لماذا صارت السينما اقتصاداً معطلاً..و اعتبرتها البنوك استثمارا خطراً؟
ربما لا يعرف الكثيرون أن السينما المصرية كانت أهم صناعة في مصر بعد محصول القطن في الثلاثينيات والأربعينيات، وأنها كان من أهم صناعات السينما في العالم وأنا سبقت انجلترا وفرنسا في التقدم السينمائي بل وتفوقت في مرحلة من المراحل على السينما الهندية، فقد كانت مصر هي هوليوود الشرق كما يقولون وكان العالم يقدر السينما المصرية كثيراً ولولا عائق اللغة لأصبح ممثلونا نجوما تسطع في سماء السينما العالمية، ولكان عندنا مائة عمر الشريف.
استقرت صناعة السينما في مصر مع بداية العشرينيات دخولاً إلى الثلاثينيات، ولم يقتصر الأمر على الممثلين فقط بل تعداه إلى صناعات كثيرة ارتبطت بالسينما وازدهرت معها وفتحت الكثير من البيوت لكثير من المهن الحرفية التي لا تستغنى عنها السينما، مثل مهندسي الديكور والمصورين وعمال الإضاءة وغيرها من المهن، ومن لم يسعده حظه ليصبح نجما من نجوم الفن؛ تمسح ليصبح واحداً من المجاميع الذين لا غنى عنهم في أي فيلم والذين يطلق عليهم «الكومبارس».
ازدهرت صناعة السينما لتصبح صناعة متكاملة من كل الزوايا، وأصبح الفيلم توضع له ميزانية متكاملة بدراسة جدوى موضحاً فيها كل بنود التكلفة من أجور وديكورات وانتقالات وغيرها من بنود الإنتاج، كما توضح دراسة الجدوى الإيرادات المتوقعة من دور العرض السينمائي والتوزيع الخارجي والإعلانات وغيرها من عناصر الإيرادات.
ورغم أن الاقتصاد السينمائي هو أهم اقتصاد في دول كثيرة مثل أمريكا والهند وغيرهما من البلاد إلا أنها تعتبر اقتصاداً خطراً في مصر من وجهة نظر البنوك المصرية، فكان من نتيجة تلك النظرة أن انسحبت البنوك من فكرة تمويل المشروعات السينمائية وهو ما اعتبره السينمائيون تصنيفاً عنصرياً، في حين أكد المصرفيون أن حجم المخاطرة في صناعة السينما كبير جداً، وذلك نظراً لعدم وجود أصول ثابتة تضمن للبنوك حقوقها إذا ما خسر الفيلم.
المنتج جمال العدل أكد أن المخاطرة الكبيرة والعالية في السينما هي التي تمنع البنوك من الاتجاه إلي إنتاج الأفلام لأن الأموال التي سوف تصرف علي هذه الصناعة ربما لا تعود لها مرة أخري فمثلاً الإيرادات التي تأتي من أي فيلم ولتكن 60 مليوناً هناك من يشاركني فيها فالنجم يأخذ منها 20 أو 30 مليوناً بالإضافة إلي أنني أتعامل مع شركات توزيع وهي لها نسبة من الإيراد, إذن فالفيلم خسران خسران والمخاطرة في السينما هي التي تقف حائلاً أمام دخول البنوك مجال الاستثمار في إنتاج الأفلام أما عن اتجاه البنوك للاستثمار في صناعة السينما نفسها فأكد العدل أنها أيضاً تشتمل على مخاطرة، وذلك لأن إنشاء الاستوديوهات والمعامل دون أن يكون هناك أفلام كمن يفتح سوبر ماركت ولا توجد فيه بضاعة فلمن ينشئون هذه الاستوديوهات ولا يوجد أفلام لتصور فيها.
الفنان محمود ياسين أكد أن السينما منذ منتصف الثمانينيات وهي تعاني وزادت معاناتها بعد صدور القانون 203 لسنة 1991 والذي يقضي بتخلي الدولة عن جميع الأصول غير الاستراتيجية بمعنى أن صناعة السلاح والبترول والإسكان وغيرها هي صناعات استراتيجية ولكن الصناعات غير الاستراتيجية كان من بينها السينما ولذلك فقد تخلت الدولة عنها لأنها صناعة هشة في حد ذاتها فإذا كانت الدولة قد تخلت عن صناعة السينما فإن تخلي البنوك عنها أمر طبيعي بالرغم من أن استثمارات صناعة السينما تعتبر ضخمة وأصولها كثيرة ولابد أن تعود الدولة لتمسك هذه الأصول مرة أخري.. فلقد ظللنا سنوات ننتظر أن تظهر شركات إنتاج لتقيل السينما من عثرتها حتي ظهرت الشركة العربية ثم جود نيوز التي توقفت الآن لإعادة الحسابات واستمرت العربية ولكنها لن تستطيع أن تسد الفجوة الكبيرة في الإنتاج فهي قد تنتج ثلاثة أو أربعة أفلام في العام وهي غير كافية.. وكل ذلك بسبب أن الدولة رفعت يديها عن السينما تماماً ولا يظن أحد أن لها يداً في صناعة السينما الآن بل العكس هو الصحيح.. ولذلك انتقلت تلك النظرة من الدولة للسينما إلي البنوك فأحجمت عن الإنتاج تماماً.
* المنتجون السبب
أما الناقد طارق الشناوي فيؤكد أنه كانت للبنوك تجربة مع أحد المخرجين وربما تكون السبب في ابتعاد البنوك عن تمويل المشروعات السينمائية كما أن غياب الفلسفة العامة عند المجتمع حول النظرة العامة للسينما ومن يعملون بها والتي دائماً ما تكون متدنية انتقلت إلي الاقتصاديين فبدأوا ينظرون إلي السينما كمشروع تافه لا يستحق أن يدخل فيه أحد.. بالرغم من أن السينما تكسب وليس كما يدعي المنتجون من أنها تخسر واضعين في اعتبارهم الضرائب وغيرها أما البنوك فإن أمر الضرائب لا يشكل لها أي عائق بل إن دخولها في الإنتاج سوف يؤدي إلي انتعاشة في السينما نفسها ولكن ترديد القائمين علي السينما أنها تخسر يقع عليه جزء كبير من إحجام البنوك عن الدخول في تمويل صناعة السينما.
أما المخرج شريف عرفة فيري أن البنوك لم تكن في يوم من الأيام ممولاً للأفلام لأنه لا توجد لديها أي ضمانات علي عكس ما يحدث في أمريكا حيث تمول البنوك الأفلام لأن هناك ما يسمي الحد الأدني من الربح وهو الضمان الذي تبحث عنه البنوك أما عندنا في مصر فلا يوجد من يحدد هذا الحد الأدني وبالتالي لا توجد أي ضمانة لدي البنوك.. كما إنهم لا يتعاملون مع الفيلم كمشروع استثماري لان به حجم مخاطرة عالياً, ولكن يمكن للبنوك أن تمول الأصول الثابتة في صناعة السينما كالاستوديوهات والمعامل وغيرها.. وأكد عرفة أن طلعت حرب عندما فكر في دخول مجال الاستثمار في صناعة السينما أنشأ شركة مستقلة عن بنك مصر وبالتالي لم يكن طرفاً فيها.
* لا توجد ضمانات
ولم يختلف رأي المصرفيين كثيراً عن رأي السينمائيين حيث يؤكد أحمد قورة رئيس البنك الوطني المصري السعودي الأسبق أن فكر البنوك في مجال الاستثمار ينصبّ في اتجاهين الفكر التقليدي والفكر المصرفي وهما ما يحكم الاستثمار في أي صناعة.. وإذا ما طبقنا هذين الفكرين علي صناعة السينما سنجد أولاً أن الفكر التقليدي يقوم أساساً علي تمويل المشروعات الإنتاجية وبالتالي لا يعتبر الفن من ضمن هذه المشروعات فيكون دائماً الرفض هو الرد الطبيعي لمشروعات إنتاج الأفلام. أما عن الفكر المصرفي فلا توجد ضمانات كافية لاستيفاء حقوق البنوك خاصة أن ميزانية الأفلام دائماً ما تنصب حول التصوير وأجور الفنانين ولو طبقنا مقومات الائتمان الخاصة بالدراسات المتعلقة بالأفلام سنجد أنها غير مستوفاة ولا توجد لها ضمانات يسترد بها البنك أمواله, فلا يمكن الحجز علي فنان أو فنانة لمجرد أنه قدم عملاً وإلا أصبحت فضيحة تتداولها الصحف.
وعن عدم دخول البنوك في تمويل إنشاء الاستديوهات والمعامل السينمائية أكد قورة أنها ينطبق عليها نفس الأمر حيث لا توجد أيضاً ضمانات.
* إحجام عام
من جانبه صرح مصطفي السيد مدير ائتمان الشركات بأحد البنوك الأجنبية بأن هناك إحجاماً بشكل عام من البنوك عن تمويل الأعمال الفنية وذلك لعدة أسباب أولها ارتفاع حجم المخاطرة في تلك الصناعة وعدم ضمان تحقيق تدفقات نقدية من تسويق الأعمال لأنها تعتمد في المقام الأول علي نجم الشباك والسيناريو المطروح وليس دراسة الجدوي في الأعم فلا أحد يضمن أن الفيلم الذي مول إنتاجه بنك ما سيحقق نسبة مشاهدة عالية أو أن القنوات الفضائية سوف تقبل علي شرائه خاصة أن هذا هو مصدر التدفق النقدي لأي عمل فني, ثانياً عدم توافر كوادر مدربة لدي البنوك علي التعامل في مثل هذه القطاعات يعتبر أحد أسباب رفض تمويل مثل هذه الأعمال. مشيراً إلي أنه في الأحوال العادية وبعيداً عن البنوك فإن من يتقدم من رجال الأعمال لدخول هذا المجال لا يدخله منفرداً بل يدخله عن طريق أحد الفنانين أو المنتجين الذين عملوا لسنوات طويلة في مجال السينما وعلي نفس الطريق تسير الإعلانات بالنسبة لإحجام البنوك عن تمويلها رغم اختلاف درجة المخاطرة نسبياً فقد تكون مقبولة أكثر من الأعمال الفنية لكن بشكل عام تنظر البنوك إلي خطر العمل والمجال الإعلامي ككل.
ويشير السيد إلي أن عدم وجود ضمانات حقيقية ممثلة في أصول أو ما شابه ذلك يعد إحدي العقبات التي تقف أمام التمويل, فمعظم المنتجين أو شركات الإنتاج لا تملك أصولاً مثل الاستوديوهات أو دور العرض أو مقار لقنوات فضائية بل غالباً يتم استئجارها.
إجماع المصرفيين والسينمائيين علي أن صناعة السينما تحمل درجة مخاطرة عالية تؤدي إلي إحجام البنوك عن تمويلها يضع مستقبل السينما المصرية علي المحك وهو ما بدأ يظهر جلياً في حجم الإنتاج والذي يدل علي أن السينما في مفترق طرق قد يؤدي إلي سقوطها في هاوية سحيقة تحتاج فيها لمن يمد لها طوق النجاة فهل تسارع الدولة بإلقاء هذا الطوق أم ستترك السينما لمصيرها المجهول؟ سؤال يستحق الإجابة لإنقاذ صناعة تعتبرها الدولة «تافهة».