د. محمد فراج يكتب : ترامب.. والعرب وفلسطين وإسرائيل (2)
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال (الأموال ـ 5 فبراير 2017) عن موقف ترامب من الإرهاب، وانعكاسات هذا الموقف علي السياسة الأمريكية في المنطقة العربية والشرق الأوسط ومحددات سياسة الولايات المتحدة الخارجية عموما في عهد الرئيس الجديد، ونتحدث اليوم عن مواقف ترامب تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي، وانعكاسات هذه المواقف علي السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وآثارها المحتملة علي العلاقات العربية ـ الأمريكية، وما تنطوى عليه من محاذير ومخاطر ينبغي التحسب لها.
ولعل أول ما يلفت النظر في هذا الصدد أن برنامج ترامب الانتخابي قد تحدث عن نقل السفارة الأمريكية في تل أبيب إلي القدس فور تولي ترامب السلطة!!
وبالمناسبة فإن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس هو قرار أمريكى قديم، لكنه يخضع للتأجيل المستمر نظرا لتعثر التسوية السياسية بين الدولة الصهيونية والسلطة الوطنية الفلسطينية، والجديد هنا هو إعلان ترامب عن عزمه علي تنفيذ هذه الخطوة «فورًا» بما يعنيه ذلك من انتهاك خطير للحقوق الفلسطينية وللقانون الدولى. ومعروف أن العلاقات بين إدارة أوباما والحكومة اليمينية الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو كانت قد شهدت توترا ملحوظا بسبب إصرار تل أبيب علي تسريع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية، ونسف أى إمكانية جدية لتنفيذ حل الدولتين على الأراضي الفلسطينية التاريخية، والسياسة المهيمنة في تطرفها وعدوانيتها ضد الشعب الفلسطينى من جانب حكومة نتنياهو.
ووصل الأمر إلي حد زيارة نتنياهو للعاصمة الأمريكية واشنطن دون دعوة من أوباما الذى رفض استقباله ـ وإلقائه خطابا أمام الكونجرس الأمريكى الذى استقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية بحرارة شديدة!! فيما اعتبره المراقبون إهانة مباشرة لأوباما.. وعبرت إدارة أوباما عن رفضها لسياسة الاستيطان الإسرائيلية بامتناعها عن التصويت ضد قرار بإدانة الاستيطان في مجلس الأمن الدولي، مما سمح بتمرير القرار بأغلبية 14 صوتا، من بينها بريطانيا وفرنسا «القرار رقم 2334 بتاريخ 23 ديسمبر 2016»، الأمر الذى مثل هزيمة دبلوماسية وسياسية كبيرة لإسرائيل، وأثار غضبا شديدا في تل أبيب، وكانت هذه هى المرة الأولي منذ عام 1979 التى تمتع فيها الولايات المتحدة عن إسقاط قرار بإدانة إسرائيل.
واللافت للنظر هنا هى أن الرئيس الأمريكى المنتخب «ترامب» مارس ضغوطا شديدة لمحاولة منع طرح القرار علي مجلس الأمن أصلا، بغض النظر عن أنه لم يكن قد تولي منصبه رسمياً بعد!! ثم أدلى بتصريحات غاضبة ضد الأمم المتحدة بعد اتخاذ مجلس الأمن الدولي للقرار، معلناً أنه حين يتولي الرئاسة سيتم تغيير مثل هذه المواقف من جانب المنظمة الدولية، ومهددا باستخدام سلاح التمويل الأمريكى للأمم المتحدة «حوالى ربع ميزانيتها» لفرض ما تريده واشنطن!! وكان بديهيا أن يلقى هذا الموقف ترحيبا إسرائيليا حارًا، خاصة مع الوعد بنقل السفارة.
كما أن هذا الموقف من جانب ترامب قد شجع حكومة نتنياهو علي التقدم بمشروع قانون إلى الكنيست ــ تم إقراره فعلا وبصورة نهائية ـ بإسباغ الشرعية على المستوطنات الصهيونية التى أقامتها جماعات المستوطنين المتطرفين في مناطق مختلفة من الضفة الغربية دون تصريح رسمى من الحكومة، وإن يكن بموافقتها ورعايتها طبعا.. كما يعطى القانون المذكور الحق للدولة الصهيونية في نزع ملكية الأراضي المملوكة للفلسطينيين ــ وبأثر رجعى!! ــ حتى لو كانت هذه الأراضي مملوكة ملكية خاصة، الأمر الذى يفتح الباب علي مصراعيه لتمزيق ما تبقى من أراضى الضفة الغربية، ويقطع الطريق عمليا علي إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية، خاصة إذا أضفنا إلى هذا القانون عمليات التهويد الجارية علي قدم وساق في القدس، والاعتداءات المستمرة علي المسجد الأقصى الشريف أولي القبلتين وثالث الحرمين.
والواقع أن كل هذه الإجراءات، علاوة علي ما تمثله من انتهاك شديد الفظاظة للحقوق الفلسطينية، فإنها تمثل أيضاً تهديدًا خطيرًا بتصفية القضية الفلسطينية، وترفع إلي حد كبير مستوى التوتر السياسى والجماهيرى في الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضى المحتلة منذ عام 1948، وشتى تجمعات الشعب الفلسطينى.. كما تثير غضبا جماهيريا واسعا في مختلف البلدان العربية والإسلامية.. ومعروف ما تمثله القدس بالذات من أهمية وحساسية بالغة في الوجدان العربي والإسلامى، وبالتالي فإن هذه الإجراءات تسبب حرجا بالغا لكل الأنظمة العربية والإسلامية المتحالفة مع الولايات المتحدة، وتلك التى تربطها معاهدات سلام وعلاقات بإسرائيل، أو التي تسير علي طريق ما يسمى بـ«التطبيع» مع الدولة الصهيونية، بغض النظر عن كل الجرائم التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطينى.
لذلك فإننا نرى أن جميع الدول العربية والإسلامية يجب أن يكون لديها موقف واضح تماما.. ومعلن بكافة الأشكال المتاحة السياسية والإعلامية والدبلوماسية أمام شعوب تلك الدول، وأمام إدارة ترامب علي السواء تجاه قضية نقل السفارة الأمريكية إلي القدس، وقضية الاستيطان، وما يسمى بـ«يهودية الدولة الإسرائيلية».. وكل القضايا المتفرعة عن القضية الرئيسية.. قضية الصراع العربي ـ الصهيونى.
ونفهم تماما أن الموقف الأمريكى من الإرهاب قد يمثل عنصرا إيجابيا جديدا في سياسة واشنطن في ظل حكم ترامب.. لكننا لا نستطيع أن نتجاهل ما يتضح كل يوم بوضوح أكثر من محاولات خبيثة للربط بين الإرهاب والإسلام!! والسعى لابتزاز الدول العربية والإسلامية بهذه الطريقة الملتوية، كما أننا لا نستطيع أن نتجاهل الطابع العنصرى لقرار ترامب بمنع دخول أبناء «7 دول» عربية وإسلامية إلي الولايات المتحدة، ووقف إجراءات هجرة 20 ألف لاجئ سورى إليها، بما في ذلك منع دخول حاملي بطاقات الإقامة الدائمة «الجرين كارد» من أبناء تلك الدول إلي الأراضي الأمريكية.. وهو القرار الذى أثار غضبا واسعا في العالم كله، وفي الولايات المتحدة ذاتها، وأصدر القضاء الأمريكى قرارا مضادا له يقضي بوقف تنفيذه، لما يتسم به من تمييز ضد المسلمين ونزعة عنصرية.
وبتعبير أوضح فإن الدول العربية لا ينبغى لها بأى حال من الأحوال أن تقايض الموقف الأمريكى الداعم لإسرائيل والهادف لتصفية القضية الفلسطينية، بموقف إدارة ترامب من الإرهاب أو جماعة «الإخوان» أو التصعيد مع إيران، الذي ترى بعض الدول العربية أنه يحقق مصالحها، بينما تدرجه واشنطن في سياق مختلف تماما يتصل بتحقيق مصالح أمريكية في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط تحت هيمنة إسرائيلية وبإشراف أمريكى، بعد نجاح خطة «الفوضي الخلاقة» فى تدمير عدد من الدول العربية، وإضعاف الدول الأخري. كما أنه لا يمكن مقايضة السياسات الأمريكية والصهيونية المدمرة بمساعدات تلوّح بها واشنطن لدول عربية تواجه مصاعب اقتصادية حادة مثل مصر أو الأردن أو لبنان أو السودان أو تونس.
>> والواقع أن كل ما ذكرناه، على خطورته البالغة لا يمثل إلا مقدمات لخطة أخطر لتصفية القضية الفلسطينية علي حساب مصالح وسيادة عدد من الدول العربية في مقدمتها مصر وسوريا والأردن ولبنان مما يستوجب أشد الحذر من جانب المسئولين والسياسيين العرب، والشعوب العربية.. فمع تصاعد الدعم الأمريكى لإسرائيل، وفي ظل الضعف والانقسام العربي الحالي، كانت تطل برأسها في الإعلام الأمريكى والإسرائيلي خطة بالغة الخطورة والخبث لإنهاء القضية الفلسطينية من خلال ما يسمى بـ«الوطن الفلسطينى البديل» عبر الإجراءات الرئيسية التالية:
1 - ما يسمى بـ«الخيار الأردنى» بتهجير سكان الضفة الغربية والقدس والخليل الفلسطينيين إلي الأردن، ليلحقوا بإخوانهم اللاجئين في المملكة منذ عام 1948 ثم بعد عدوان 1967.. بحيث يكون الأردن دولة للفلسطينيين، الذين يمثلون حاليا نحو 60٪ من سكانه، بما يمثله ذلك من خلل ديموغرافي وما يثيره من حساسيات شديدة لدي السكان الأردنيين..
2 - إقامة ما يسمى بـ«غزة الكبرى» كدولة ثانية للفلسطينيين عبر ما يدعونه «تبادل للأراضى» بين إسرائيل ومصر، بأن تقدم مصر «600كم2» من المناطق الحدودية المجاورة لقطاع غزة، وصولا إلي العريش مقابل تقديم إسرائيل مساحة مماثلة من صحراء النقب إلي مصر!! بحيث يتم حل مشكلة الاكتظاظ السكاني الشديد في غزة، وكأن أراضى الوطن المقدسة التي أريقت الدماء الزكية للدفاع عنها علي مدي العصور مسألة يمكن حلها بالمساحات والكيلومترات المربعة!! وبغض النظر عما يمكن أن يسببه مثل هذا «الحل!!» الخرافي من مخاطر فادحة على سيادة مصر وأمنها القومى.. وعن اصطدامه بأعمق نوازع الوطنية المصرية.
3 - توطين اللاجئين الفلسطينيين الحاليين في سوريا ولبنان، بصفة أساسية، وغيرهما من البلدان العربية، ومنحهم جنسية تلك البلدان، بالإضافة إلى تهجيرعدد من هؤلاء اللاجئين إلي عدد من البلدان الأوروبية.
ونعتقد أن الضغوط الأمريكية خلال الفترة المقبلة ستتجه في هذا الاتجاه، الأمر الذى يقتضى استباقها بإعلان موقف عربي واضح ضد الإجراءات الحالية، وضد خطط «الوطن الفلسطينى البديل» و«الخيار الأردنى» و«غزة الكبري» وأي تنويعات لهذه الخطط الخبيثة.. كما يقتضى من مصر بالذات تكثيف جهودها لتحقيق المصالحة الفلسطينية، وإنهاء الانقسام الحالي الذى تدعمه دول مثل تركيا وقطر، بما يمثل تهديدًا حقيقياً بظهور كيانين فلسطينيين كأمر واقع!! وهو خطر فادح لا يهدد بتصفية القضية الفلسطينية فحسب، وإنما يمثل أيضاً خطرًا داهماً علي الأمن القومى المصري والأردنى والعربي بمجمله، ولا يمكن أن يتساهل معه بأى صورة من الصور أى مسذول أو مواطن مصري أو عربي واحد يستحق شرف الانتماء لمصر أو للعروبة، لأن من يجرؤ علي مجرد التفكير في ذلك سيلطخ اسمه بالعار إلي الأبد.