قراءة تاريخية وسياسية لعصر الخلفاء الراشدين (١)
كان اغتيال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. الخليفة الثانى العادل الزاهد فى مظاهر السلطة والثروة مع اتساع الدولة الإسلامية وثرائها.. الشديد على نفسه وأسرته.. كان من المفارقات غير المتوقعة إذ لم يكن واردًا على الإطلاق أن يكون القتل الغادر مصيره وهو يُصلى إمامًا للمسلمين بالمسجد النبوى.
اغتيال الفاروق عُمر كان شهادة له بأنه أقام دولة إسلامية مؤسسة على العدل ورعاية المحكومين.. الضعفاء قبل الأقوياء، ولذا فإن قاتله كان مجوسيًا من عبدة النار «أبو لؤلؤة» انتقامًا من هذا الحاكم المسلم العادل الذي أدخل الإسلام في بلاد عبدة النار والمشركين، ولأن خنجر ذلك المجوسى كان مسمومًا فقد جاءت الطعنة الغادرة قاتلة، ولأن الفاروق عمر هو من هو.. صحابي جليل من أكابر الصحابة.. وحاكم عادل غير مسبوق ولم يتكرر في التاريخ الإنسانى، فقد كان رد فعله التلقائى المسكون بالإيمان العميق وهو لايزال ينزف دمًا «الحمد لله أن قاتلى لم يسجد لله سجدة واحدة يحاجنى بها أمام الله يوم القيامة».
اللافت فى تلك الحادثة الغادرة أنه لما أمسك المسلمون بالمسجد بذلك القاتل الغادر يريدون قتله، فإن الفاروق عمر بعدله وخشية أن يُقتل القاتل، بينما ينجو من الطعنة فيكون قتل ذلك المجوسى قتلا بغير قصاص، لذا فإنه أمر الناس وهو بين الحياة والموت أن يحبسوه، فإن نجا فسوف يرى فيه رأيا، أما إن مات فقد وجب القصاص، وهو ما حدث فعلا إذ مات عُمر متأثرًا بالطعنة بعد ثلاثة أيام.
<<<
الملحظ المهم بقدر دلالاته المهمة التي تعكس حسًا سياسيًا مسئولًا وحرصًا على أمن واستقرار الدولة ولأن احتمال وفاة عمر كان الأرجح، فإن الصحابة طلبوا من عمر أن يستخلف حتى لا يختلف الناس من بعده ويحدث فراغ فى السلطة، ولأن عمر الأحرص من الجميع على ألا يختلف الناس بعده، ثم لأنه لم يرد أن ينفرد برأى فى اختيار من يخلفه، ولحرصه الأكبر على ما يُعرف فى زماننا الحالى بالتداول السلمى للسلطة، فإنه رشح ستة من الصحابة ورشح ما يمكن تسميتها بلجنة اختيار أجمعت بعد اجتماع دام يومين على اختيار عثمان بن عفان أميرًا للمؤمنين، وهنا تجدر الإشارة إلى أمرين مهمين.. الأول أن اختيار عثمان ليكون الخليفة الثالث ومبايعته من الناس جميعًا تم وفقًا لمبدأ الشورى في الإسلام، والأمر الثانى هو أن الفاروق عمر رفض اقتراحا بترشيح ابنه عبدالله ضمن المرشحين الستة وقال كفى من آل الخطاب واحد، وهو بذلك كان يُرسى مبدأ مهما فى الحكم برفض توريث السلطة رغم أن اختيار عمر لابنه عبدالله بن عمر كان سيلقى قبولا من المسلمين لمكانته وورعه وتفقهه.
<<<
وفى نفس الوقت فقد توافرت فى عثمان بن عفان مواصفات ومسوغات كثيرة أهلته ليكون الخليفة الثالث إذ إنه الموصوف بذي النورين لتشرفه بالزواج تباعا من ابنتى الرسول.. رقية وأم كلثوم، ثمَّ إنه من كبار الصحافة السابقين فى الإسلام والمشهود له بتقواه الشديد وورعه الكبير والذى قال عنه النبى «إن الملائكة تستحى من عثمان»، وهو من جهزّ على نفقته الخاصة جيشًا كاملًا عُرف بجيش العسرة الذى كان الرسول يعده للتوجه إلى تخوم الروم لتأمين الدولة الإسلامية فى المدينة، بينما لم يكن لدى المسلمين ما يكفى لإعداد ذلك الجيش، ولذا كان دعاء الرسول له «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» وهو الدعاء الذى يعكس ///// الكبير من إنفاق عثمان فى سبيل الله.
<<<
امتدت خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه لأربعة عشر عاما وهى أطول فترة خلافة مقارنة بالخلفاء الراشدين.. إذ كانت خلافة أبى بكر سنتين، بينما كانت خلافة عمر عشر سنوات، وحيث شهدت سنوات عثمان أكبر توسع للدولة الإسلامية بقدر ما ازدادت قوة وثراء.
غير أنه رغم توسع الدولة بفعل الفتوحات الإسلامية شرقا وغربا ورغم ثراء الدولة الذى امتد أثره إلى الناس، فإن ثمة ممارسات فى إدارة الدولة اتسمت بها خلافة عثمان لم تلق قبول الكثيرين وفى مقدمتهم بعض الصحابة قريبى العهد بالرسول وبخلافة أبى بكر وعمر، كان فى مقدمتها مجاملة عثمان ومحاباة ذوى رحمه وأقاربه الذين ولاهم الولايات والأمصار والمناصب وأغدق عليهم العطايا والأموال والامتيازات الخاصة، وهى ممارسات أرجعها البعض للطبيعة الشخصية الرقيقة الوديعة لعثمان وضعفه الإنسانى تجاه أقاربه على العكس تمامًا من سلفه الفاروق عمر الذى كان يضيق على نفسه وعلى أسرته حتى يكونوا مثل أقل أسر المسلمين.
المثير أنه عندما كان يقال لعثمان إن عمر لم يكن يجامل أقاربه ولم يولهم المناصب، فإنه كان يرد على منتقديه بأن «عمر كان يقطع رحمه مرضاة لله، أما أنا أصل رحمى مرضاة لله»!
<<<
ومستأذنًا فى التعليق على قول عثمان الذى يصعب تفهمه أو تقبله ممن هو فى مكانته الرفيعة من النبى وفى الإسلام أيضا وهو من هو ورعًا وتقوى مستندًا إلى مقولة الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة: «كل يُؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر.. مشيرًا إلى قبره صلى الله عليه وسلم» فإن رد عثمان على منتقديه كان تبريرا متهافتا، إذ إن امتناع عمر عن توليه أقاربه لا يُعد قطعًا للرحم لمرضاة الرب باعتبار أن قطع الأرحام لا يرضى الرب، ولكن تولية الحكام لأقاربه والإغداق عليهم هو الذى لا يرضي الرب أبدًا، أما أن يعتبر عثمان أن مجاملة ومحاباة أقاربه صلة للرحم ترضى الرب ففى ذلك مغالطة كبرى، ذلك هو اجتهادى الشخصى وأحسبه ما رآه منتقدو عثمان من الصحابة وأرجو ألا أكون قد تجاوزت فى حق ذى النورين، والله تعالى أعلى وأعلم.
ولعل صلى الله عليه وسلم بل أحسب أنه عندما دعا لعثمان بعد تجهيزه لجيش العُسرة «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» قد استشرف ببصيرته النبوية وقوع عثمان فى ذلك الخطأ، فكان ذلك الدعاء بألا يضره ذلك الخطأ أو ينتقص من أعماله الصالحة ومن ثمَّ فسوف يغفر له الله لهذا الاعتبار ولاعتبارات أخرى كثيرة تتعلق بشخصه ومكانته وتقواه وورعه، والله تعالى أعلم.
<<<
أواخر خلافة عثمان شهدت أزمة سياسية وشعبية كبرى إذ تضافرت عوامل تفجرها بفعل غضب أهل بعض الأمصار على الولاة الذين ولاهم من أقاربه، ثم بفعل المؤامرة التى دبرها عبدالله بن سبأ اليهودى الحاقد على الإسلام والمسلمين والذى اندس بين المسلمين وأجج الغضب ونفخ فى نيران الثورة على أمير المؤمنين عثمان، لتنتهى خلافته بنهاية مأساوية بعد أن تسوَّر عليه الخارجون البيت وقتلوه وهو جالس يقرأ القرآن، فى حادثة صادمة ومؤسفة ارتجت لها المدينة وزلزلت المسلمين.
حادثة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان جرت وسط الفوضى التى سبقت الحادثة فى المدينة، وثم الفوضى والارتباك بعد الحادثة وحيث تبادل كبار الصحابة اللوم والعتاب بل الاتهام أحيانًا بالمسئولية على التهاون فى حماية عثمان من القتل، حيث نجح الخارجون فى التسلل إلى عقر داره وقتله على ذلك النحو الوحشى.
<<<
القراءة السياسية التاريخية لتلك الحادثة الصادمة وما أعقبها تشير إلى أن الطعنات الغادرة التى قتلت أمير المؤمين عثمان بن عفان جاءت بمثابة طعنة قاسية فى صدر الأمة والدولة الإسلامية، إذ تبدى خطرها الكبير فى تداعياتها الأخطر بفعل الفوضى والارتباك الكبيرين فى المشهد السياسى والاجتماعى والدينى فى المدينة المنورة عاصمة الدولة ثم فى سائر الولايات والأمصار، ثم بفعل الانقسام فى صفوف المسلمين بل بين الصحابة أنفسهم.
<<<
لقد كانت حادثة مقتل عثمان وما جرى بعدها أول فتنة يتعرض لها المسلمون منذ وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وهى الفتنة التى تحولت وتصاعدت إلى الفتنة الكبرى لاحقا فى عهد الخليفة الرابع الإمام على بن أبى طالب..
وللحديث بقية..