أسامة أيوب يكتب: رحلة الإمام الأكبر الآسيوية.. ورسالة الأزهر العالمية
أحسب أن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر قد أتعب من سيأتى بعده علي رأس هذه المؤسسة الإسلامية العالمية العريقة التى تحتضنها مصر منذ أكثر من ألف سنة، وذلك بالنظر إلى أدائه للدور المنوط بمن يجلس على مقعد الإمامة الكبرى وعلي ذلك المستوى الرفيع وغير التقليدى، وهو بذلك حفر لنفسه مكانة رفيعة كواحد من العظماء القلائل في تاريخ الأزهر الشريف.
لقد نجح هذا العالِم الجليل منذ توليه المشيخة نجاحًا لافتًا ومقدرًا فى استعادة دور الأزهر الشريف الدينى والتاريخى ومكانته الرفيعة ليس في داخل مصر فقط وليس علي صعيد العالم الإسلامى فحسب وإنما علي الصعيد العالمي أيضًا.
< < <
بذلك النجاح والأداء رفيع المستوى نال الإمام الأكبر احترام وتقدير بل حب المصريين جميعًا.. المسلمين والمسيحيين على حد سواء، ومن ثم أعاد التفاف المصريين حول الأزهر وحول شيخه خاصة بعد أن تصدى بقوة للأفكار التكفيرية المتشددة دفاعًا عن المنهج الوسطى وعلى النحو الذى أسهم في تراجع ملحوظ لتلك الأفكار.
وفى نفس الوقت فقد نجح الدكتور الطيب بامتياز في الدفاع بكل قوة وصلابة عن ثوابت الدين الحنيف في مواجهة محاولات التطاول والاجتراء على هذه الثوابت فأعاد للأزهر قوته التاريخية بوصفه حصن الإسلام الحصين..
< < <
تصحيح صورة الإسلام التى شوّهها أصحاب الفكر التكفيرى والفتاوى الشاذة أمام العالم الغربي كان فى مقدمة اهتمامات الإمام الأكبر طوال السنوات الأخيرة، وهى المهمة التي نجح في أدائها بامتياز بزياراته المتعددة لعدد من العواصم الأوروبية وبمحاضراته التي ألقاها هناك، حيث أوضح بوصفه شيخ المرجعية الإسلامية الأولي رسالة الإسلام الصحيحة للبشرية والداعية إلى السماحة والوسطية والاعتدال ونبذ العنف والكراهية بقدر احترامها لأصحاب كل الديانات السماوية، بينما أكد وكرّر رفض الأزهر لتعبير الأقليات داخل المجتمعات المسلمة إعمالا لمبدأ المواطنة التى يقرها الإسلام والذى يرفض التمييز والعنصرية.
ولعل مشهد معانقة بابا الفاتيكان الذى يمثل أعلي مرجعية دينية مسيحية كاثوليكية فى العالم للإمام الأكبر خلال زيارته لمصر قبل عدة أشهر في مشهد تاريخى اتسم بالحميمية الحارة.. لعل هذا المشهد قد عكس بجلاء احترام وتقدير البابا والعالم المسيحى للأزهر ولإمامه الأكبر باعتباره رمزًا للتعبير عن سماحة الإسلام والداعى للتعايش الإنسانى بين أصحاب الديانات السماوية بل بين كل الناس.
< < <
فى سياق هذه المهمة الكبرى التى يؤديها الإمام الأكبر لاستعادة وتأكيد الدور التنويرى والتعليمى الدينى والمكانة الإسلامية العالمية للأزهر الشريف.. جاءت رحلة الدكتور الطيب الأخيرة لثلاث دول إسلامية آسيوية بصفته شيخ الأزهر وبصفته أيضا رئيس مجلس حكماء المسلمين وهى رحلة شاقة بكل المقاييس.
غير أن الإمام الأكبر تجشَّم مشقة الرحلة التي شملت كلا من أندونيسيا وسنغافورة وبروناى برضاء كامل وبهِمة قوية انطلاقا مما يمكن تسميتها باستراتيجية الأزهر الجديدة في استعادة التواصل مع شعوب ودول العالم الإسلامى التي يدرس طلابها فى جامعته ويقدم علماؤه المبعوثون إليها بدورهم التعليمى والدعوى والتنويرى هناك.
ولقد بدا واضحًا ومؤكدًا أن زيارة الإمام الأكبر الأخيرة لتلك الدول سيكون لها مردودها الكبير سواء فى دعم التواصل بين الأزهر والمسلمين هناك أو في نشر ثقافة التسامح والوسطية ودحض الأفكار التكفيرية التى يمكن أن تتغلغل وتنتشر بين شعوب هذه الدول.
< < <
ورغم النجاح منقطع النظير لزيارة الإمام الأكبر لكل من أندونيسيا وسنغافورة إلا أن المفاجأة السارة التى أسعدته والتى لاشك أسعدت كل العرب والمسلمين.. كانت في سلطنة بروناى.. المحطة الأخيرة فى هذه الرحلة الآسيوية، وتحديدًا فى ختام الزيارة التى استمرت ثلاثة أيام وخلال زيارته للمدرسة الدينية الإسلامية الثانوية للبنات، حيث احتشدت الطالبات لاستقباله والاستماع إليه وألقت إحداهن قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى في تمجيد الأزهر.. يقول مطلعها:
قم في فم الدنيا وحى الأزهرا
وانثر علي سمع الزمان الجوهرا
اختيار هذه القصيدة المهجورة والتي من المؤكد أنها مجهولة لدى ملايين العرب والمسلمين بل المصريين أيضا.. اختيار لا تخفي دلالته العميقة سواء من حيث ذكاء وأريحية الاختيار أو من حيث إبداء مشاعر الاحتفاء الكبير بالإمام الأكبر وإظهار الاحترام الذى يحظى به الأزهر لدى شعب بروناى المسلم.
< < <
إلقاء فتاة بروناي للقصيدة بلغة عربية سليمة وكذلك حديث الطالبات باللغة العربية الفصحي رغم أنها ليست لغتهم الأم.. كان مفاجأة أثارت إعجاب الإمام الأكبر الذى عبر عن سعادته البالغة مخاطبًا الطالبات «أعجز عن التعبير عن مشاعرى حين رأيتكن ثم حين سمعتكن تتحدثن بلغة عربية جميلة ومنضبطة ندر أن أسمعها فى مكان آخر، ولقد زال خوفي على اللغة العربية، ولذا أتمنى أن تأتين للدراسة في الأزهر حتى تزددن علمًا بالإسلام وباللغة العربية».
< < <
رغم تعب الرحلة، إلا أن ختامها جعلني أشعر كأنى وُلدت من جديد، لقد كنتم خير ختام بل عطر ختام.. بهذه الكلمات الموجزة والبليغة اختتم الإمام الأكبر زيارته لسلطنة بروناى، فكانت كلماته أيضا خير ختام وعطر ختام لهذه الرحلة الآسيوية.
< < <
لقد أكدت جولة الدكتور الطيب الآسيوية وما لقيه من حفاوة استقبال من جانب حكام الدول الثلاث.. المكانة الرفيعة التي يحظى بها الإمام الأكبر شخصيا لما يقوم به من جهد كبير في نشر المنهج الأزهرى الوسطى.. دعمًا لرسالة الإسلام العالمية وتفعيلا لدور الأزهر قلعة الإسلام والحافظ لعلوم الدين.