عبدالمحسن سلامة يكتب : قائمة الأولويات على مائدة المؤتمر الاقتصادى
أعتقد أن قرار تثبيت سعر الفائدة الذى اتخذته لجنة السياسات النقدية للبنك المركزى فى اجتماعها يوم الخميس الماضى هو قرار صائب وموفق، رغم أنه جاء على عكس التوقعات والشائعات التى كانت سائدة قبل صدوره.
القرار أبقى على سعرى عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة عند مستوى 11.25، و12.25، و11.75 على الترتيب، وكذلك أبقى على سعر الائتمان والخصم عند مستوى 11.75٪ ، فكان ردا عمليا على التوقعات، والشائعات وأكد صلابة الاقتصاد المصرى وقدرته على التعامل مع الأزمات بكل جدية وصرامة.
رفع أو تخفيض، أو تثبيت سعر الفائدة، أمر عادى، ويحدث فى كل الأوقات، وفى كل دول العالم بحسب ظروف كل دولة، لكن أهمية قرار تثبيت سعر الفائدة الذى اتخذته لجنة السياسات بالبنك المركزى فى هذه المرة على وجه التحديد يكمن فى أنه جاء كرد عملى على المشككين الذين كانوا يتوهمون بوجود مشكلة حادة وخطيرة غير قابلة للحل.
صحيح أن هناك مشكلة اقتصادية فى مصر لا ينكرها أحد لكنها تبقى فى إطارها الطبيعى مثل باقى الاقتصادات العالمية التى تعانى هى الأخرى منذ انتشار جائحة كورونا، ثم اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
بعد اندلاع ثورة 25 يناير تعرض الاقتصاد المصرى لهزة عنيفة أدت إلى تراجع الاحتياطى النقدى إلى أدنى مستوياته، واندلاع الأزمات الاقتصادية والمعيشية فى كل القطاعات بلا استثناء وانعكس ذلك على انقطاع الكهرباء، وتهالك البنية التحتية، والنقص الحاد فى البنزين، واسطوانات البوتاجاز، وتراجع الاحتياطى من السلع الغذائية.
انعكس ذلك على انتشار ظاهرة الطوابير فى كل مكان حيث كانت تصطف السيارات بالساعات للفوز بتموين السيارة، وكذلك ظهرت الطوابير أمام المخابز للفوز بحصة «الأرغفة» المدعومة المخصصة لكل مواطن، وكذلك طوابير المستودعات للحصول على أنبوبة بوتاجاز.
بعد قيام ثورة 30 يونيو، وبدء ولاية الرئيس عبدالفتاح السيسى فى عام 2014 شهدت السنوات الثمانى الماضية عملا دؤوبا وشاقا للتعامل مع هذه الأزمات وغيرها، وكانت الموجة الأولى من الإصلاح الاقتصادى فى نوفمبر 2016 هى البداية لإعادة الاقتصاد المصرى إلى مساره الطبيعى.
نجح الاقتصاد المصرى فى الوقوف على قدميه مرة أخرى وشهدت مصر أكبر عملية تنموية فى تاريخها الحديث حيث انطلقت مشروعات البنية التحتية من الطرق، والأنفاق، والمحاور، وكذلك إقامة أكثر من 14 مدينة جديدة انتشرت فى طول مصر وعرضها من أسوان حتى الإسكندرية، وأيضا إقامة أضخم مشروعات لاستصلاح واستزراع الأراضى بمساحة تصل إلى ما يقرب من 3 ملايين فدان حتى الآن، ثم جاء المشروع الأضخم فى تاريخ التنمية المستدامة وهو مشروع تطوير القرى المصرية الذى أوشكت مرحلته الأولى على الانتهاء، بالإضافة إلى العديد من المشروعات الأخرى التى يصعب حصرها فى مختلف المجالات.
هذه المشروعات العملاقة والمتنوعة ساهمت فى إقامة بنية اقتصادية ضرورية كان يحتاجها الاقتصاد المصرى، فهى بالنسبة لأى اقتصاد مثل «الأساس القوى والمتين» الذى لابد منه لكى ينطلق إلى الآفاق الأوسع والأرحب بعد ذلك، وإلا ظل واقفا عاجزا عن التحرك والنهوض.
وسط هذا الإنجاز الضخم هبطت جائحة كورونا على العالم لتضرب «بأجنحتها الثقيلة» اقتصادات العالم «فى مقتل».
لم ينج اقتصاد عالمى واحد (قويا أو ضعيفا) من عواقب جائحة كورونا، وكان من الطبيعى أن يتأثر الاقتصاد المصرى هو الآخر، إلا أنه نجح فى «الإفلات» من تبعات كورونا العنيفة بفضل الموجة الأولى من الإصلاح الاقتصادى عام 2016 .
من بين آثار كورونا السيئة على الاقتصاد المصرى انخفاض معدل النمو عما كان متوقعا، حيث كان من المتوقع أن تصل معدلات النمو إلى أكثر من 7٪ إلا أن كورونا خفضت هذا المعدل إلى 3٫1٪ فى حين سجلت معدلات النمو الاقتصادى لمعظم دول العالم معدلات نمو بالسالب، وكان الاقتصاد المصرى ضمن دول قليلة لا تتجاوز أصابع اليدين هى التى سجلت معدلات نمو إيجابية.
لم يكد العالم يفيق من أزمة كورونا حتى انطلقت الحرب الروسية ـ الأوكرانية التى أجهزت على البقية الباقية من الاقتصاد العالمى، ولا تزال تهدد بعنف بموجة كساد عالمى لم يشهدها العالم منذ الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن الماضى.
فى مواجهة تلك الأزمة العالمية لجأت الدول إلى اتخاذ تدابير استثنائية للهروب من دائرة السقوط فى الركود مثلما فعلت أمريكا والعديد من الدول الأوروبية وغيرها ورفعوا أسعار الفائدة، فى محاولة منهم لكبح جماح التضخم، ونتج عن ذلك هروب الأموال الساخنة، ورؤوس الأموال من الدول الناشئة إلى الدول الأقوى اقتصاديا حرصا على التواجد فى «الملاذات» الآمنة مما انعكس بالسلب على الاقتصادات الناشئة وكانت هى الأكثر تضررا.
كان من الطبيعى أن يتأثر الاقتصاد المصرى هو الآخر مثل باقى الاقتصادات الناشئة لكنه نجح رغم كل ذلك فى تسجيل أعلى معدل نمو فى العام الماضى 2021/2022 بنسبة بلغت 6.6٪ من الناتج المحلى الإجمالى مقارنة بمتوسط عالمى 3٫2٪ للاقتصادات الناشئة.
أيضا انخفض عجز الموازنة من 13٪ إلى 6٫1% ليكون هو الأقل فى الدول الناشئة. وكذلك نجح الاقتصاد المصرى فى تحقيق فائض أولى للعام الخامس على التوالى بقيمة 100 مليار جنيه وبنسبة 1٫3٪ من إجمالى الناتج المحلى وهو الأمر الذى لم يحدث فى الكثير من الاقتصادات الناشئة.
انعكست تلك المؤشرات الإيجابية على انخفاض معدل البطالة ليسجل أدنى مستوى له منذ أكثر من 30 عاما طبقا لبيانات رئاسة مجلس الوزراء.
تراجع معدل البطالة إلى 7٫2٪ نتيجة انتشار المشروعات القومية كثيفة العمالة مما أسهم فى رفع معدلات التشغيل وتراجع معدلات البطالة.
أكثر المشروعات القومية التى استوعبت أعدادا هائلة من العمالة هو مشروع استصلاح الأراضى فى الدلتا الجديدة الذى يسهم فى توفير نحو 5 ملايين فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة بحلول عام 2025، وكذلك مشروع توشكى، ثم تأتى بعد ذلك مشروعات الاستزراع السمكى فى غليون، وهيئة قناة السويس.
أيضا فقد أسهم مشروع تطوير الريف المصرى «حياة كريمة» فى توفير أكثر من 450 ألف فرصة عمل، وكذلك أسهمت مشروعات الإسكان، ومشروعات الإنتاج الحيوانى والداجنى، وغيرها من المشروعات القومية فى استيعاب اعداد ضخمة من العمالة لتسجل البطالة أدنى معدلاتها، ومن المتوقع أن تستمر معدلات البطالة فى الانخفاض طبقا لتقديرات المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل البنك الدولى ومؤسسة فيتش لتصل إلى أقل من 7٪ خلال المرحلة المقبلة.
ولأن الاقتصاد المصرى يمر بمرحلة دقيقة وحساسة فقد كان لابد من الدعوة إلى مؤتمر اقتصادى لمناقشة الإستراتيجية الاقتصادية خلال المرحلة المقبلة فى ظل المؤشرات الإيجابية للاقتصاد المصرى، وكذلك التحديات المتوقعة خلال المرحلة المقبلة نتيجة حالة «عدم اليقين» التى يمر بها الاقتصاد العالمى، والتى بدأت بوادرها منذ جائحة كورونا، وتعمقت نتيجة اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية العالمية، واقتراب شبح الركود العالمى.
أجندة الأولويات على مائدة المؤتمر الاقتصادى سوف تناقش كل هذه الأوضاع، وتطورات الحالة الاقتصادية فى مصر، ووضع تصور للمرحلة المستقبلية بما يضمن أن يكون هذا المؤتمر جسرا للتواصل والتكامل بين ما حدث من إنجازات وتطورات إيجابية خلال المرحلة الماضية، وما يجب فعله خلال المرحلة المقبلة ليصل الاقتصاد المصرى إلى مرحلة الاستقرار والقدرة على مجابهة التحديات أيا كان مصدرها.
أعتقد أنه قد يكون من المفيد طرح بعض الرؤى والأولويات على مائدة المؤتمر الاقتصادى المتوقع عقده لعل أبرزها ما يلى:
أولا: ضرورة وجود إستراتيجية متكاملة من الحكومة لطرحها على مائدة المؤتمر الاقتصادى للحذف منها، والإضافة عليها، بما يضمن «طمأنة» الاستثمار الأجنبى والمحلى، ووضع خريطة عمل له، ووضع تصور عملى حول كيفية تطبيق وثيقة ملكية الدولة التى أطلقها د. مصطفى مدبولى رئيس الحكومة فى شهر يونيو الماضى، بما يسهم فى تشجيع القطاع الخاص وتخارج الدولة من بعض الأنشطة سواء بشكل كلى أو جزئى.
ثانيا: وضع الآليات اللازمة لتعديل هيكل الاقتصاد المصرى من اقتصاد شبه ريعى يعتمد على الخدمات، والسياحة، وتحويلات المصريين بالخارج إلى اقتصاد إنتاجى يعتمد على الأنشطة الإنتاجية الصناعية والزراعية، والتكنولوجية، إلى جانب الخدمات الأخرى، وهو ما يحتاج إلى رؤية متكاملة على المستويين القصير والمتوسط لتحقيق هذه النقلة الجبارة التى ظلت حلما منذ أكثر من سبعة عقود حتى الآن، وآن الأوان لتحويلها إلى واقع فى ظل ما شهدته الدولة أخيرا من مشروعات اقتصادية عملاقة تؤسس لذلك، ولا يبقى سوى التنفيذ والانطلاق.
ثالثا: دراسة عودة الحوافز الضريبية والجمركية لمشروعات توطين الصناعة، والتكنولوجيا بما يسهم فى زيادة جذب الاستثمارات فى هذه النوعية من المشروعات.
رابعا: مناقشة الحد من الفجوة الهائلة بين التصدير والاستيراد, فلا يعقل أن يتم إهدار أكثر من تريليون جنيه سنويا فى الاستيراد، وهو ما يحتاج إلى رؤية رشيدة تضمن الفصل بين مستلزمات التشغيل والإنتاج، وبين الاستيراد الاستهلاكى وتوفير البديل المحلى.
خامسا: إيجاد تصور عملى لتحقيق رؤية الـ100 مليار دولار للصادرات غير البترولية خلال فترة زمنية محددة، وتحقيق الاستغلال الأمثل لموارد مصر الزراعية والصناعية فى هذا المجال، وتشجيع تصدير السلع نهائية الصنع بديلا لتصدير المواد الخام.
سادسا: وضع رؤية شاملة لتشجيع الاستثمار الأجنبى وأجندة أولويات واضحة لجذب المستثمرين خاصة فى مجال توطين الصناعة والتكنولوجيا بشكل حقيقى والتحول من مرحلة التوكيلات والتجميع إلى مرحلة الإنتاج الحقيقى.
آمال كثيرة معقودة على المؤتمر الاقتصادى المزمع عقده خلال الفترة المقبلة ليكون جسرا حقيقيا بين ما تحقق خلال الثمانى سنوات الماضية، وبين طموحات وأحلام المرحلة المقبلة ليصل الاقتصاد المصرى إلى مرحلة الاستقرار والانطلاق والخروج من الاقتصادات الناشئة إلى الاقتصادات القوية الواعدة.
نقلا عن جريدة الأهرام