د.محمد فراج يكتب : نجاح قمة سانت بطرسبورج.. انتصار كبير لافريقيا وروسيا
انعقاد قمة «روسيا - افريقيا» في سانت بطرسبورج (٢٧/ ٢٨ يوليو) حدث دولي مهم بالنظر إلى الأهمية الكبرى التى تمثلها القارة السمرآء وروسيا فى العلاقات الدولية، وإلى العلاقات الواسعة والمتشعبة بين الطرفين. والحضور الافريقى الكبير فى القمة يمثل في حد ذاته نجاحا بارزا للدبلوماسية الروسية، إذ حضرت القمة تسع وأربعون دولة هى أكبر وأهم دول افريقيا، بما فى ذلك حوالى عشرين رئيسًا وممثلون رفيعو المستوى عن بقية دول القارة، بالرغم من الجهود المستميتة التى بذلتها الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما من الدول الغربية الكبرى لحمل الدول الافريقية علي مقاطعة القمة، تضامنا مع الحملة الغربية الضارية ضد روسيا بسبب الحرب فى أوكرانيا.
قمة سانت بطرسبورج هى القمة الثانية المشتركة بين روسيا ودول القارة الافريقية بعد قمة سوتشي (٢٠١٩) فى إطار آلية شاملة للتعاون بين الطرفين فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية والثقافية، وهو تعاون ترجع بداياته إلى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، حينما دعم الاتحاد السوفيتى حركات التحرر الوطنى الافريقى ضد الاستعمار الغربى ثم قدم الدعم لها بعد الاستقلال فى بناء اقتصاداتها الوطنية وتجاربها للتنمية المستقلة، وكذلك فى بناء وتسليح جيوشها الحديثة، وفى هذا السياق تطورت علاقات واسعة بين موسكو وعشرات الدول الافريقية، لا مكان فيها للمرارات التاريخية الناتجة عن التجارب المأساوية لقرون من الاستعمار والنهب الغربى لثروات القارة السمراء.
وإذا كانت العلاقات بين روسيا والدول الافريقية قد تعرضت للضعف فى السنوات التالية لانهيار الاتحاد السوفيتى وانكفاء موسكو على ذاتها فى أواخر القرن الماضى، فإن عودة روسيا القوية إلى المسرح الدولى مع بدايات القرن الحادى والعشرين قد شهدت بذلها جهودا مكثف لترميم وإنعاش علاقاتها التقليدية مع أصدقائها التقليديين فى افريقيا وتوسيع هذه العلاقات لتشمل بلدانا افريقية جديدة وأصبحت روسيا أحد المنافسين الكبار من أجل النفوذ السياسى والاقتصادى والعسكرى فى القارة السمراء، إلى جانب الولايات المتحدة والصين وفرنسا بصورة رئيسية، مع تميز كل طرف من هذه الأطراف بميزات تنافسية تخصه.
ولسنا بحاجة إلى شرح الأهمية الاستراتيجية الكبرى التي تتسم بها افريقيا بسبب موقعها الذى يتوسط قارات العالم والثروات الطبيعية الهائلة التى تختزنها أراضيها من البترول والغاز واليورانيوم والذهب الألماس، ومختلف المعادن النادرة والثمينة الضرورية للصناعة، فضلا عن الموارد المائية الغنية، والمساحات الشاسعة من الأراضى الخصبة والقابلة للاستصلاح، كما تمثل القارة السمراء سوقا هائلة يسكنها قرابة مليار ونصف المليار نسمة، وهى سوق متعطشة للاستثمارات ولشتى أنواع السلع.
روسيا والسباق نحو افريقيا
ومع تصدع ثم انهيار الاتحاد السوفيتى ظلت افريقيا لنحو عقدين من الزمان مجالا شبه حصرى للنفوذ الأمريكى والغربى، وخاصة الفرنسى لاسيما فى دول الساحل والصحراء مع استشفاءات محدودة هنا وهناك، حتى جاءت الصين الصاعدة بسلعها الرخيصة واستثماراتها الكبرية لتنتزع لنفسها مواقع قوية فى القارة، ثم جاءت روسيا مع صحوتها وسعيها لاستعادة مكانتها كدولة عظمى، لتستعيد وتعزّز علاقاتها مع أصدقائها التقليديين مستندية إلي إنجازات هامة لتلك العلاقات من أجل تطويرها فى ظروف عالمية جديدة ولتقيم علاقات متزايدة الاتساع مع دول أخرى انطلاقا من دبلوماسية برهنت علي ديناميكية كبيرة وتميزت بصورة أساسية ببناء العلاقات علي قاعدة النفع المتبادل واحترام سيادة الودل، والاهتمام واسع النطاق بتدريب الكوارد فى شتى المجالات العسكرية والصناعية والعلمية وتقديم المنح الدراسية بقدر واضح من السخاء، وكذلك المساعدة على توطين التكنولوجيات الحديثة وهى ميزة تنفرد بها روسيا فى مواجهة الدول الغربية، فضلا عن الشروط الميسرة للإقراض من أجل بناء مشروعات تنموية هامة مع سداد القروض من عائدات إنتاج المشروعات الجديدة ودون فرض شروط سياسية، وهذه كلها اعتبارات بالغة الأهمية بالنسبة لدول العالم الثالث التى عانت وتانى الأمرين من شروط الدول الغربية ومؤسسات التمويل الغربية، لتقديم المساعدات أو القروض علمًا بأن الاستثمارات الروسية تتركز فى الصناعة ومشروعات البنية التحتية والتعدين.
كما استفادت روسيا من إعادة تنظيم صناعاتها العسكرية « المتقدمة أصلا» لمساعدة عدد كبير من دول العالم، بما فى ذلك الدول الافريقية فى تحديث تسليح جيوشها، وتدريب كوادرها العسكرية والأمنية فى مواجهة الحركات الإرهابية، وفق احتياجات وظروف كل دولة، علمًا بأن الأسلحة الروسية التى تعتبر من أكثر نظم التسليح تقدما فى العالم تتسم برخص أسعارها مقارنة بالأسلحة الغربية المناظرة وبالتيسيرات فى السداد.
ومن ناية أخرى استفادت روسيا من وفرة إنتاجها من القمح والحبوب (٢٠٪ من حجم الصادرات العالمية) ومن الأسمدة ومن قربها الجغرافى من القارة الافريقية لتحتل مواقع مهمة فى إمدادات عدد كبيرمن دول القارة ومنطقة الشرق الأوسط بالحبوب وكذلك بالأسمدة المعدنية التى تحتل موقعا متقدما فى صادراتها العالمية «أكثر من ١٥٪» - «انظر بالتفصيل، الأموال، ٢٣/ ٧/ ٢٠٢٣).
مصر نموذجا
وتعتبر مصر أكبر شريك لروسيا فى القارة الافريقية وهناك تاريخ طويل من التعاون الاقتصادى والعسكرى والعلمى والتكنولوجى بين البلدين، فالاتحاد السوفيتى السابق هو الذى بنى السد العالي وشبكة الكهرباء المتصلة، كما بنى المصانع الحربية والعديد من المشروعات الصناعية والاقتصادية فى الخمسينات والستينيات والسبعينات، وفى مقدمتها مجمع الحديد والصلب بحلوان، ومجمع الألومنيوم بنجع حمادى، كما قام بتسليح الجيش الصرى حتى حرب أكتوبر ١٩٧٣ وما بعدها، وظلت موسكو دائما مصدرا أساسيا لإمداد مصر بالحبوب ولاتزال، وكذلك بالغاز الطبيعى والمشتقات البترولية حينما كان الإنتاج المصرى لا يكفى احتياجات البلاد.
ومثلت ثورة ٣٠ يونيو نقطة انعطاف هامة فى استعادة مستويات التعاون الشامل بين البلدين، وصولا إلى الشراكة الاستراتيجية المعلنة، فقد أعلنت روسيا دعمها لثورة الشعب المصرى ضد حكم الإخوان الفاشى، وقامت بدور رئيسى فى تحديث وتطوير تسليح الجيش المصرى بكل فروعه، وتم الاتفاق على إقامة المنطقة الصناعية الروسية باستثمارات تزيد على ٧ مليارات دولار شرقى قناة السويس، والتى سيبدأ أول مصانعها الإنتاج قبل نهاية هذا العام.
أما الاستثمار الروسى الأكبر والأهم فى مصر فهى محطة الضبعة النووية التى تضم أربعة مفاتلات نووية قوة كل منها ١٢٠٠ ميجاوات بإجمالى قدره ٤٨٠٠ ميجاوات، مع إقامة بنية تحتية نووية سلمية تتضمن مدرسة ثانوية لإعداد الفنيين، وتنظيم بعثات علمية لإعداد المهندسين وتطوير كفاءات الباحثين، بحيث يتسلم المهندسون والفنيون المصريون إدارة وتشغيل المحطة النووية، التى يشاركون فى بنائها منذ الخطوة الأولي لتدخل مصر عصر الطاقة النوية السلمية.
وتقدم دول افريقية مثل الجزائر (بصورة خاصة) وجنوب افريقيا نماذج مهمة فى التعاون العسكرى والاقتصادى مع روسيا، التي قامت أيضا ـ وتقوم ــ بدور كبير فى دعم جيوش دول في منطقة الساحل والصحراء وغرب افريقيا وافريقيا الوسطى في تطوير تسليحها وإعداد كوادرها ومكافحة الإرهاب على أراضيها، علاوة على إمدادات الحبوب، ومختلف أنواع السلع الضرورية، بالإضافة للاستثمار فى المشروعات الاقتصادية.
الحرب الأوكرانية وانعكاساتها
ومع اشتعال الصراع بين روسيا والناتو على الأراضى الأوكرانية وفرض العقوبات الغربية على روسيا أعلنت مصر وأغلب الدول الافريقية رفضها الاعتراف بالعقوبات الغربية الأحادية ضد روسيا، واتخاذها موقف الحياد تجاه هذا الصراع، حرصا على مصالحها المتشعبة مع موسكو، وذلك بالرغم من كل التهديدات الأمريكية والغربية.
وفى هذا الإطار جاء الحضور الواسع للأغلبية الساحقة من الدول الافريقية لقمة «سانت بطرسبورج» ويجب أن نشير هنا إلى أن إعلان روسيا لحرصها على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية تجا هالدول الصديقة، وتنفيذها الفعلى لهذا الالتزام، وخاصة فيما يتصل بصادرات القمح والحبوب والأسمدة، كان موقفا له انعكاساته الإيجابية الكبيرة لدى الدول الافريقية ودول الشرق الأوسط، التي تعتمد بصورة كبيرة على الإمدادات الروسية، ولم يؤثر انسحاب روسيا من صفقة الحبوب الأوكرانية فى هذا الموقف الافريقى والشرق أوسطى الإيجابى، خاصة بعدما اتضح أن الحبوب الأوكرانية توجهت بصورة أساسية إلى الدول الأوروبية والفنية ومتوسطة الدخل ولم يصل للدول الأشد فقرا إلا «ثلاثة فى المائة» من الحبوب الأوكرانية.
وفى المقابل أعلنت روسيا استعدادها لتقديم أسمدتها المحتجزة فى الموانئ الأوروبية، مجانا إلى الدول الافريقية كما أعلنت عن تقديم كميات من القمح مجانا إلى الدول الأشد فقرا مثل بوركينا فاسو والصومال وافريقيا الوسطى وزيمبابوى مع الالتزام بتوصيلها مجانا كذلك.
وخلاصة القول إن قمة «روسيا - افريقيا» قد حققت نجاحا مبدئيا بالغ الأهمية بالحضور الافريقى شبه الجماعى فيها، بالرغم من المحاولات الأمريكية والغربية لإفشالها، ثم عززت هذا النجاح بإعلان أطراف المقة علي مواصلة هذا التعاون بما يحقق مصالحها المتبادلة، ثم زادته تأكيدًا بالخطوات والاتفاقات التى تم التوصل إليها فى إطار القمة.
ويجب القول إنه إذا كانت روسيا قد حققت انتصارا سياسيا كبيرا بنجاح هذه القمة، برغم الضغوط الغربية فإن الدول الافريقية بدورها قد حققت مكسبا ضخما بدفاعها عن مصالحها المشروعة فى إقامة علاقات متبادلة النفع من ناحية، وبتأكيدها لاستغلال إرادتها فى مواجهة ساسة الإملاءات الغربية، وكذلك بتأكيد دور افريقيا كطرف ذى وزن في العلاقات الدولية، تسعى الدول العظمى إلى كسب صداقته علي أساس المصالح المتبادلة واحترام السيادة فى عالم يتجه نحو التعددية القطبية، ويرفض هيمنة القطب الواحد.