دراسة: هل يتوافق الاقتصاد الموجَّه من الدولة مع الشريعة .. وما موقف الإسلام من تأميم المؤسسات؟
قالت دراسة فقهية أعدتها أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية , إن الاقتصاد الموجَّه يقصد به النظام الاقتصادي الذي تكون فيه الموارد -بما فيها الأرض والقوى العاملة ورأس المال وجميع الأنشطة الاقتصادية- تحت رعاية الدولة وإشرافها؛ كالاستثمار وتوزيع المواد الأولية المهمة وأسعار المواد الاستهلاكية.
وقد أثبتت التجارب الاقتصادية التي خاضتها بعض الدول أن هذا النمط الاقتصادي قد أثبت فشله وسقط ولم يحقق نجاحًا معتبرًا؛ حيث قد تسلط على الناس وقمع حريتهم وجعلهم كالتروس في آلة كبيرة تديرها الدولة، بينما الإسلام يحترم الإرادة الإنسانية ويحمي الملكية الخاصة، ويهيئ مجال الاستثمار لكل مستطيع، ويمنحه الحرية والأمان للعمل بمختلف الأنشطة الاقتصادية، شريطة التزامه بأحكام الشريعة الإسلامية في معاملاته وكسب المال وإنفاقه.
سياسة السوق الحرة
أما اقتصاد السوق الحر - ويسمى أيضًا بالاقتصاد الرأسمالي- فهو عكس الاقتصاد الموجه، ومعناه: عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية وترك السوق يدير نفسه بنفسه.
وقد فشل أيضًا هذا النظام في تحقيق مقاصده وأصابه العديد من الأزمات والنكسات؛ لأنه يقوم على مفهوم المادية والميكيافيلية، ويتخلله الاحتكار والتكتلات الاقتصادية والمعاملات الوهمية وبيع الدين بالدين، كما أنه لا يلتزم بالقيم الأخلاقية.
وعندما يخلو الاقتصاد الرأسمالي من هذه الرذائل يكون قريبًا من النموذج الإسلامي والذي يمكن التعبير عنه بأنه: السوق الحرة الخالية من الاحتكار والغش والغرر والجهالة والتدليس والتطفيف والميسر والربا وكل صور أكل أموال الناس بالباطل، وتطبيق مفهوم اقتصاد العمل والإنتاج الفعلي.
تأميم المؤسسات
أما التأميم فهو عبارة عن نقل ملكية مالك معين إلى ملكية الدولة أي تحويله إلى القطاع العام، وتتضمن الصناعات المؤممة عادة: الخطوط الجوية، ومؤسسات الغاز والكهرباء والمناجم، والخدمات البريدية، وخطوط السكك الحديدية، وشركات الهاتف وكل ما له علاقة بالصناعة أو وسائل الإنتاج على الصعيد الوطني وهي مرحلة تمر بها الدولة المستقلة عادة في إطار عملية نقل الملكية وإرساء قواعد السيادة.
فالتأميم يعتبر من أشد صور تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.
وهذه الصورة المعاصرة تعددت دوافعها وأسبابها وأدى ذلك إلى اختلاف الدول في مدى الأخذ به واللجوء إليه، وكيفية تطبيقه حسب ما تراه نافعًا للمجتمع.
والنظرة الإسلامية إلى قضية التأميم تتضح من خلال مجموعة من المفاهيم، وهي:
1- أن الملكية الفردية ملازمة للوجود الإنساني ومرتبطة بالطبيعة البشرية مهما تعددت محاولات إلغائها، وقد اعترف بها الإسلام.
2- أن الملكية الخاصة -مهما كان حجمها- قد سُمح بها في كثير من الحضارات والأمم في الإسلام وغيره، ولكن الإسلام قد وضع لها مجموعة من الضوابط؛ كتحريم الربا والاحتكار والرشوة والقمار وغيرها.
3- أنه ليس من الضروري لتدعيم الثروة القومية وزيادة الإنتاج أن تكون الملكية عامة، كما أنه لا يستلزم لتحقيق العدالة الاجتماعية القضاء على الملكية الفردية.
4- أنه يجب إحاطة الملكية الخاصة بسياج من الأحكام والقوانين تحميها من الانزلاق في هُوَّة الاستغلال والاحتكار، ويحفظها من أن تصبح أداة للظلم والتسلط والتحكم بالآخرين.
5- أنه يمكن إخراج بعض الأموال من دائرة الملكية الخاصة، وهي التي تتعلق بها حاجات مجموع الأمة، وليس للجهد البشري فيها مدخل؛ كالماء والكلأ والنار.
6- أن الإسلام لا يسعى إلى تحقيق المساواة المادية بين الناس في الدخول والثروات بأي حال إنما يقيم تشريعاته على الاعتراف باختلاف الناس في طبائعهم واستعدادهم وحاجاتهم، وتفاوتهم في القدرات الجسمية والعقلية.
7- أن التأميم إذا كان يعني إعادة الأموال التي يجب أن تكون لمجموع الأمة والتي لا يصح أن تدخل تحت التملك الفردي فلا بأس به، كما حدث في ملح مأرب عندما استرده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان قد أقطعه أبيض بن حَمَّال، أما إذا كان يعني التعدي على الملكية الخاصة دون مبرر مشروع متعلق بالصالح العام مع التعويض العادل للمالك الأصيل فهو ممنوع محرم.
والحاصل أن الإسلام ليس مع الاقتصاد الموجه، أو اقتصاد السوق الحر، أو تأميم المؤسسات، أو أي مذهب اقتصادي وضعي بعينه، وإنما الشريعة الإسلامية تقدم مجموعة من القيم والمبادئ العامة التي تحكم السوق وتعمل على رفع الظلم والنزاع، وإقامة العدل والمساواة، واحترام الملكية العامة والخاصة، والعمل على الموازنة بينهما، وتحقيق مصالح الناس وتحصيل مقاصدهم المشروعة على خير الوجوه، ولا تتعارض مع تطوير أساليب الاقتصاد أو وسائله أو الاستفادة من تجارب الأمم والحضارات الأخرى.
ومن هذه المبادئ والقيم الإسلامية:
1- حق الأفراد في تملك المال وحرية التصرف فيه بالتراضي بما لا يخالف الشريعة، ففي الحديث الشريف: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» رواه مسلم.
2- منع استغلال حاجة الناس لسلعة ما باحتكار السلعة لحين غلاء ثمنها، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاحتكار وقال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» رواه ابن ماجه والدارمي.
3- منع الربا، والذي قوامه استغلال حاجة الإنسان للحصول على المال بإلزامه دفع زيادة لا يقابلها شيء مما أخذ، فهو نوع من أنواع أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى في ذم آكلي الربا: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 161].
4- وجوب التنمية الاقتصادية وإعمار البلاد، وإصلاح المعيشة، ومنع اكتناز الأموال وتعطيلها في الخزائن دون أداء حق الله فيها؛ قال تعالى:﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [الجمعة: 10]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34]، وقال عز من قائل: ﴿قَدْجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85].
5- منع الإسراف في استخدام الموارد وإهدار الطاقات ولزوم الاعتدال في إدارتها؛ قال تعالى مادحًا للمؤمنين المعتدلين في إنفاق الأموال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، فالإسراف مذموم شرعًا؛ إذ الإسلام دين الوسطية والاعتدال؛ قال عز وجل: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 26-27]، ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 29-30].