د. محمد فراج يكتب : الحرب الأوكرانية.. صراع على حافة الهاوية النووية (3)
التهديدات الروسية والاستجابة الأمريكية
واضح أن التهديدات الروسية باستخدام السلاح النوى التكتيكى فى حالة سماح الغرب لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى "ثلاثمائة كيلومتر" فى ضرب العمق الروسى، كان لها صداها في الغرب، فقد انتهى لقاء الرئيس الأمريكى بايدن بنظيره الأوكرانى زيلينسكى بالاتفاق على حزمة مساعدات عسكرية أمريكية لكييف تشمل أنظمة دفاع جوى وصواريخ "جافلين" المضادة للدبابات ومدفعية وذخيرة، الخ.. ولكن دون أى إشارة إلى أنظمة "أتاكامس Atacms" الصاروخية بعيدة المدى "300 كم"، وأشار مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان إلى أن حزمة المساعدات لم تشمل أنظمة الصواريخ المذكورة، وإن كان هذا لا يعنى عدم إمكانية نقاش هذه المسألة فى المستقبلة (جريدة الشرق الأوسط، 22 سبتمبر 2024).
ويأتى هذا الموقف الأمريكى تأكيدا لرفض بايدن الاستجابة لطلب رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر فى قمة أخيرة جرت بينهما فى واشنطن برفع الحظر عن استخدام أوكرانيا لأنظمة الصواريخ بعيدة المدى فى ضرب العمق الروسى، وهو المطلب الذى كان الرئيس الفرنسى ماكرون يدعو إليه بحماس!! فضلا عن دعوته لإرسال قوات فرنسية وأطلسية إلى أوكرانيا!!
وهكذا يسدل الستار ولو مؤقتا على هذا التوجه التصعيدى الخطير، لأنه لا بريطانيا ولا فرنسا تستطيعان الإقدام على مثل هذه الخطوة بدون موافقة أمريكية صريحة، نظرا لما يمكن أن يترتب على هذا التصعيد الخطير من عواقب فادحة، وباختصار فإن "قواعد الاشتباك" الحالية تظل سارية حتى إشعار آخر.
خلخلة في الموقف الأوروبى
ومن ناحية أخرى يلفت النظر تكرار دعوة المستشار الألمانى "أولاف شولتس" فى اجتماع للبرلمان الألمانى لمناقشة موازنة 2024/ 2025 إلى عقد مؤتمر للسلام فى أوكرانيا تحضره روسيا بعد أن كانت الدول الغربية قد عقدت مؤتمرا فى سويسرا (15/ 16 يونيو) لبحث إمكانية إنهاء الحرب فى أوكرانيا وكان مؤتمرا هزليا بحق لأنه انعقد بدون حضور روسيا!!
وأقر خطة للسلام وضعها زيلينسكى.. أى أن المجتمعين كانوا يحاورون أنفسهم فى غياب الطرف الآخر.
دعوة المستشار الألمانى لها وزن خاص، لأن ألمانيا هى كبرى دول الاتحاد الأوروبى، ومعروف أن الحكومة الألمانية كانت قد رفضت زيادة مساعدات برلين لأوكرانيا تحت ضغوط برلمانية وبسبب الأزمة الاقتصادية التى تواجهها ألمانيا ودول أوروبا الغربية الصناعية الكبرى والتى من أهم أسبابها العواقب السلبية للعقوبات الأوروبية ضد روسيا، والتى أدت إلى خسائر فادحة للاقتصادات الأوروبية، وبصفة خاصة بسبب ارتفاع أسعار البترول والغاز والفحم بصورة كبيرة.
وقد أشار شولتس إلى النجاحات الملحوظة التى حققتها الأحزاب الشعبوية اليمينية فى الانتخابات البرلمانية فى عدد من الدول الأوروبية، بما فيها ألمانيا وفرنسا، وأثر هذه النجاحات فى زيادة الضغوط على حكومات الاتحاد الأوروبى من أجل وضع حد للمساعدات الأوروبية إلى أوكرانيا أو تقليصها بصورة كبيرة، بينما كانت واشنطن تدعو حليفاتها الأوروبيات لزيادة مساعداتها لكييف لمواجهة الآثار التى ترتبت على نجاح الجمهوريين في وقف برنامج المساعدات الأمريكى الضخم لأوكرانيا (61 مليار دولار) فى إطار صفقة رفع سقف ديون الحكومة الفيدرالية.
ومعروف أن دولًا أروبية صغيرة مثل المجر وسلوفاكيا، كانت قد دعت لبذل جهود من أجل وقف الحرب فى أوكرانيا لكنها ووجهت بهجوم شرس من جانب المفوضية الأروبية وخاصة من جانب المسئول عن الشئون الخارجية فيها "جوزيف بوريل" إلا أن الأمر يختلف تماما من حيث الدلالة الوزن حينما تجىء الدعوة من ألمانيا، كبرى دول الاتحاد الأوروبى.
قبل أن يجىء ترامب!!
اللافت للنظر أن دعوة المستشار الألمانى لمؤتمر السلام فى أوكرانيا ويؤيده فيها زيلينسكى تتضمن عقد هذا المؤتمر قبل الانتخابات الأمريكية تحديدًا ومعروف أن موقف المرشح الجمهورى والرئيس السابق ترامب من الحرب الأوكرانية يختلف بصورة واضحة عن موقف الرئيس الحالى بادين والحزب الديمقراطى، إذ يُعلن ترامب باستمرار أنه يستطيع وقف هذه الحرب خلال يوم واحد!! باتصال تليفزيونى من جانبه بكل من بوتين وزيلينسكى وعرض صفقة للتسوية عليهما!!
وبغض النظر عن طريقة ترامب الكاريكاتيرية فإن اختلاف موقفه عن موقف بادين والديمقراطيين تجاه الحرب فى أوكرانيا يثير مخاوف كبيرة فى أمريكا وأوروبا الغربية من إمكانية اتخاذ البيت الأبيض مواقف غير مواتية لأوكرانيا، خاصة أن ترامب قد ندد أكثر من مرة بالفساد المتغلغل فى أوكرانيا وبما أطلق عليه "مواهب زيلينسكى فى التسويق لمواقفه"، كما سبق له أن أعلن أن شبه جزيرة القرم أغلب سكانها من الروس ويتحدثون اللغة الروسية وبالتالى فإنها يجب أن تكن تابعة لروسيا وهو موقف يعتبره الديمقراطيون نوعًا من الكفر الصريح!!
وبالرغم من كل ما ذكرناه فإننا نؤكد أن من الخفة والسطحية مناقشة قضية استراتيجية كبرى مثل الصراع بين روسيا والولايات المتحدة وحلف الناتو بهذه الطريقة "الفرق بين موقف ترامب وبايدن أو ترامب وكاميلا هاريس"، فهذا الصراع يقع فى صميم الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة الأمريكية بما فيها قضية توسع حلف الناتو شرقًا وحصار وإضعاف روسيا، ومثل هذه القضايا لا يمكن حلها بمكالمة تليفونية ولا بقمة أو حتى عشر قمم بين رئيسين، كما أنها تقع فى صميم اختصاص "الدولة الأمريكية العميقة" بكل مؤسساتها وفى مقدمتها البنتاجون وأجهزة الأمن القومى، وبالتالى فإن تأثير الرئيس فيها محدود بالضرورة ولا يمكن أن يخرج عن "الإطار العام" لمواقف الدولة الأمريكية العميقة، وإلا فإن الأمر يمكن أن يصل إلى حد اغتيال الرئيس على أيدى هذه المؤسسات شديدة الضراوة.
ولا يمكن أن ننسى اغتيال الرئيس الأمريكى جون كيندى عقابا له على ما اعتبرته تلك المؤسسات "موقفًا تصالحيًا" مع الاتحاد السوفيتى فى حل أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 وكذلك موقفه فى فتح حوار مع مصر "عبدالناصر" حول سبل حل القضية الفلسطينية.
وبالنسبة لترامب نفسه فقد كان قد تحدث كثيرًا من إمكانية حل الأزمة مع كوريا الشمالية وقضية أسلحته النووية من خلال دبلوماسية القمة أثناء رئاسته لأمريكا، وعقد قمتين مع الرئيس الكورى الشمالى "كيم يونج أون" وأشاع أجواء من التنازل المفرط قبل وأثناء وعقب القمتين، لكن وزير خارجيته "جورج بومبيو" ومستشاره للأمن القومى "جون بولتون" كانا حريصين دائمًا على طرح شروط وتحفظات تعسفية تفسد أجواء التفاؤل هذه، وتفرغ أحاديث الرئيس من مضمونها، وقبل أن تنفض القمة!! وهكذا ذهب ترامب وبقيت الأزمة الكورية على حالها..
وبالنسبة لأوكرانيا ذاتها فإن ترامب كان فى البيت الأبيض لمدة أربع سنوات لكنه لم يستطع إلغاء عقوبة واحدة من العقوبات التى فرضتها أمريكا وأوروبا الغربية على روسيا بسبب استعادتها لشبه جزيرة القرم (2014) كما أنه لم يستطع اتخاذ إجراء واحد لوقف سياسة توسع حلف الناتو شرقا بما فى ذلك توسع التغلغل الأمريكى والأطلسى فى أوكرانيا نفسها، وهى السياسة التى أدت إلى اشتعال الحرب الجارية الآن.
بل على العكس فإن ترامب ظل طوال سنوات حكمه هدفا لحملات شرسة شنها ضده زعماء الحزب الديمقراطى وأركان الدولة العميقة بتهمة التواطؤ مع روسيا وبوتين، ومشاركة روسيا فى التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والوقوع تحت تأثير بوتين فى لقاءات القمة التى جمعت بينهما، إلخ.. وظلت العلاقات الأمريكية – الروسية على نفس حالتها من التدهور الذى كانت عليه أثناء رئاسة أوباما.
وخلاصة القول إن الطريق لإنهاء الصراع المحتدم فى أوكرانيا أكثر تعقيدًا بكثير جدًا من التصورات السطحية التى يطرحها ترامب أو غيره.
وللحديث بقية..