د. محمد فراج يكتب: ماذا لو لم تحدث عملية ”طوفان الأقصى”؟
استقالة رئيس الأركان الإسرائيلى هيرتس هاليفى منذ أيام لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام الإعلام العربى باعتبار هاليفى هو القائد العسكرى الأعلى للجيش الصهيونى وباعتبار أن هذه الاستقالة التى تسري بدءا من السادس من شهر مارس القادم جاءت اعترافا من هاليفى بمسئوليته عن الفشل فى منع وقوع عملية "طوفان الأقصى" فى السابع من أكتوبر 2023 وعن مظاهرالفشل فى إدارة الحرب ضد حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى. الاستقالة تمثل الذروة فى موجة من الاستقالات بين القيادات العسكرية الصهيونية، وقد سبقتها استقالة قائد القوات البرية وعدد من الوحدات العسكرية والمخابراتية الأخرى. ومن المتوقع أن تتلوها قريبا استقالة رئيس جهاز الشاباك المسئول عن العمل المخابراتى الداخلى وما يسميه الصهاينة "مكافحة الإرهاب الفلسطينى" وكذلك عدد من القيادات العسكرية من بينها قائد سلاح الطيران وقائد القوات البحرية.
وربما كان من أهم أسباب عدم كفاية اهتمام الإعلام العربى بهذه الموجة عن الاستقالات ذات الدلالة البارزة فى صفوف قيادات جيش ومخابرات الدولة الصهيونية أنها جاءت مع بدء تنفيذ اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وفى ذروة احتدام الجدال في الإعلام العربى والصهيونى حول ما إذا كان هذا الاتفاق يمثل انتصارا أم هزيمة للطرف الفلسطينى أو للطرف الصهيونى, والخطوات اللاحقة المحتملة ودور "حماس" فيها, إلخ, وهو جدال يمتد إلى مراجعة إعلامية وسياسية واسعة وساحقة لعملية "طوفان الأقصى" نفسها وما إذا كانت عملية مقاومة ناجحة ضرورية أم أنها كانت عملية متطرفة ومتهورة دفع الشعب الفلسطينى ثمنا فادحا لها من الشهداء والجرحى والمعاناة الإنسانية القاسية لم يكن ينبغى دفعه؟
...
والحقيقة أن الإجابة عن السؤال الأخير تقتضى بالضرورة النظر فى أوضاع القضية الفلسطينية والسنوات السابقة على عملية طوفان الأقصى والتى شهدت تدهورا شاملا أصبح يهدد فعليا بتصفيتها.
1 – فمن ناحية شهدت الساحة السياسية الإسرائيلية صعودا عاصفا لليمين الصهيونى بمختلف تلاوينه بما فى ذلك اليمين المتطرف واليمين الدينى شديد التطرف الممعن فى عدوانيته ضد الشعب الفلسطينى وأبسط حقوقه والأكثر نشاطا فى دفع حركة الاستيطان فى الضفة الغربية ومصادرة الأراضى الفلسطينية بشتى الذرائع الواهية, وبغض النظر حتى عن الاتفاقيات التى وقعت عليه الدولة الصهيونية مثل "اتفاق أوسلو" مما نتج عنه تقليص مستمر للأراضى الباقية فى حوزة الفلسطينيين وهو ما جعل الحديث عن حل الدولتين أمرا مثيرا للسخرية وارتبط هذا بشتى أشكال التضييق على الشعب الفلسطينى وإقامة الحواجز على الطرق وصولا إلى قضم مساحات واسعة من أراضى الضفة الغربية لإقامة الجدار العازل بينها وبين بقية الأراضى الفلسطينية.
2 – ومن جهة ثانية ترافق مع استفحال حركة الاستيطان تسليح قطعان المستوطنين تحت إشراف الحكومة الصهيونية وتشجبعهم على الاعتداء البدنى على الفلسطينيين وحرق بيوتهم وحقولهم و"بيارات" الزيتون والكروم, إلخ, وممارسة شتى أشكال الإذلال ضدهم فضلا عن إطلاق النار على الشباب ودهس الأطفال بسيارات المستوطنين مما جعل من سقوط الشهداء ظاهرة يومية.
3 – ومن جهة ثالثة نشطت حركة تهويد القدس وطرد حاملي الهوية المقدسية منها بشتى الذرائع.
كما أصبح الاعتداء على المسجد الأقصى الشريف وتدنيس ساحاته ممارسة شبه يومية يشارك فيها الوزراء وأعضاء الكنيست والمسئولين فضلا عن قطعان المستوطنين وكل ذلك تحت حماية الجيش الصهيونى وقوات حرس الحدود وتوسعت كثيرا عمليات إقامة الشعائر اليهودية فى ساحات الحرم القدسى وتصاعدت على نطاق واسع الدعوات إلى اقتسام المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا!! ناهيك عن منع المصلين الفلسطينيين والاعتداء عليهم داخل وخارج الحرم القدسى.
4 – وشهدت ظاهرة الاعتقال والاعتقال الإدارى للنشطاء الفلسطينيين وتعذيب الأسرى توسعا شديدا مع رفع شعار "الترانسفير" أو ترحيل أبناء فلسطين على أوسع نطاق خصوصا مع إعلان دولة الكيان "دولة يهودية" أو "دولة لليهود" وإقراره من جانب الكنيست فى صورة قانون.
5 – مع وصول ترامب للحكم فى أمريكا (2017) تصاعد الدعم العسكرى والسياسى والاقتصادى للدولة الصهيونية بصورة كبيرة, كما اعترفت أمريكا بالقدس عاصمة موحدة للدولة الصهيونية وتم نقل السفارة الأمريكية إليها فيما يمثل انتهاكا صارخا لكل القرارات الدولية ذات الصلة فضلا عن اعتراف واشنطن بسيادة الدولة الصهيونية على الجولان.
6 – مارست إدارة ترامب ضغوطا شديدة على عدد من الدول العربية لفرض ما يسمى بالاتفاقات الإبراهيمية وتطبيع العلاقات بينها وبين الدولة الصهيونية بغض النظر عن حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه التاريخية وفى مقدمتها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية, الأمر الذى كانت القمم العربية تعتبره شرطا للاعتراف بالكيان الصهيونى وتطبيع العلاقات معه, وهو الأمر الذى أدى للإسقاط الفعلى لشعار "الأرض مقابل السلام" – أى لاعتراف بالكيان الصهيونى مقابل انسحابه من الأراضى الفلسطينية ليصبح الشعار السائد فعليا هو "السلام مقابل السلام" وهو ما يعنى بالفعل تصفية القضية الفلسطينية عربيا.
7 – وأدى ذلك كله إلى ترك الشعب الفلسطينى وحيدا فى مواجهة الدولة الصهيونية وهو ما شجعها على تصعيد عدوانها ضده فتصاعدت الأعوام الأخيرة بالذات الممارسات الصهيونية الهمجية ضد المواطنين الفلسطينيين بمختلف الأشكال بما فى ذلك اقتحام المخيمات والمدن الفلسطينية بالدبابات والجرافات وتدمير بنيتها التحتية واغتيال الشباب الناشطين بدم بارد.
8 – ويكفى أن نشير إلى أن عدد الشهداء من الشباب الفلسطينى فى الضفة الغربية وصل إلى 350 شهيدًا فى الشهور السابقة على عملية طوفان الأقصى (من يناير حتى بداية أكتوبر2023)!! وذلك عدا الجرحى والأسرى.
9 – وبالرغم من هذا التصعيد الصهيوني المتزايد للعنف الوحشى وسلب الأراضى الفلسطينية وتدنيس المقدسات والتضييق المستمر على معيشة الشعب الفلسطينى فإن التخاذل العربى عن نصرة شعب فلسطين كان مستمرا وكانت مسيرة "التطبيع" مستمرة بخطى سريعة مما أصبح يمثل خطرا جديا بتصفية القضية الفلسطينية.
10 – وأصبح مطلوبا بإلحاح اتخاذ خطوة فلسطينية تنقذ القضية من الدخول إلى ثلاجة الدبلوماسية الباردة وتعيد تسليط الضوء عليها وتذكير العالم بها وتقطع الطريق على عار التطبيع العربى – الصهيونى المتسارع والمجانى وتوقظ الشعوب العربية والعالم على حقيقة أن الشعب الفلسطينى ليس مستعدا –بأى حال من الأحوال– للتفريط فى وطنه, وأن المقاومة ضرورية وممكنة وأن الدولة الصهيونية ليست بذلك العدو الذى لا يقهر, بالرغم من أنها مسلحة حتى الأسنان ومن الدعم الهائل الذى تقدمه لها أمريكا ومعها الغرب الاستعمارى كله.
وكان على غزة أن تدفع الثمن بالغ الفداحة لذلك كله ودفعته مثلما تفعل كل الشعوب المناضلة من أجل حريتها, لأن الأوطان تستحق.. والحرية تستحق.. وفلسطين تستحق..