اسامة ايوب يكتب : اتفاق الهدنة بين حماس وإسرائيل وما بعده.. ملاحظات وحقائق ودلالات
لا شك أن الرهائن المدنيين والأسرى العسكريين الإسرائيليين الذين احتجزتهم وأسرتهم كتائب عز الدين القسّام خلال عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر الماضى كانوا ورقة الضغط بالغة الأهمية لدى المقاومة الفلسطينية التى أجبرت الحكومة الإسرائيلية على الموافقة على اتفاق الهدنة مع حركة حماس والذى تم الإعلان عن التوصل إليه فجر الأربعاء الماضى- وقت كتابة هذه السطور- بوساطة قطرية وجهود مصرية أمريكية مشتركة.
هذا الاتفاق يُعد فى مجمله انتصارًا للمقاومة الفلسطينية رغم التكلفة الباهظة التى تكبدها الفلسطينيون طوال سبعة أسابيع جراء العدوان الصهيونى الوحشى الذى دمّر غزة وأحالها إلى خراب وأرض غير صالحة للحياة الإنسانية وقتل آلاف المدنيين والأطفال والأطفال الرُضع فى أبشع جريمة حرب فى التاريخ الحديث وفى انتهاك خسيس للقانون الدولى والقانون الدولي الإنسانى.
بينما يعد الاتفاق في مجمله أيضًا هزيمة سياسية وعسكرية لحكومة إسرائيل ورئيسها مجرم الحرب نتن ياهو إذ رغم حرب الإبادة والمجازر الوحشية فقد فشلت قوات الاحتلال فى تحقيق أهداف العدوان سواء بالقضاء على حماس أو حتى الرهائن والأسرى بالقوة حسبما توعَدَ نتن ياهو، وظل يُراوغ ويماطل طوال الأسابيع الماضية فى الاستجابة لجهود الوساطة والتوصل إلى اتفاق هدنة وصفقة لتبادل الأسرى فى انتظار تمكن قواته من الوصول إلى أماكن احتجاز الرهائن والأسرى الإسرائيليين ليستمر فى مواصلة عدوانه دون أى التزامات، خاصة أن حركة حماس اشترطت أن يتزامن تبادل الأسرى مع وقف لإطلاق النار «العدوان» لعدة أيام يتم خلالها السماح بتدفق المساعدات الإغاثية الإنسانية دون انقطاع بما فيها الوقود إلى كل مناطق غزة شمالها ووسطها وجنوبها مع ضمان حرية حركة فلسطينيي غزة داخل القطاع وهى الشروط التي تضمنها الاتفاق والتى وافقت عليها حكومة إسرائيل رغم معارضة ثلاثة وزراء متطرفين وهى الموافقة التى وصفها نتن ياهو بالقرار الصعب الذى اضطرت الحكومة لقبوله، لأنه القرار الصائب!
< < <
ولقد كان غضب أهالى الأسرى والرهائن العارم ضد نتن ياهو وحكومته والذين احتشدوا فى مظاهرات متواصلة واتهموه بالتقاعس عن إطلاق سراحهم.. كان السبب الأول والأهم وراء اضطراره مُجبرًا إلى الموافقة على الاتفاق، رغم أن الحكومة الإسرائيلية لم تكن معنية بإنقاذهم عبر اتفاق لتبادل الأسرى مع حماس طالما لم يتم تحريرهم باقوة وفقًا لخطة العدوان، رغم مقتل ٥٠ على الأقل من الرهائن تحت القصف الجوى على المدنيين فى غزة، إذ وفقًا للعقيدة الصهيونية فإن مقتل الجنود الأسرى أفضل من بقائهم فى الأسر!
<<<
ولأن بنود الاتفاق حسبما تم الإعلان عنه تتضمن هدنة مدتها أربعة أيام قابلة للتجديد يتم خلالها وقف العمليات العسكرية ووقف تحليق الطائرات الحربية والمسيرة الإسرائيلية طوال أيام الهدنة على جنوب غزة وعلى شمالها لمدة ٦ ساعات يوميًا، وخلال أيام الهدنة يتم تبادل إطلاق سراح الرهائن بواقع ٥٠ من النساء والأطفال أقل من ١٨ سنة الإسرائيليين مقابل ١٥٠ من النساء والأطفال أقل من ١٨ سنة الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، وفى نفس الوقت يتم السماح بتدفق المساعدات الإغاثية الإنسانية بما فيها الوقود إلى كافة مناطق غزة.. شمالها ووسطها وجنوبها دون استثناء مع ضمان حرية حركة فلسطينيي غزة فى كل مناطق القطاع.
<<<
ولأنه لم يتحدد توقيت بدء سريان الاتفاق حتى كتابة هذه السطور فإنه يبقى مرهونًا بآليات التنفيذ على أرض الواقع بعد سريانه بقدر ما يبقي مرهونًا فى الأساس بالتزام نتن ياهو وحكومته التزامًا كاملا غير منقوص بتنفيذ كافة بنوده.
وفى نفس الوقت فإن البند الخاص بوقف تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق شمال غزة لمدة ٦ ساعات فقط من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الرابعة عصرًا يبدو مثيرًا للقلق والشكوك، إذ إن تحليق الطائرات طوال ١٨ ساعة من شأنه تحديد وتصوير أماكن وتحركات المقاومة أو أماكن احتجاز الرهائن والأسرى الباقين رهن الاحتجاز، وهو الأمر الذى يُمثل ثغرة خطيرة فى الاتفاق.
<<<
ورغم أن الاتفاق لم يتضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار «العدوان» واقتصر على هدنة قصيرة مدتها أربعة أيام فقط، إلا أنه يُعد بالغ الأهمية والفائدة للفلسطينيين فى غزة لتحسين أوضاعهم المعيشية البائسة اللاإنسانية بعد ٧ أسابيع من الدمار والقتل والنزوح والتكدس فى الجنوب والحصار بدون طعام أو مياه أو كهرباء أو وقود أو مستشفيات صالحة لاستقبال وعلاج المرضى والجرحى جراء القصف، وفى نفس الوقت فإنه يحقق قدرًا من استعادة الحياة الطبيعية والطمأنينة والتخلص لو لأيام من الهلع والفزع ومواجهة الموت والقتل يوميًا فى كل لحظة.
كما أنه من غير الممكن إغفال أهمية الاتفاق لجيش الاحتلال الصهيونى باعتبار أنه حقق إنجازًا نسبيًا بإطلاق سراح ٥٠ محتجزًا، كما أنه يُخفف كثيرًا من معاناة الجنود فى المواجهات الشرسة مع رجال المقاومة على أرض غزة بعد التوغل البرى، وحيث انهارت معنويات جيش الاحتلال جراء الاشتباكات مع المقاومة خاصة بعد مقتل ٧٠ ضابطا وجنديًا على الأقل منذ بدء التوغل البرى.
<<<
السؤال المهم: هل يتم تجديد الهدنة والاتفاق على هدن أخرى؟ وهل من الممكن التوصل لاتفاق لوقف دائم لإطلاق النار «العدوان» سبيلا للتوجه نحو مسار سياسى جديد لإنهاء الصراع، الإجابة الأكثر ترجيحًا إن لم تكن المؤكدة هى أن نيات نتن ياو وحكومته العدائية والعدوانية فى سياق المخططات الصهيونية لا تُنبئ بوقف العدوان بل تؤكد أن الكيان الصهيونى ماض قُدمًا فى تنفيذ مخططاته.
ما يؤكد استمرار النية العدوانية الإسرائيلية كان ذلك القصف الجوى الأعنف منذ بدء العدوان على المنازل والمستشفيات طوال يوم الثلاثاء الماضى رغم اقتراب التوصل للاتفاق والذى استمر منذ صباح الأربعاء بعد الإعلان عن الاتفاق، وحيث أسفر هذا القصف الأعنف عن استشهاد أكثر من ١٢٠ من المدنيين والأطفال الفلسطينيين!
<<<
فى كل الأحوال وفى انتظار التطورات فى قادم الأيام، فإن ثمة ملاحظات وحقائق ودلالات لما جرى فى المشهد الفلسطينى يتعين التوقف أمامها مليًا.
<< من الضرورى الربط بين تزامن العدوان الصهيونى الوحشى على غزة مع جرائم قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين فى الضفة الغربية الذين تعرضوا ومازالوا للإرهاب والقمع واقتحام المدن والبلدات وقتل العشرات واعتقال أكثر من ٣ آلاف فلسطينى منذ بدء العدوان على غزة، وهو الأمر الذى يستهدف تهجير فلسطينيي الضفة وغزة وفقًا للمخططات الصهيونية التى تسعى الحكومة الإسرائيلية لتنفيذها ومن ثمَّ تصفية القضية الفلسطينية.
>> إن جرائم الحرب التى ارتكبها الكيان الصهيونى ضد المدنيين الأطفال الفلسطينيين تستلزم قيام جامعة الدول العربية نيابة عن فلسطين بصفتها عضوًا فى هذه المنظمة بتقديم شكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل لمحاكمة نتن ياهو وأعضاء حكومته وقادة الجيش والأجهزة الأمنية كمجرمى حرب على غرار ما جرى مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وقياسا على الشكوى الأمريكية ضده، وإن كان من المؤكد أن واشنطن والرئيس بايدن سوف يعرقلان محاكمة قادة الكيان الصهيونى استمرارا للانحياز الأمريكى الدائم والأعمى لإسرائيل الذى يوفِّر الغطاء السياسى لحمايتها فى مواجهة أى عقاب دولى رغم جرائمها المتواصلة ضد الشعب الفلسطينى طوال ثمانية عقود.
>> إن العدوان الصهيونى الوحشى بتداعياته الكارثية المأساوية والمتزامن مع جرائم الإرهاب ضد الفلسطينيين فى الضفة يتعين أن يؤسس لمرحلة جديدة ومختلفة فى الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى بصفة خاصة والصراع العربى ــ الإسرائيلى بوجه عام تتجاوز محاولات تجميد القضية بل تتجاوز أيضًا اتفاقية أوسلو التى ضربت إسرائيل بها عرض الحائط، ومن ثمَّ يتعين الاحتشاد العربى والإسلامى الموحد.. سياسيا ودبلوماسيا واستخدام وتفعيل كل أوراق الضغط المتاحة وهى كثيرة وفعالة وليست قليلة أو هيّنة لدفع حكومات الغرب وعلى رأسها الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن أو القادمة أيًا كان رئيسها لاتخاذ موقف عادل ونزيه وشريف نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية وفقًا لمقررات الشرعية الدولية وفى مقدمتها قرارات مجلس الأمن فى هذا الشأن.
>> لقد أكد صمت العالم على جرائم الحرب المتعددة التى ارتكبها الكيان الصهيونى بعدوانه الوحشى على المدنيين الفلسطينيين العُزل فى غزة على مرأى ومسمع الجميع، بينما مشاهد قتل الأطفال والأطفال الرُضع وإصاباتهم تُدمى القلوب أكد أكذوبة ما يُسمى بالمجتمع الدولى، إذ تأكد اختزال هذا المجتمع الدولى فى حكومات المجتمع الغربى الأمريكى الأوروبية التى شجعت ودعمت العدوان ورفضت وقفه طوال سبعة أسابيع.
>> وفى نفس الوقت فقد كشف تواصل العدوان الوحشى فشل الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، بل انتهاء صلاحيتها وعجزها وعجز مجلس الأمن المنوط به إقرار الأمن والسلم الدوليين بفعل الهيمنة الأمريكية وعرقلة تنفيذ قرارات المجلس المفترض أنها ملزمة.
>> إن انفراد الولايات المتحدة عبر إداراتها المتعاقبة بإدارة ملف الشرق الأوسط وملف الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى طوال العقود السابقة وادعاء تبنيها لحل الدولتين والذي تأكد أنه خداع ومراوغة ومماطلة للاستهلاك السياسى.. هو الذى شجع إسرائيل علي الانفراد بالشعب الفلسطينى وارتكاب الجرائم فى الضفة وبحصار غزة طوال ١٧ سنة ثم بالعدوان الوحشى مؤخرًا.
>> من المؤكد أن إدارة بايدن الحالية أو أى إدارة قادمة لن تكون جادة ونزيهة للتوصل إلى حل القضية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية بإجبار إسرائيل على الرضوخ لحل إقامة الدولة الفلسطينية، إلا إذا استشعرت خطرًا ضدها وضد مصالحها فى المنطقة التى يمكن أن تتضرر بشدة، وهو الخطر المحدق بها طالما استمرت فى انحيازها لإسرائيل وضد الشعب الفلسطينى وحقوقه المشروعة.
>> يبقى أخيرًا أن عملية «طوفان الأقصى» لها دلالاتها بالغة الأهمية باعتبارها حدثًا فارقا فى الصراع أكد أن المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال مستمرة ولم تمت، ثم إنها أعادت إحياء القضية الفلسطينية التى كانت قد تراجعت كثيرًا لدى الرأى العام العالمى بعد أن لفتت انتباه شعوب العالم ومن بينها شعوب الغرب الأمريكى الأوروبى إلى مظلومية الشعب الفلسطينى الرازح تحت الاحتلال الصهيونى العنصرى ومن ثمَّ عدالة القضية الفلسطينية بقدر ما كشفت أمام العالم وحشية وهمجية إسرائيل وانتهاكها لحقوق الإنسان والقانون الدولى حسبما تبدى فى قتل المدنيين والأطفال بدم بارد فى أبشع جريمة حرب شهدها العالم فى التاريخ الحديث.