د.محمد فراج يكتب : الصهيونية بين الخرافات وحقائق التاريخ (٦)
«الفلسطينيون باعوا أرضهم».. أكذوبة صهيونية كبرى.. يروّج لها بعض «العرب»!!
تناولنا بالعرض والنقاش فى المقالات السابقة من هذه السلسلة عددًا من أهم الخرافات التى قامت عليها الحركة الصهيونية بدءًا من «الوعد الإلهى» المزعوم لليهود بمنحهم أرض المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات! وأوضحنا أن اليهود القدامى لم يكونوا غير مجموعة صغيرة من القبائل التى عاشت على جزء صغير من أرض فلسطين، بين مجموعة من القبائل والأعراق الأخرى في مقدمتها «الفلسطينيون» الذين عاشوا فى فلسطين منذ خمسة آلاف عام، ومنهم اكتسبت البلاد اسمها فضلا عن الآراميين وغيرهم من الأقوام السامية.
كما أوضحنا انقطاع الصلة التاريخية بين هؤلاء اليهود القدامى واليهود المعاصرين الذين ينتمون إلى بلاد أخرى تماما هى مملكة «الخزر» التى ملكها ونخبتها الديانة اليهودية لمدة قرنين تقريبا قبل أن يتم تدميرها فى القرن العاشر الميلادى وتشتت سكانها فى البلدان المجاورة وتتبعنا مراحل هذا الشتات، ودرجات اندماج الجماعات اليهودية فى المجتمعات التى عاشت بين ظهرانيها، وصولا إلى ظهور الصهيونية كحركة سياسية منظَّمة «مؤتمر بازل ١٨٩٧» مرتبطة منذ ميلادها بالدولة الاستعمارية الأولى فى العالم وقتها - بريطانيا العظمى - ومن ثَمَّ صدور وعد بلفور بإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين، التى تم لبريطانيا احتلالها فعلا فى نوفمبر ١٩١٧ وتعيين مندوب سام بريطانى عليها هو البريطانى الصهيونى البريطاني «السير هربرت صمويل» عام ١٩٢٠.
الغريب فعلا هو أن مؤتمر «سان ريمو/ ابريل ١٩٢٠» الذى عقدته الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الأولى وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا تبنى وعد بلفور، وكلف بريطانيا بتنفيذه وهو ما كانت قد شرعت فيه بالفعل.
صك الانتداب وتنفيذ المؤامرة
مع تأسيس «عصبة الأمم» كان من أولى الوثائق التى صدرت عنها مشروع «صك الانتداب» البريطانى علي فلسطين (يوليو ١٩٢١) ليوضع موضع التنفيذ فى ٢٩ سبتمبر ١٩٢٢.
واللافت للنظر أن «صك الانتداب» الذى يكلف بريطانيا بتنفيذ وعد بلفور يتبنى فى ديباجته الخرافات الصهيونية حول الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين، فبعد سطور المقدمة مباشرة تتحدث الديباجة عن «الصلة التاريخية التى تربط الشعب اليهودى بفلسطين، والأسباب التى تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومى فى تلك البلاد»!!
وتنص المادة الثانية من صك الانتداب عن مسئولية الدولة المنتدبة عن وضع البلاد فى أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومى اليهودى وفقًا لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك»، ويعترف الصك «مادة ٤» بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة فى إدارة فلسطين، والتعاون معها فى الأمور المتصلة بإنشاء الوطن القومى اليهودى، كما تنص مادته السادسة على «واجب» إدارة فلسطين فى تسهيل هجرة اليهود، بينما تنص المادة الحادية عشرة على التعاون بين سلطة الانتداب والوكالة اليهودية فى إنشاء أو تسيير الأشغال والمصانع والخدمات والمرافق العامة «مادة ١١»، ونلاحظ أن هذا الحق غير متاح لهيئات ممثلة للفلسطينين أصحاب البلاد.
وتعترف المادة ٢٢ من صك الانتداب بثلاث لغات رسمية للبلاد هى الانجليزية والعربية والعبرية!! وتقضي بضرورة الكتابة بهذه اللغات الثلاث علي العملات وذلك بغض النظر عن ضآلة عدد اليهود فى البلاد فى ذلك الوقت، والأهم من ذلك بغض النظر عن معرفة المهاجرين اليهود باللغة العبرية!! والحقيقة أن قليلين للغاية هم الذين كانوا يعرفونها، لأنها لغة ميتة فعليا بينما كان المهاجرون اليهود يتحدثون بلغات البلاد القادمين منها، وكان يهود روسيا وشرق أوروبا يتحدثون بلغة «اليدين» وهى خليط من الروسية والألمانية واللغات المحلية الأخرى وكان هؤلاء يمثلون ــ وقتها ــ أغلبية المهاجرين اليهود.
وكان إحياء ونشر اللغة العبرية أحد اتجاهات نشاط الحركة الصهيونية، ونلاحظ هُنا اهتمام سلطات الانتداب «عصبة الأمم» بالانخراط فى هذا النشاط بإنجاحه، من خلال النص علي العبرية كلغة رسمية.
وباختصار فإن صك الانتداب كان بمثابة برنامج عمل لسلطات الانتداب من أجل وضع لبنات بناء الدولة الصهيونية وتسهيل عمل الوكالة اليهودية والمؤتمر الصهيوني العالمى في هذا الصدد، والتعاون معهما بكل السبل، ولابد أن نشير هنا إلى نقطتين هامتين، أولاهما هى منح «الأراضى الأميرية» وغير المشغلة للمهاجرين اليهود «المادة ٦» وتتبدى أهمية هذه النقطة على ضوء رفض الفلسطينيين بيع أراضيهم للوكالة اليهودية أو غيرها من منظمات المهاجرين اليهود، بالرغم من كل الإغراءات والضغوط.
أما النقطة الثانية فتتصل بتغاضي سُلطات الانتداب عن امتلاك المهاجرين اليهود ومستوطناتهم للسلاح والتدريب عليه، ثُمَّ إنتاجه فى مرحلة لاحقة، بينما كانت تنتهج سياسة بالغة الصرامة إزاء امتلاك الفلسطينيين للسلاح، تصل إلى حد السجن لفترات طويلة والنفى من البلاد وهدم المنازل فى حالة ضبطه لديهم.
وهذه نقطة سيكون لها أثرها الكبير على مجريات الصراع فى مراحله المختلفة، وخاصة بعد الزيادة الكبرى فى أعداد المهاجرين اليهود من أوروبا هربا من الاضطهاد النازى ثُمَّ وصول عشرين ألفا من المهاجرين الذين خدموا فى «الفيلق اليهودى» ضمن صفوف القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.
أرض بلا شعب.. لشعب بلا أرض!!
النقطتان السابقتان لهما علاقة وثيقة للغاية بتطورات الصراع فى فلسطين قبل النكبة، ومعرفة حقائقها ضرورية إلى أقصى حد لفضح خرافة صهيونية نتحدث عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» وتوضيح دور الانتداب البريطانى فى إقامة المشروع الصهيونى، فحينما احتلت بريطانيا فلسطين (١٩١٧) لم يكن عدد المهاجرين اليهود فيها يزيد علي بضعة آلاف مقابل «سبعمائة ألف فلسطينى» أى أنه لم يكن صحيحًا على الإطلاق أن فلسطين هى «أرض بلا شعب».
وقد أوضحنا فى المقالات السابقة من هذه السلسلة زيف مقولة «الشعب اليهودى» واختلاف طابع تكوين الجماعات اليهودية حسب أماكن انتشارها ودرجة تطور المجتمعات التى تعيش فيها، وضعف شعبية الحركة الصهيونية وسط هذه الجماعات لفترة طويلة. وهو ما يؤكد أن فكرة «شعب بلا أرض» هى خرافة صهيونية أصلا.
لكن التسهيلات الضخمة التى قدمتها سلطات الانتداب البريطاني للهجرة اليهودية، وتسليمها «الأراضى الأميرية» ــ أراضى الدولة ــ للوكالة اليهودية ثم الهجرة الواسعة لليهود الأوروبيين هربًا من الاضطهاد النازى قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ - ١٩٤٥) كلها عوامل أدت إلى ظهور واقع جديد فى فلسطين، فقد بلغ عدد الفلسطينيين فى أعقاب الحرب وقبل النكبة مليون مواطن، بينما زاد عدد المهاجرين الصهاينة إلى أكثر من ستمائة ألف بينهم عدد كبير من القادرين على حمل السلاح والتدريب عليه، ولديه كميات كبيرة منه ومن الذخائر، فضلا عن تنظيم صناعة للأسلحة الخفيفة بالذات «المسدسات والبنادق والرشاشات» والذخيرة فى المستعمرات الصهيونية، بينما كانت سلطات الانتداب البريطانى تضع بقسوة أى فلسطينى يتم ضبط أى سلاح لديه.
الأرض هى العرض
وبالرغم من ذلك كله فإن إحصاءات الأمم المتحدة تشير إلى أن المهاجرين الصهاينة لم يكونوا يملكون سوى «٥.٧ أى أقل من ستة فى المائة» من الأراضى الفلسطينية أغلبها الساحق منحته لهم سلطات الانتداب، بينما كانوا قد تمكنوا من شراء مساحات محدودة للغاية من «الملاك الغائبين» من رعايا الدولة العثمانية من غير الفلسطينيين الذين كانوا يملكون أراضى فى البلاد، أما الفلسطينيون فقد كانوا يرفضون بإصرار بيع أى أراض للصهاينة مهما كانت الإغراءات أو الضغوط، وكانوا يرفعون شعار «الأرض هى العرض».. أى أنه لا يمكن التفريط فيها.
فنؤكد مرة أخرى أن هذه حقيقة تثبتها أرقام الأمم المتحدة ويمكن الرجوع إليها بكل بساطة على جوجل، كما تذكرها كتابات رصينة لأساتذة كبار في جامعات أمريكية وبريطانية وعلى جوائز من المجتمعات العلمية فى أمريكا مثل البروفيسور وليد الخالدى والبروفيسور رشيد الخالدى.
وهذا ما يؤكد كذب الخرافة التي يروِّجها الصهاينة حول أن «الفلسطينيين باعوا أرضهم»!! وهى الخرافة التى يروِّج لها بعض الإعلاميين والسياسيين العرب الذين اخترقت الدعاية الصهونية عقولهم للأسف الشديد أو المغرضين أو الجاهلين بحقائق التاريخ.
وللحديث بقية..