د.محمد فراج يكتب : الصهيونية بين الخرافات وحقائق التاريخ (٥)
ظهرت الصهيونية كحركة سياسية منظمة فى أوروبا فى القرن التاسع عشر الميلادى، ويعد أول تعبير مكتمل عنها كتاب «الدولة اليهودية» أو «دولة اليهود» للصحفى والكاتب النمساوى «تيودور هيرتزل» الذي نشر فى فبراير ١٨٩٦ ودعا فيه إلى ضرورة إقامة دولة قومية لليهود، وهو الكتاب الذى حقق انتشارا واسعا واعتبر بمثابة برنامج أو أساس فكرى وسياسى للمؤتمر اليهودى العالمى الأول، الذى انعقد بعد عام ونصف (٢٩ - ٣١ أغسطس ١٨٩٧) فى مدينة بازل السويسرية. وقرر المؤتمر تبنى هدف إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين من خلال:
١ - تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
٢ - تنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية
٣ - اتخاذ السبل والتدابير اللازمة للحصول على تأييد دول العالم للهدف الصهيونى «لإعطائه شرعية دولية».
وقرر المؤتمر تشكيل هيئتين للعمل على تحقيق هذه الأهداف هما:
١ - المنظمة الصهيونية العالمية المنوط بها القيادة الفكرية والسياسية للحركة الصهيونية، وقد انتخب تيودور هيرتزل رئيسًا لها.
٢ - الوكالة اليهودية كجهاز تنفيذى منوط به تنفيذ قرارات المؤتمر، ومهمتها جمع الأموال فى صندوق قومى لشراء الأراضى وإرسال مهاجرين يهود لإقامة مستعمرات فى فلسطين.
>> اللافت للنظر بشدة أنه حينما رفض السلطان العثمانى عبدالحميد السماح للصهاينة بإقامة وطن قومى لهم فى فلسطين «وكانت فى ذلك الوقت جزءا من الإمبراطورية العثمانية» فإنهم انتقلوا إلى بحث إمكانية إقامة «وطنهم القومى» فى الأرجنتين أو أوغندا!! بغض النظر عن انعدام الصلة تماما بين هذين البلدين و«أرض الميعاد» و«الوعد الإلهى بفلسطين»!! وهو ما يكشف زيف الدعاوى الخاصة بـ«العودة إلى صهيونى»..إلخ، ومحاولة الحركة الصهيونية إضفاء طابع مقدس على تلك «العودة» ــ وإن كان تطور الأحداث قد مضى فى اتجاه تحقيق أطماع الصهيونية فى فلسطين لأسباب سنأتى إليها.
والأكثر من ذلك نقول إن الحركة الصهيونية وفكرة الهجرة إلى فلسطين لم تكادا تحظيان برواج كبير بين التجمعات اليهودية فى العالم فى ذلك الوقت «أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين»، ويرجع ذلك إلى أن تطور الاتجاهات الفكرية لدى الجماعات اليهودية في أروبا قد ارتبط بتطور المجتمعات الأوروبية التى عاشت فيها تلك الجماعات.
اليهود والتطورات الاقتصادية في أوروبا
فقد بدأ الخروج من القرون الوسطى إلى عصر النهضة فى أوروبا الغربية بصورة مبكرة إلى حيز كبير عما حدث فى أوروبا الشرقية والوسطى، بدءا بالانتعاش التجارى الكبير «للمدن، الجمهوريات» الإيطالية الثلاث «البندقية وفلورنسا وجفوة» التى عُرفت بتجارة واسعة مع دول حوض البحر المتوسط، ثم دخلت هولندا والبرتغال وإسبانيا عصر الكشوف الجغرافية فى القرن السادس عشر «الأمريكتين وسواحل أفريقيا» مما ساعد على إنعاش التجارة فى بلدان غرب أوروبا وجنى ثروات كبيرة من موارد تلك البلدان، لتحدث الثورة الصناعية فى انجلترا «فى القرن الثامن عشر» وتنتقل منها إلى بلدان غرب القارة، ولتشهد أوروبا الغربية تطورا متسارعا نحو الرأسمالية، التجارية أولا ثم الصناعية ونموا سريعا للمدن، على حساب المجتمعات الإقطاعية وطابعها الريفى المنغلق.
وكانت كل هذه التطورات مواتية للجماعات اليهودية فى غرب أوروبا، والتى كان نشاطها الاقتصادى يتركز في التجارة والصيرفة والإقراض بالربا، فتمكنت تلك الجماعات من تعزيز مكانتها الاقتصادية والاجتماعية، ثم جاء «عصر الأنوار» والتبشير بالأفكار الديمقراطية التى مهدت الطريق للثورة الفرنسية (١٧٨٩) وانتشار أفكار «الحرية والإخاء والمساواة» ليفتح ذلك كله مجالا واسعا لتحقيق درجات كبيرة من «اندماج» اليهود التدريجى فى المجتمعات الأوروبية الغربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بصورة خاصة.
وسمح هذا الاندماج للشخصيات اليهودية الموهوبة باحتلال مواقع مرموقة فى مجتمعات بلدان أوروبا الغربية، ويكفى أن نشير مثلًا إلى احتلال «أسرة روتشيلد» لمكانتها المرموقة فى النظام المصرفى البريطانى وإلى وصول «بنجامين وزرائيلى» ذى الأصل اليهودى إلى منصب رئيس وزراء بريطانيا العظمى مرتين، امتدت الثانية منهما من «فبراير ١٨٧٤ إلى أبريل ١٨٨٠».
وبالمناسبة فإن وزرائيلى هذا هو الذى اقترض ٤ ملايين جنيه استرلينى من صديقه المصرفى اليهودى الكبير ليونيل روتشيلد ليشترى لبريطانيا أسهم مصر فى قناة السويس من الخديو إسماعيل.
هذه الأوضاع المواتية للجماعات اليهودية عززت لديها الميل إلى الاندماج فى المجتمعات الأوروبية الغربية، وترافق مع هذا اتجاه واسع للهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة، أرض الفرص الواسعة للإثراء، وخاصة من خلال العمل فى الأنشطة المصرفية والبورصة.
وبالنظر إلى ذلك كله كان طبيعيا ألا تحظى الحركة الصهيونية بشعبية بين يهود أوروبا الغربية في المرحلة التالية مباشرة لظهورها على الأقل.
<<<
وعلى العكس من هذه النزعة «الاندماجية» لدى يهود أوروبا الغربية، فقد سادت نزعة «انعزالية» بين يهود روسيا وبلدان شرق أوروبا الأقل تطورا بكثير من الناحية الاقتصادية والاجتماعية مقارنة ببلدان غرب القارة، ففى الإمبراطورية الروسية وبلدان شرق أوروبا لم تتوافر لجماعات اليهود كبيرة العدد نفس الفرص الاقتصادية والاجتماعية التى كانت متاحة لإخوتهم فى غرب القارة، كما أن انخراط بعضهم فى الأنشطة المعاونة للدولة القيصرية عاد عليهم بالمتاعب التى كانت تواجهها المعارضة «راجع بالتفصيل - الأموال، ٢٤ مارس ٢٠٢٤».
ولهذا فقد سادت بين هؤلاء النزعة «الانعزالية» ولقيت الدعوة الصهيونية بينهم شعبية واسعة، بل كانت قد ظهرت بينهم قبل دعوة هيرتزل اتجاهات يسميها البعض «الصهيونية الروحية/ تمييزا لها عن الصهيونية كحركة سياسية منظمة» مثل جماعة «أحباء صهيون» التى هاجر عشرات من أعضائها إلى فلسطين فى سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، وتلقت يهود روسيا وشرق أوروبا الدعوة الصهيونية الوليدة بقيادة هيرتزل بالترحاب وقد سبق أن أشرنا إلى أنهم مثلوا النسبة الأكبر بين أوائل المهاجرين الصهاينة إلى فلسطين في بداية القرن العشرين، ومؤسسو المستعمرات الزراعية الأولى، كما كان من بينهم عدد كبير من زعماء المنظمة الصهيونية العالمية، وزعماء العصابات الصهيونية فى فلسطين مثل بن جوريون ومناحم بيجن وجولدا مائير وشمعون بيريز وغيرهم «للتفاصيل راجع (الأموال) - ٢٤ مارس».
وعد بلفور نقطة تحول أساسية
معروف أن الحركة الصهيونية قد سعت منذ بداية وجودها للارتباط ببريطانيا باعتباره القوة العظمى الأولى فى العالم وقتها، والإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس وصاحبة النفوذ الاستعمارى الكبير فى الشرق الأوسط منذ احتلالها لمصر عام ١٨٨٢.
ومعروف أيضا أن الدولة الأوروبية الكبرى كانت تسعى لاقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية المتداعية، والتى كان يُطلق عليها رجل أوروبا المريض، وهو ما تحقق بالفعل كنتيجة لهزيمة تركيا فى الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ – ١٩١٨).
ومنذ ما قبل الحرب العالمية الأولى سعى زعماء الحركة الصهيونية لنيل موافقة بريطانيا على إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين حينما يتم انتزاعها من الإمبراطورية العثمانية ودارت محادثات كثيرة فى هذا الصدد بين زعماء المنظمة الصهيونية العالمية وخاصة البريطانيين منهم وبين لندن. ونتيجة لهذه المحادثات صدر «وعد بلفور» فى الثامن من نوفمبر ١٩١٧ فى صورة خطاب موجه من اللورد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا العظمى إلى اللورد «ليونيل روتشيلد» زعيم الحركة الصهيونية البريطانية وعميد أسرة روتشيلد صاحبة الإمبراطورية المالية الضخمة.
ونص وعد بلفور على أن «حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على ألا يجرى أى شىء قد يؤدى إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة فى فلسطين».
وبمقتضى هذا الوعد الذى أصدره من لا يملك إلى من لا يستحق فإن اليهود أتباع الديانة المنتشرة فى مختلف بلدان العالم يصبحون «شعبا» يحق له تأسيس وطن قومى، بينما الشعب الفلسطينى المقيم على أرضه منذ خمسة آلاف عام يصبح «جماعات أخرى مقيمة فى فلسطين»، ولها «حقوق مدنية ودينية»!! وليس الحق التاريخى الأصيل والثابت للشعب فى وطنه!!
ودخلت القوات البريطانية القدس في ٩ نوفمبر ١٩١٧ وأصدرت بريطانيا قرارا بإعلان انتدابها على فلسطين، أقرته «عصبة الأمم» التى تشكلت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وشمل قرار «العصبة» اعترافًا بوعد بلفور، وعَيَنت بريطانيا «السير هربرت صمويل» اليهودى الصهيونى البريطانى مندوبا ساميا على فلسطين لتنفتح الأبواب على مصاريعها لارتكاب جريمة من أبشع وأحط جرائم التاريخ.. جريمة سلب فلسطين..
وللحديث بقية