د. محمد فراج أبوالنور: الاستثمار في التعليم.. الشرط الحاسم للتقدم (2)
تحدثنا في الجزء الأول من مقالنا «الأموال ـ 26 فبراير 2017» عن القصور النابع في ميزانية التعليم ما قبل الجامعى والتعليم الجامعى والبحث العلمى سواء مقارنة بما ينص عليه الدستور، أو بالنسبة المتوسطة التي تنفقها الدول النامية، وعن الحاجة الماسة لمضاعفة عدد المدارس والفصول تقريبا لكى نتخلص من نظام الفترتين في اليوم الدراسى الواحد، ومشكلة الكثافة العالية للتلاميذ في الفصل الدراسي، بما لهاتين المشكلتين من تأثير شديد السلبية علي كفاءة العملية التعليمية. كما تحدثنا عن النقص الفادح في المعامل والمكتبات وأجهزة الكمبيوتر والوسائل التعليمية والتجهيزات الضرورية للأنشطة الفنية والرياضية وغيرها من ضرورات اكتمال العملية التعليمية وتطوير كفاءات ومهارات التلاميذ في مراحل التعليم ما قبل الجامعى.
وغنى عن البيان أن توفير هذه المقومات المادية الأساسية للتعليم ما قبل الجامعى بمختلف مراحله، يحتاج إلي استثمارات ضخمة، وخلال سنوات غير طويلة لتحقيق نقلة ملموسة في الشروط المادية للتعليم، ومن ثم في مستواه. كما ينبغي القول إن توفير هذه الاستثمارات يقع علي عاتق الدولة بصفة أساسية، حيث إن مساهمة القطاع الخاص في التعليم تهدف إلي تحقيق الربح قبل كل شىء، وبالتالي فإن مالكي المدارس الخاصة يبالغون في مصروفاتها، وفي مختلف أوجه تحقيق الأرباح بصورة تجعل هذه المدارس ـ وحتى أقلها مستوى ـ خارج نطاق إمكانات الكتلة الأساسية من أولياء الأمور. ولا يقدر عليها إلا الطبقات الغنية، والشرائح فوق المتوسطة من الطبقة الوسطى، بل إن الفئة الأخيرة تواجه صعوبات بالغة لكي تستطيع توفير نفقات تعليم أبنائها، وتحرم نفسها من احتياجات أساسية كثيرة، لكي تستطيع الوفاء بنفقات التعليم. وبالتالى فإنه في ظل الظروف الاقتصادية ومستويات الدخل الحالية، يظل التعليم العام «الحكومى» هو المسار الإجباري للكتلة الأساسية من التلاميذ، وتظل مسئولية تطويره هى مسئولية الدولة.
>> والواقع أن هذه المسئولية هى قضية أمن قومى من الطراز الأول، لأنه لا يمكن إحداث تنمية حقيقية في البلاد بدون تطوير التعليم بكافة مراحله، ولهذا فإن توفير الاستثمارات الضرورية لتطوير التعليم يظل قضية حيوية من الدرجة الأولي، وغير قابلة للإرجاء. ويجب توفير هذه الاستثمارات «الاستثمارات الضرورية لتطوير القطاع الصحى» بأسرع ما يمكن، ومراجعة أولويات الاستثمار والإنفاق الحكومى علي ضوء هذه الحقيقة الأكيدة، وفي مقدمة ذلك الإنفاق في وزارة التربية والتعليم نفسها، فضلا عن ضرورة مراجعة السياسات الضريبية لتعظيم موارد الدولة علي نحو ما سنناقش لاحقاً.
>> وإذا كنا نتحدث عن ضرورة مضاعفة عدد المدارس والفصول عموماً، فضلا عن المعامل والمكتبات والتجهيزات الفنية، فإن هذا يقودنا بالضرورة إلي الحاجة الماسة لزيادة عدد المعلمين وأمناء المعامل والمكتبات ومعلمى وفنىى الكمبيوتر بصورة كبيرة لمواكبة التوسع المشار إليه أعلاه، فضلا عن ضرورة رفع مستوى إعداد هؤلاء المعلمين ومعاونيهم.. وبديهى أن هذا كله يحتاج إلي موارد إضافية للأجور ورفع مستوى التأهيل والدورات التدريبية والبعثات.. فضلا عن الإداريين وعمال الخدمات.. الخ وتقتضى ذلك كله زيادة كبيرة لا بد منها في بند الأجور في الموازنة!! فضلا عن تلك الزيادة التى تنفق بها التغييرات المقترحة في كادر المعلمين، حيث إن مرتباتهم الحالية بائسة حقاً إذا ما قورنت بالمستويات العالمية لمرتبات المعلمين «والتى تعتبر من بين الأفضل عادة في عديد من الدول».. أو إذا قورنت بمرتبات فئات كثيرة من موظفي الدولة المصرية الأقل منهم تأهيلا وأهمية «ولا نريد التسمية تجنباً لإثارة الحساسيات.. ويكفي أن نشير مثلا لأمناء الشرطة!! أو موظفي وزارة الكهرباء»!!
وقد بلغ عدد المعلمين في مختلف مراحل التعليم قبل الجامعى عام 2015/2016 حوالي مليون معلم (999.507 ألف تحديدًا» ــ وفقاً للكتاب الإحصائى السنوى لعام 2016/ الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء (ص311) عدا المعاونين والإداريين وإذا تمت زيادة عدد الفصول علي النحو الذى تحدثنا عنه، فضلا عن توفير المعامل والمكتبات والأنشطة، فإن الزيادة المطلوبة في عدد المعلمين لن تقل عن مئات الآلاف!!ولا نجازف طبعاً بمحاولة تحديد الرقم، لأن هذا يحتاج إلي دراسة جدية.. لكن المؤكد أن الزيادة ستكون كبيرة، وستحتاج إلي موارد مالية ضخمة لتغطيتها.
فواضح أن كل ما تحدثنا عنه يستحيل تحقيقه بأى درجة فى ظل ميزانية التعليم الحالية (69.3 مليار جنيه لعام 2015/2016).. كما يصعب تحقيق نتائج طيبة باتجاه تحقيقه حتى مع الرقم المفترض في حالة تطبيق المادة الدستورية (126 مليارجنيه).. وأنه لا مفر من التدرج في تطبيق أى برنامج جدي لتطوير التعليم، بشرط أن يكون هذا التدريج حثيثاً، ومتصاعدًا بثبات لكي يمكن تحقيق نتائج مرضية في المدى المنظور.
ويؤدى هذا بنا إلي القول بضرورة إعادة النظر في أولويات الاستثمار لصالح دعم كبير وعاجل للاستثمار في مجال التعليم.. وبديهى أن هذا سيصطدم بعقبة ميزانية الدولة ومواردها.. وهنا نصل إلي ضرورة إعادة النظر في السياسة الضريبية بأكملها «ليس بسبب التعليم وحده.. وإنما بسبب العجز العام في الموازنة» فليس معقولا أن يكون سقف ضريبة الدخل للموظفين والعاملين 20٪.. بينما يكون سقف ضريبة الأرباح الصناعية والتجارية 22٪ لأعلى شريحة ضريبية.. وأن يكون كبار الممولين وحدهم متخلفين عن سداد أكثر من مائة مليار جنيه للدولة، فضلا عن المتوسطين والصغار.. وإذا كان رئيس اتحاد المستثمرين نفسه «المهندس محمد فريد خميس» يقترح رفع سقف ضريبة الأرباح الصناعية والتجارية إلي 30٪ «تصاعدية» فلا يمكن أن تكون الدولة «ملكية أكثر من كبير المستثمرين»!! وليس هنا مجال التوسع في مناقشة سبل زيادة موارد الموازنة العامة.. لكن من الواضح أننا لن نستطيع التقدم خطوة واحدة إلي الأمام بغير ذلك.. كما أننا لا نستطيع مواصلة السياسة الخاطئة القائمة على الاستدانة من أجل سدّ عجز الموازنة.
ومن جهة أخرى فإن ميزانية وزارة التربية والتعليم نفسها بحاجة إلي مراقبة وضبط شديدين لمواجهة كل من الإنفاق غير الرشيد والفساد المستشرى على السواء.. إذ تشير مناقشات كثيرة في الصحف ووسائل الإعلام إلي تضخم كبير في عدد العاملين في الديوان العام للوزارة، ودواوين مديريات التربية والتعليم بالمحافظات، بدءا من المستشارين إلي السكرتارية والإداريين، وإلي مرتبات ومكافآت ضخمة لكبار العاملين يستحيل قبولها «نشرت جريدة المصرى اليوم مثلا سلسلة من التحقيقات منذ سنوات قليلة أشارت إلي أن وكيل الوزارة للتعليم في محافظة القاهرة يحصل شهريا علي 160 ألف جنيه شهرياً.. وبالوثائق والمستندات، دون أن تتلقى أى رد أو تكذيب من الوزارة!! فما بالنا بمن هم أكبر!!» كما تنشر الصحف من وقت لآخر أخبارًا عن إهدار عشرات الملايين من الدولارات من مساعدات دولية لتطوير التعليم على مكافآت لعضوية لجان وهمية وسفريات لموظفين كبار بلا ضرورة، ووقائع فساد في هيئة الأبنية التعليمية «أو إهدار للمال العام».. وعن مكافات عن أعمال الامتحانات لكبار الموظفين وغيرهم من المحظوظين تصل إلى 900 يوم من المرتب ــ بمن فيهم طاقم حراسة الوزير ــ بينما يحصل المعلم المنغمس في عملية الامتحانات من بدايتها حتى نهايتها علي مكافآت لا تزيد علي 200 يوم.. والملاحظ أن وزارة التربية والتعليم لا تهتم عادة بالرد علي هذه الاتهامات بالرغم من خطورتها.. كما أننا لم نسمع حرفاً واحدًا عن خطة الوزارة لترشيد إنفاقها وفقاً للقرار الذى اتخذته الحكومة منذ عدة أشهر..
وبديهى أن القضاء علي الفساد والإنفاق غير الرشيد لن يحل مشكلة ميزانية التعليم.. لكنه في جميع الأحوال يمكن أن يوفر عدة مليارات تكفي لسدّ ثغرة لا بأس بها في العجز الفادح الذى تواجهه ميزانية التعليم في مصر..
>> وللحديث بقية حول مختلف العناصر الأساسية لأزمة التعليم وسبل حلها.