د.محمد فراج أبوالنور يكتب: السياحة.. أرقام تحتاج إلي مناقشة
المتابع لأوضاع السياحة في مصر لا يملك إلا الاندهاش من تناقض الأرقام التى يقرؤها، والأهم من ذلك أن الحيرة تستولي عليه حين يتأمل فى دلالات تلك الأرقام، وما تشير إليه من غياب للرؤية السليمة لدي المسئولين عن السياحة والاستثمار فيها..
ثلاثة أرقام مهمة استوقفتنا خلال هذا الشهر وحده، وتستحق التأمل فيها ملياً.. أولها حملت صحف ومواقع (5 و6 أغسطس الجارى) ويشير إلي استثمار (مليارين ونصف المليار دولار/2500 مليون دولار) لإقامة مدينة للملاهى (ديزنى لاند) وموقع سياحي مرتبط بها في الساحل الشمالي بالقرب من مطروح، حسبما صرحت وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي الدكتورة سحر نصر أثناء جولة قامت بها هى ومحافظ مطروح لتفقد المواقع المقترحة للاستثمار السياحى.. ونؤجل مناقشة هذا الخبر إلي موضع لاحق من مقالنا.
الرقم الثانى حملته صحف ومواقع يومى (16 و17 أغسطس) نقلا عن وكالة «بلومبرج» الأمريكية ويتحدث عن تضاعف عوائد السياحة 3 مرات خلال العام المالى المنقضى (2016/2017) كما أشارت مثلا جريدة «المصرى اليوم» في صفحتها الأولى بعنوان لخبر كبير مفصل بتاريخ 16 أغسطس الجارى ولكنك حينما تقرأ الخبر تكتشف أن الرقم الحقيقى يتصل بالربع الأخير فقط من العام المالى المنقضى، مقارنة بالربع الأخير من العام المالى السابق عليه.. حيث زادت عوائد السياحة من (510 ملايين دولار) في الربع الأخير من العام 2016/2017.. لكن دخل البلاد من السياحة في العام الأخير بمجمله بلغ 4.4 مليار دولار بزيادة قدرها 16٪ فقط عن العام السابق له (المصرى اليوم 16/8/2017).
والتقدم المحقق في حد ذاته لا بأس به إطلاقاً في ظل الظروف السياسية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط عموماً.. وهو يعكس تحسناً مستمرًا في المناخ الأمني ومكافحة الإرهاب في مصر، وثقة العالم في استقرارها، وخاصة بعد الفترة العصيبة التي تلت حادث سقوط الطائرة الروسية فى (31 أكتوبر 2015) وما تلاه من حظر السياحة الروسية والبريطانية.. لكن 16٪ ليست ثلاثة أضعاف بالطبع! كما قالت «المصري اليوم» وأغلب المواقع والصحف في عناوينها ليتضح عند التدقيق أن المقارنة هى بين ربعين لعامين وليست بين العامين كاملين.. وأن الأرقام الصحيحة للدخل السياحى هذا العام هى 4.4 مليار دولار مقابل 3.8 مليار عام 2015/2016.
الرقم الثالث حمله استعراض مفصل بالأرقام والجداول للتقرير الرسمي السنوى لمنظمة السياحة العالمية، (الأهرام ـ الخميس 17 أغسطس 2017) والذي يشير إلي أن مصر كانت تحتل المركز الـ18 من حيث عدد السائحين عام 2010.. أى قبل ثورة يناير مباشرة.. لكننا خرجنا من قائمة الخمسين الأوائل في الدخل العائد من السياحة (كان دخلنا 12 مليار سنة 2010).. أى قرابة أربعة أمثال الدخل عام 2016 ــ3.4 مليار دولار).
ونحن لا نلوم القائمين علي السياحة أو الاستثمار بالطبع علي هذه الأرقام.. فهي تعود لظروف سياسية واستراتيجية وأمنية ذات طابع دولى وإقليمي لا علاقة لهم به.. لكننا نستطيع أن نلومهم علي مدى انسجام أو عدم انسجام السياسات التي يضعونها مع تلك الظروف السياسية والاستراتيجية والأمنية، ومع الأوضاع الاقتصادية للبلاد.
لكننا قبل أن ننتقل إلي مناقشة السياسات المذكورة نجد من الضرورى الإشارة إلي رقم مهم ذكرته منظمة السياحة العالمية، تقريرها السنوي الأخير.. هو دخول مصر للمرة الأولي إلي قائمة الدولا لخمسين الأكثر إنفاقاً في مجل السياحة العالمية باحتلالها المركز 48 في القائمة بإنفاق قدره 4.1 مليار دولار. ويقدر محرر الأهرام أن نصف هذا المبلغ يتم إنفاقه علي الحج والعمرة.. والنصف الآخر يتم إنفاقه علي السياحة الخارجية للمصريين (الأهرام 17 أغسطس).
وإذن فإننا بينما خرجنا من قائمتى الخمسين الأوائل لعدد السياح الوافدين والدخل السياحى، فقد دخلنا قائمة الخمسين الأوائل للإنفاق السياحى في الخارج.. وهذه أرقام ذات دلالة سلبية بلا أدنى شك..
وهنا نعود إلى الرقم الأول الذى ذكرناه في بداية مقالنا.. نعني استثمار (2.5 مليار دولار) فى إقامة مدينة للملاهى (ديزنى لاند) وموقع سياحى مرتبط بها، فنقول إن انتشار الإرهاب فى الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة كان له الدور الأكبر في تراجع السياحة في جميع دول الإقليم بما فيها تركيا وإسرائيل ولبنان وتونس، وليس مصر وحدها.. كما أن حادث الطائرة الروسية التى تشير أصابع الاتهام للإرهاب بالتسبب فيه (وخاصة المخابرات الروسية والبريطانية) كان سببا مباشرا في تراجع السياحة إلى مصر.. وهى مشكلة لم تحل حتى الآن. وإذا كانت الهزائم التي تحل بالإرهاب في بلدان المنطقة سببًا في تزايد ثقة السائحين، وبدء انتعاش حركة السياحة تدريجياً هذا العام، إلا أن الاستثمار في المجال السياحي لا يعتبر أولوية ضاغطة علي الإطلاق، خاصة أن المنشآت السياحية القائمة تلبي حاجة السوق في الوقت الراهن، وتزيد، ولا يعني هذا الامتناع عن الاستثمار في السياحة أو الاستعداد لمستقبل مزدهر.. لكن هذه ليست أولوية ضاغطة كما أشرنا بل يجب أن يتواكب هذا الاستثمار مع حركة السوق ومدى انتعاشه.. أما إنفاق مبالغ ضخمة علي الاستثمار السياحي في مشروعات ترفيهية (2.5 مليار دولار) أى ما يساوى (45 مليار جنيه) أو إقامة منشآت أو مدن سياحية أخرى بتكلفة ضخمة، فلا يبدو لنا التوظيف الأمثل للاستثمارات الشحيحة في بلد يواجه مديونية داخلية وخارجية ضخمة، ويعانى من نقص كبير في الاستثمارات الضرورية للصناعة بالذات، حيث توجد آلاف المصانع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة المتوقفة والمتعثرة، كما تحتاج البلاد إلي استثمارات ضخمة في الزراعة والإنتاج الحيواني.. وقبل كل شيء في التعليم، حيث نحتاج إلي ضعف عدد المدارس الموجودة حالياً، بأسرع وقت ممكن.. وإلي تجهيز المدارس والجامعات بالمعامل والمكتبات ومستلزمات التطوير من أجهزة كمبيوتر وغيرها.. كما نحتاج إلي تعيين عدد ضخم من المعلمين الجدد لتلبية احتياجات هذه المدارس.. وتبدو هذه الأوجه للاستثمار كلها أكثر إلحاحًا وأهمية بكثير من توجيه الاستثمارات الضخمة للسياحة.