السينما المصرية في 130 سنة .. الصعود على سلم ستوديو مصر
السينما المصرية في 130 سنة (3)
الصعود على سلم ستوديو مصر
طلعت حرب يقود البلاد إلى ثورة اقتصادية
أدرك أن تنمية الدولة لا تكون إلا بتثقيف العقول فأنشأ "مصر للتمثيل" ومسرح الأزبكية
تأميم السينما يعجل بالانحدار ويقضي على آمال السينمائيين
"إننا نعمل بقوة اعتقادية وهي أن السينما صرح عصري للتعليم لا غنى لمصر عن استخدامه في إرشاد سواد الناس"، تلك العبارة قالها الاقتصادي العظيم طلعت باشا حرب، ليرسخ بها دستوراً لكل العاملين بمجال الفن.
في عام 1911 قدم طلعت حرب رؤيته الفكرية واجتهاداته النظرية عن كيفية إحداث ثورته الثقافية، وذلك من خلال كتابه "علاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين"، كان طلعت حرب ميالاً بشكل واعٍ للفلاحين والفقراء حيث كان يضطر معظمهم للاستدانة بشكل ربوي مجحف لدى بعض المرابين، وساهم في الدفاع عنهم عند تصفية الدائرة السنية وسعى إلى بيع الأراضي إلى الفلاحين الذين يزرعونها، كانت أسعار القطن عالمياً قد شهدت زيادة، لكنها لم تنصب في صالح المزارع المصري البسيط، كذلك لم يكن هناك نظام مالي يدعمهم فرغم إنشاء البنك المصري (Bank of Egypt) والبنك الأهلي، لكنهما كانا مخصصين لتمويل الأجانب فقط، وتسببت ظروف الاستعمار وقتها في استنزاف موارد الاقتصاد المصري لمصالحهم فقط.
لذلك بدأ طلعت حرب دعواه عام 1906 من أجل إنشاء نظام مالي مصري خالص لخدمة أبناء الوطن وللسعي أيضا للتحرر من القيود الاستعمارية الاقتصادية، لقيت دعواه استجابة واسعة، استطاع طلعت حرب في عام 1908 تأسيس شركة التعاون المالي برأسمال مصري وذلك بهدف تقديم العديد من القروض المالية للشركات الصغيرة المتعثرة مادياً، وساعده أيضاً عودة الدكتور فؤاد سلطان من الخارج والذي كان يعد أحد أبرز الخبراء الاقتصاديين، وقام بتقديم الدعم الكامل لمساعي طلعت حرب.
قام طلعت حرب بإصدار كتابه "علاج مصر الاقتصادي" الذي طرح من خلاله فكرته في ضرورة إنشاء بنك للمصريين لخدمة المشاريع الاقتصادية في مصر والنظر في المشكلات الاجتماعية، تحمس الكثيرون لفكرته، بالرغم من معارضة السلطات الإنجليزية، وقرر المجتمعون بالفعل تنفيذ فكرة طلعت حرب في إنشاء بنك مصر، لكن رغم هذه الجهود تعطلت عملية إنشاء البنك بسبب الحرب العالمية الأولي وعادت فكرة إنشائه عقب قيام ثورة 1919 في مصر.
كانت فكرة إنشاء بنك مصري وطني حلماً يراود الكثيرين منذ أيام محمد على باشا، فرغم أن محمد على قبل وفاته أمر بإنشاء بنك برأسمال قدره 700 ألف ريال. ولكن مشروع البنك انهار كسائر مشروعات والي مصر لما أصابه المرض بعد أن ضاعت ثمرة حروبه عليه نتيجة التواطؤ الدولي على حصار قوته.
ثم عادت فكرة "بنك مصر" إلى الحياة بعد أن دعا إليها "أمين شميل" في مقال له في 26 أبريل 1879 في جريدة "التجارة"، واجتمع على أثر ذلك عدد من أعيان مصر، غير أن الخلاف الذي نشب بين الجمعية الوطنية المصرية التي أنشأها الخديو إسماعيل وبين الخديو، والتي وقعت في أعقابه الثورة العُرابية أعاق إتمام الفكرة.
ثم عادت فكرة "بنك مصر" إلى الظهور عندما بدأ "عمر لطفي بك" عضو الحزب الوطني ووكيل كلية الحقوق في إلقاء محاضرات في نادي المدارس العليا ابتداء من اليوم الأول في نوفمبر 1908 عن نظام التعاون والتسليف في ألمانيا وإيطاليا، لكن الفكرة عانت من الخلاف بين التيارات التقدمية والرجعية، ولم تنجح الفكرة مجدداً إلا مع مجهودات طلعت حرب الذي بدأ بطرح الفكرة في بعض خطبه، وعقب انعقاد المؤتمر المصري الأول في 29 أبريل عام 1911 انتهز محمد طلعت حرب باشا اجتماع أعيان البلاد وكبرائها وعرضت لجنة المؤتمر فكرة إنشاء بنك مصري وقرر المؤتمر بالإجماع وجوب إنشاء بنك مصري برؤوس أموال مصرية، كما قرر اختيار محمد طلعت حرب باشا للسفر إلى أوروبا لدراسة فكرة إنشاء البنك بعد عمل دراسة كافية عن المصارف الوطنية وأسلوب عملها في الدول الأوروبية، فلما صدر كتاب محمد طلعت حرب باشا بعد هذا، آمن كل مصري بالفكرة التي يدعو لها وإلي تنفيذها، لكن الحرب العالمية الأولي التي أعلنت في 4 أغسطس سنه 1914 أدت إلى تأجيل فكرة البنك لأكثر من ثماني سنوات، وعادت من جديد الدعوة لإنشاء البنك بعد قيام ثورة 1919.
كان طلعت حرب يؤمن بأن تجديد الاقتصاد في بلد زراعي متخلف مثل مصر لن يتم إلا إذا ازدهرت الثقافة واستنارت العقول بالأفكار الجديدة والثقافة الرفيعة، وكان يؤمن أيضا بأن الثقافة استثمار كبير. لذلك في عام 1930 أنشأ شركة ترقية التمثيل العربي وأقام لها مسرح الأزبكية (المسرح القومي بعد ذلك) لتقدم أعمالها عليه.
ولكن كان الحافز الأساسي الذي دفع طلعت حرب إلى التفكير في إنشاء ستديو مصري هو غلبة العناصر الأجنبية العاملة في هذا الحقل وهو يريده أن يكون مصريا من الألف إلى الياء ولو على مراحل. وفي عام 1925 أنشأ شركة مصر للتمثيل والسينما (ستديو مصر)، ووضع حجر الأساس لبناء ستديو مصر في السابع من مارس عام 1934، وفي الثاني عشر من أكتوبر عام 1935 تم افتتاحه في منطقة الهرم بالجيزة.
في البداية دخل ستوديو مصر مرحلة الإنتاج السينمائي عندما أنتج فيلماً قصيراً لمدة عشر دقائق للإعلان عن المنتجات المصرية. ثم تطور الأمر لينتج نشرة أخبار أسبوعية عن الأحداث في مصر يتم عرضها في دور العرض قبل بداية أي فيلم، وعندما بدأ ستديو مصر الدخول إلى معترك إنتاج الأفلام الروائية الطويلة كان باكورة إنتاج أفلامه فيلم "وداد" بطولة أم كلثوم وأحمد علام، وإخراج الألماني فريتز كرامب، وكان عن قصة مصرية خالص وقد مثل الفيلم مصر لأول مرة في مهرجان فينيسيا الدولي (1936). ولكي توفر الشركة الخبرات الوطنية أوفدت كوكبة من الشباب المصري لينالوا من منابع الفن في أوروبا وليكونوا دعامة قوية تقوم بها صناعة السينما في مصر على أساس من العلم والخبرة والمران، ففي عام 1933 انطلقت أول بعثة سينمائية إلى الخارج وتتكون من أربعة أفراد هم: أحمد بدرخان وموريس كساب لدراسة الإخراج في باريس، ومحمد عبد العظيم لدراسة التصوير في برلين، وتبعهم حسن مراد لدراسة فنون إعداد الجرائد السينمائية في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وانضم إليهم بعد ذلك المصريون الذين يدرسون السينما بالخارج على نفقتهم الخاصة ومنهم نيازي مصطفى ومصطفى والي، وقد عين الممثل المعروف في ذلك الوقت أحمد سالم أول مدير للاستديو.
أكد طلعت حرب على أهمية السينما وخطورة دورها عندما قال: "إننا نعمل بقوة اعتقادية وهي أن السينما صرح عصري للتعليم لاغنى لمصر عن استخدامه في إرشاد سواد الناس".
وكان إنشاء (ستوديو مصر) عام 1935 نقلة جديدة في تاريخ السينما المصرية، بالإضافة لاستوديوهات أخرى مثل ناصيبين والنحاس والأهرام، وظل (ستوديو مصر) محور الحركة السينمائية حتى نشوب الحرب العالمية الثانية، كما كانت كازينوهات ومسارح شارع عماد الدين أو ما كان يعرف باسم (شارع الفن) تشهد إقبالاً كبيراً مثل كازينو برنتانيا.
وكان فيلم (العزيمة) في عام 1939 محطة هامة في تلك الفترة، وكذلك فقد ظهرت جريدة (مصر السينمائية) أو (الجريدة الناطقة) التي لا تزال تصدر حتى الآن.
وبعد الحرب العالمية الثانية تضاعف عدد الأفلام المصرية من 16 فيلماً عام 1944 إلى 67 فيلماً عام 1946، ولمع في هذه الفترة عدد من المخرجين مثل أحمد بدرخان وهنري بركات وحسن الإمام، إبراهيم عمارة، أحمد كامل مرسي،حلمي رفلة، كمال الشيخ، حسن الصيفي، صلاح أبو سيف، كامل التلمسانى، عز الدين ذو الفقار، كذلك أنور وجدى الذي قدم سلسلة من الأفلام الاستعراضية الناجحة، وأيضا فنانات وفنانين مثل ليلى مراد، شادية، فاتن حمامة، ماجدة الصباحي، مريم فخر الدين، تحية كاريوكا، نادية لطفى، هند رستم، عمر الشريف، يحيى شاهين، استيفان روستي، فريد شوقي، أحمد رمزي، صلاح ذو الفقار، أنور وجدى.
ظهرت محاولات لتلوين أجزاء من الأفلام منها تلوين اغنية يوم الاتنين من فيلم لست ملاكا للفنان محمد عبد الوهاب عام 1946
منذ افتتاح هذا الصرح السينمائى الكبير وحتى الآن شهد تطوراً كبيراً في كافة المجالات، سواء الفنية أو التكنولوجية في مجالات الديكور والتصوير والمونتاج وكذلك البلاتوهات المخصصة للتصوير وقد كان لاستديو مصر دور إيجابي في تاريخ الإنتاج السينمائى الرفيع في مصر وساهم في دعم موقع مصر الريادى في المجال الفنى وأكد جدارتها في أن تكون عاصمة الفن في الشرق.
أقيم استديو مصر على مساحة كبيرة من الأرض تضم أكثر من بلاتوه للتصوير ويضم ورشاً للديكور وغرفاً للممثلين ومخازن للملابس ومعدات التصوير السينمائى. وقد اهدى رائد السينما الكبير الفنان محمد بيومى استديو مصر عدداً من آلات التصوير السينمائى، يضم استديو مصر أشهر ديكور للحارة المصرية التي تتضمنها مشاهد كثيرة للافلام السينمائية.
وكان لاستوديو مصر باع طويلفي تطوير السينما المصرية، ففي عام 1950 أنتج فيلم (بابا عريس) وهو أول فيلم مصري كامل بالألوان الطبيعية، بطولة نعيمة عاكف وفؤاد شفيق وكاميليا وشكرى سرحان. وفى عام 1951قام الفنان محمد فوزى بتجربة تلوين فيلمين له هما (الحب في خطر) و(نهاية قصة) ولسوء الحظ احترق الفيلمان في طريق وصولهما من فرنسا إلى مصر وتبقت النسخ الأبيض والأسود لدى التليفزيون المصري، ويقال إن محمد فوزى لم يرض عن جودة الألوان في الفيلم الأول فأعاد تصويره مما تسبب له في خسائر مالية فادحة، أدت إلى إفلاسه. وفى عام 1956 تم إنتاج فيلم (دليلة) بالألوان نظام سكوب بطولة عبد الحليم حافظ وشادية وحسين رياض. بعد ذلك تم إنتاج العديد من الأفلام العربية المصرية الملونة بشكل محدود في فترة الخمسينيات والستينات وفى فترة السبعينيات وتحديداً بعد حرب أكتوبر 1973 أصبحت الألوان سائدة في معظم الأفلام.
تأميم السينما ومرحلة الهبوط
بعد قيام الضباط الأحرار بثورة 23 يوليو عام 1952، شهدت مصر تغيرات كبيرة في كل المجالات، ومع قيام الدولة بتأميم المؤسسات الخاصة مع بداية الستينيات كان بنك مصر من أولى المؤسسات التي قررت الدولة تأميمها مع كل الشركات التابعة له، ومن بينها شركة مصر للتمثيل التي يتبعها ستوديو مصر، وكانت هذه نقطة الانحدار في السينما المصرية بعد أن تحول العاملون في هذا المجال إلى موظفين للدولة، ولم تكتف لدولة بتأميم شركة مصر للتمثيل، وإنما أممت شركة الترقي للتمثيل التي يتبعها مسرح الأزبكية، وغيرت اسمه إلى المسرح القومي، ليصبح الممثلون موظفين في الدولة.
لم تهتم الدولة بالإنتاج السينمائي سوى فيالأفلام التي تخدم اهدافها وتحولت الشركات إلى أبواق تمجد وترفع من شأن ثورة يوليو وضباطها بعد أن أدركوا أهمية السيما في توجيه عقول ووجدان الشعب المصري، ولعبوا على أوتار العاطفة، فتوجهت إلى إنتاج أفلام تصور كلمساوئ الحكم الملكي وتظهر الملك فاروق وحاشيته في أبشع الصور، والتعمية على كل الإيجابيات التي كانت في هذا العصر، كما ركزت على إعلاء شأن ثورة يوليو ويان ما فعلته من محاسن للمصريين عامة والطبقات العاملة والفلاحين خاصة. ومن هنا كان الانحدار القوي للسينما المصيرية حتى جاءت مرحلة الصعود الثانية.