د. محمد فراج أبوالنور يكتب: أردوغان.. وانهيار «المعجزة الاقتصادية التركية»
يبدو أن تركيا لن تخسر ما كانت تتمتع به من حدود دنيا من الديمقراطية فحسب ـ مهما تكن الملاحظات الجدية عليها.. ولن تخسر استقرارها وحده ــ مهما كان يعانيه من منغصات بل إنها تتجه بخطى حثيثة نحو خسارة ازدهارها الاقتصادى الذى دفع بالكثيرين للحديث عن «المعجزة الاقتصادية التركية».. وما كان قد تبقى لها من أمل محدود للغاية في الالتحاق بالاتحاد الأوروبى. والسبب فى ذلك كله.. مغامرات رئيسها رجب طيب أردوغان السياسية والعسكرية الطائشة، ونزعاته الاستبدادية الجامحة، ودعمه للإرهاب فى دول المنطقة.
عاشت تركيا منذ خمسينيات القرن العشرين عقودًا من عدم الاستقرار السياسى عرفت خلالها عددًا من الانقلابات العسكرية والحكومات المدنية الضعيفة والائتلافية، التي كانت تحكم البلاد تحت ظلال دبابات وبنادق الجيش التركى العتيد ووصايته الثقيلة باعتباره حامى العلمانية «والأتاتوركية».. وإذا كانت قد احتفظت ببعض مظاهر الحياة الديمقراطية من وجود أحزاب سياسية وحكومية برلمانية ونظام قضائى على درجة لا بأس بها من النضج ونمط أوروبى للحياة فى المدن الكبرى، فإنها كانت تصحو على صرير جنازير الدبابات في الشوارع إذا فكر المدنيون في الخروج علي وصاية الجيش أو تجاوز الخطوط الحمراء التى رسمها.
أما بالنسبة لدرجة التطور الاقتصادى فإن تركيا ظلت واحدة من الدول النامية، وإن كانت قد استفادت من قربها من أوروبا، وكونها عضوًا في حلف شمال الأطلنطى «الناتو» علي خط المواجهة مع الاتحاد السوفيتى السابق ودول حلف وارسو، وعلي تخوم العالم العربى عرفه من أنظمة تحرر وطنى معادية للاستعمار الغربى، وبالتالى فقد كان دورها مطلوباً فى مواجهة النفوذ السوفيتى في المنطقة.. بالإضافة إلى إسرائيل طبعاً، ومن هنا فقد كانت المساعدات الغربية تتدفق عليها، والاستثمارات الغربية بدرجة أقل.. وكانت تتمتع بقدر من الرخاء مقارنة بغيرها من الدول النامية، عززته تدفقات التمويلات من المتاجرين الأتراك فى أوروبا الغربية، وخاصة ألمانيا.
ولا يتسع المقام هنا لتحليل الأوضاع التاريخية للاقتصاد التركى وحسبنا أن نقول إن وصول حزب «العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان إلى السلطة أواخر عام 2002 نقطة تحول مهمة فى التاريخ التركى المعاصر، فقد استجابت حكومة أردوغان لشرط صندوق النقد الدولى «للإصلاح الاقتصادى» أملا فى جدولة الديون التركية، والحصول علي قروض من الصندوق وغيره من مؤسسات التمويل الدولية والأوربية، وهذا ما حدث بالفعل. فقد تدفقت القروض والاستثمارات الغربية علي تركيا، خاصة أن الاستراتيجيين «الأطلسيين» كانت قد نضجت لديهم رؤية تقوم على تقديم تركيا «كنموذج إسلامى ديمقراطى معتدل» فى مواجهة نزعات التطرف والإرهاب التى بدأت تنتشر في الدول الإسلامية العربية والشرق أوسطية بعد الحرب الأفغانية، وكذلك في مواجهة الراديكالية الشيعية الإيرانية ونزوعها نحو تصدير الثورة، والأنظمة العربية المحافظة غير المواكبة للعولمة والتطورات التي يشهدها النظام العالمى. ومن ناحية أخرى «كنموذج إسلامى عصرى» قادر علي جذب دول آسيا الوسطى والقوقاز الإسلامية «السوفيتية السابقة» بعيدًآ عن ذلك روسيا التى بدأت تستعيد قوتها فى ظل حكم بوتين وفريقه، ومن ثم عزل موسكو وحصارها، ومن ثم إجهاض أى فرصة لاستعادة نفوذها فى الشرق الأوسط.
وانطلاقاً من هذه الرؤية الاستراتيجية فقد تدفقت المساعدات والاستثمارات والقروض الغربية علي الاقتصاد التركى، الأمر الذى أتاح له فرصاً ممتازة للازدهار كما بدأ الاتحاد الأوروبى فى مغازلة تركيا بأحلام قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبى، إذا ما تقدمت في الأخذ بالمعايير الديمقراطية الأوروبية، وتخفيف قبضة الجيش علي الحياة السياسية.. وهو ما مثل عنصر ضغط على المؤسسة العسكرية التركية عرف أردوغان كيف يستفيد منه في تحقيق أهدافه، التى اتضح فيما بعد أنها أبعد ما تكون عن الديمقراطية «والنموذج الإسلامى العصرى المعتدل».
ما يعنينا هنا هو أن المساعدات والاستثمارات الغربية الضخمة التى تدفقت على تركيا مثلت رافعة هائلة للاقتصاد التركى. وبلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى الفترة من 2005 ــ 2015 أكثر من 160 مليار دولار وهو رقم هائل بكل المقاييس (المصدر: البنك المركزى التركى ـ نشرة الاستثمار Invest in turkey - www.invest.gov.tr/ar. SA/ inb).
وتدفقت هذه الاستثمارات المباشرة الضخمة في عروق كل قطاعات الاقتصاد التركى، لتعطى دفعة هائلة لقدراته على النمو، بحيث حقق الناتج المحلى الإجمالى التركى نسبة نمو قدرها 4.7٪ عام 2007 ويقفز إلى 9.2٪ عام 2010، و8.8٪ عام 2011، متجاوزًا آثار الأزمة الاقتصادية المالية التى ضربت الاقتصاد العالمى والتى بلغت ذروتها عامى 2008 ــ 2009.. غير أن نمو الاقتصاد التركى بدأ يتراجع بصورة لافتة للنظر ليصل إلى 4.2٪ عام 2013، ثم إلى 2.9٪ عام 2014 و3٪ عام 2015 (المصدر: تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية 2015 ـ الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة الأهرام ـ عام 2016، ص 183) ثم لتتراجع نسبة النمو تراجعا طفيفا إلى 2.9٪ عام 2016 بناتج محلي إجمالى قدره 857 مليار دولار وتتراجع الصادرات من 150 مليار دولار عام 2015 إلى 143 مليار دولار عام 2016 (المصدر: المرجع التركى السابق الإشارة إليه، وأيضاً: وكالة دعم الاستثمار التابعة لرئاسة مجلس الوزراء التركى ـ دليل الاستثمار)، كما قام صندوق النقد الدولى بخفض توقعاته لنمو الاقتصاد التركى هذا العام 2017 من 2.9٪ في بداية العام إلى 2.5٪ وهو التقدير الذى اتفق معه نائب رئيس الوزراء محمد شيمشك (تركيا ـ أخبار تركيا ـ نشرة يومية حكومية بتاريخ 22أبريل 2017).
وإذن فإن الاقتصاد التركى الذى حقق نسب نمو لافتة للنظر بالفعل خلال الأعوام الماضية، وخاصة خلال عام 2010 (9.2٪) و2011 (8.8٪)، وفى ظل أزمة اقتصادية مالية عالمية، بدأ يفقد الزخم بصورة متزايدة خلال السنوات الأخيرة، وصولا إلى 3٪ عام 2015 و2.9٪ عام 2016 و2.5٪ حسب توقعات 2017.. كما بدأت الصادرات التركية تتراجع، وكذا الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة على تركيا، والتى انخفض إجماليها من 16.136 مليار دولار عام 2011 إلى 11.959 مليار دولار عام 2015 (البنك المركزى التركى).. ثم انخفضت بنسبة 44٪ في النصف الأول من عام 2016 وانخفضت قيمة الليرة التركية مقابل الدولار بنسبة 20٪ في العام نفسه (رويترز: 24 ديسمبر 2016).
ويرجع تعثر الاقتصاد التركى وتراجعه بالدرجة الأولى إلي سياسات أردوغان المتخبطة وتورطه فى مغامرات سياسية وعسكرية وإجراءات داخلية استبدادية وعنيفة أضرت بالاستقرار في تركيا وحولها وبعلاقتها الإقليمية والدولية ضررًا بليغاً. فقد احتضن الإرهاب فى كل من سوريا والعراق، وحوّل بلاده إلى معبر للإرهابيين القادمين من كل بلاد العالم للالتحاق بداعش والنُصرة وغيرها من المنظمات الإرهابية، وصولاً إلي نقل الإرهابيين من سوريا والعراق إلى ليبيا وكذلك نقل السلاح إلي هذا البلد العربي، في سياق نشر الإرهاب حول مصر التي نَاصَبَ ثورتها الشعبية (30 يونيو) العداء وتآمر ضدها بكل السبل، وجعل بلاده قاعدة للهاربين من جماعة الإخوان الإرهابية وغيرها، ومقرًا لقنواتهم الفضائية الداعية إلى الإرهاب، وانتشرت فضائح تعاونه مع داعش في تجارة البترول السورى والعراقى المسروق مقابل إمدادها بالسلاح، فضلا عن تعاونه مع قطر وغيرها في تمويل وتسليح الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق ومصر وليبيا.. ولم يلبث هؤلاء أن انقلبوا على أردوغان، وبدأوا في تنفيذ العمليات الإرهابية علي الأراضى التركية مما ألحق ضررا فادحا بالسياحة، وهى أحد أهم مصادر الدخل القومى التركى.. كما أدى ذلك إلى مخاوف واسعة لدى المستثمرين الأجانب، مما أدى إلى تقلص الاستثمارات الداخلة، كما أشرنا، بالإضافة إلى نزوح استثمارات كبيرة كما ينبغى أن نتوقع، وإن لم نتمكن من الحصول على أرقام يمكن الاطمئنان إليها فى هذا الصدد.
كما كان إسقاط الطائرة القاذفة الروسية على الحدود التركية سبباً في اتخاذ موسكو إجراءات عقابية قاسية ضد تركيا، اضطرت أردوغان إلى الاعتذار لروسيا بصورة أفقدت الكثير من مصداقيته وهيبته، لكى يتم رفع هذه العقوبات الاقتصادية المؤثرة.
كما أن إطلاق موجات المهاجرين من سوريا والعراق إلى أوروبا ــ وبينهم أعداد من الإرهابيين الهاربين ــ أدى إلى توتر كبير في العلاقات بين تركيا وأوروبا، مما أثر سلباً علي التجارة والسياحة والاستثمار خاصة بعد اندفاع أردوغان لإطلاق تصريحات شديدة العنف ضد أوروبا، ولاسيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016 والإجراءات القمعية واسعة النطاق التي اتخذها ضد خصومه السياسيين سواء كانوا متورطين في الانقلاب أم لا، الأمر الذى أدى بمراقبين كثيرين إلي القول بأن محاولة الانقلاب هذه كانت من تدبير أردوغان نفسه، ليتخذها ذريعة للبطش بمعارضيه.
وأخيرًا جاء إصرار أردوغان علي إجراءات تعديلات دستوري تسمح بفرض نظام رئاسى في البلاد، على أنقاض النظام البرلمانى ليثير توترًا حادًا بينه وبين عدد من الدول الأوروبية في مقدمتها ألمانيا وهولندا والنمسا، وخاصة مع إصرار أردوغان علي إجراء حملة دعائية بين المهاجرين والأتراك هناك لدعوتهم إلى التصويت بـ«نعم» في الاستفتاء الذي أجرى يوم 16 ابريل الجارى، والذي أسفر عن فوز بطعم الهزيمة لأردوغان (51.3٪ قالوا نعم) والذى أحاطت به شبهات التزوير الفج بشهادة المراقبين الأوروبيين، وأدى ذلك كله إلي اتخاذ الاتحاد الأوروبى قرارًا بوضع تركيا تحت المراقبة فيما يتصل بحقوق الإنسان.. وهى واقعة غير مسبوقة، تزيد من عزلة تركيا أوروبياً، وتقضى بصورة تامة علي إمكانية مجرد التفكير أو الأمل بالتحاقها بالاتحاد الأوروبى، أو تمتعها بميزات جديدة في علاقاتها التجارية معه، فضلا عن تأثيرها شديد السلبية على السياحة والاستثمارات الأوروبية في تركيا.
وحدهما أمريكا «ترامب» وبريطانيا «تيريزا ماى» تشهد علاقاتهما بتركيا بعض التحسن في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة.. لكن نزوع ترامب الشديد نحو الحمائية التجارية والانغلاق الاقتصادى، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يجعل من المشكوك فيه أن تستفيد تركيا بصورة ملموسة من هذا التقارب. علماً بأن الاستثمارات الأوروبية تمثل نصيب الأسد من الاستثمارات الأجنبية في تركيا، وقد أشرنا إلي تراجعها الكبير.. بل إن الاستثمارات الخليجية انخفضت من 880 مليون دولار عام 2013 إلى 457 مليون دولار عام 2015 بسبب المخاوف الأمنية وعدم الاستقرار في تركيا برغم العلاقات السياسية الممتازة بين الطرفين.
وخلاصة القول إن الازدهار الاقتصادي التركى شهد تراجعاً كبيرا للغاية في السنوات الأخيرة، وما يسمى بـ«المعجزة الاقتصادية التركية» تنهار فعلياً بسبب سياسة أردوغان المتخبطة المغامرة، ونزعاته الاستبدادية الجامحة، ودعمه للإرهاب.