تقريباً مع تشدد الجمهوريين.. وقد نجد أن ترامب يضع بعض «توابل» شخصيته المندفعة المزهوة بنفسها هنا أو هناك.. لكن المؤكد أن ترويضه قد تم.. وأنه سيخضع تماما لإرادة مؤسسات صنع القرار الأمريكى.. وعلى العرب أن يضعوا كل ذلك في حسبانهم وهم يتعاملون مع إدارة ترامب.