د. محمد فراج أبوالنور يكتب: الاستثمار في التعليم.. الشرط الحاسم للتقدم (3)
تناولنا في المقالين السابقين «الأموال ـ 26فبراير، 5 مارس 2017» الأوضاع السيئة لمنظومة التعليم والبحث العلمى، مع التركيز علي التعليم قبل الجامعى، والحاجة الماسة لضخ استثمارات ضخمة في تطوير البنية الأساسية لهذه المنظومة، من جانب الدولة أساساً، وخاصة في مراحل التعليم قبل الجامعى، بإقامة أعداد كبيرة من المدارس، بما يحقق هدف إلغاء نظام الفترتين الدراسيتين في اليوم الواحد، وتقليل كثافة الفصول المكتظة بالتلاميذ بما يؤثر سلباً علي كفاءة العملية التعليمية، كما تحدثنا عن ضرورة المعامل والمكتبات وأجهزة الكمبيوتر وغيرها من التجهيزات اللازمة لتطوير التعليم.. وأوضحنا ضرورة زيادة أعداد المعلمين ومعاونيهم بدرجة كبيرة، وتحسين مرتباتهم بما يكفى توفير الحد الأدنى اللائق من ضرورات الحياة الكريمة لهم، فضلاً عن تطوير مستوى إعدادهم، وإعادة تأهيلهم بصورة مستمرة من الجوانب العلمية والتربوية.
ونناقش اليوم قضية المناهج الدراسية.. أى «مضمون» ما يدرسه الطلاب وارتباطه بتكوينهم المعرفى والوطنى والإنسانى، وبالتطور العلمى واحتياجات المجتمع وسوق العمل، وكذلك الأساليب التربوية وأثرها في تطوير شخصياتهم وملكاتهم التعليمية، وتحظى القضية الأخيرة بالاهتمام الأكبر من جانب خبراء التربية الليبراليين بوجه خاص.. حيث يركزون جل اهتمامهم علي مسألة نبذ أساليب التلقين والحفظ السائد حالياً، والتركيز علي الفهم والتفكير المستقل والإبداعى والنقدى كسبيل لتكوين مواطن حر في توجهات ديمقراطية.. بل إنهم يقدّمون دور تربية الشخصية «الفرد» بهذه الطريقة في أهميته على أى اعتبار آخر..
ولا يخطر ببالنا، بالطبع، التقليل من أهميةالعنصر الإبداعى والنقدى في تربية عقول التلاميذ في مجتمع يضع بناء الديمقراطية بين أحد أهم أهدافه.. إلاّ أننا ننحاز بقوة إلي النظرة التكاملية لعملية التعليم التي تدمج مختلف عناصره بدءا من مقوماته المادية الأساسية (المدارس والفصول وتجهيزاتها العصرية)، وأعداد المعلمين الكافية ومستوى إعدادهم الجيد.. إلي المناهج المتطورة علمياً والتى تعتمد على الفهم والاستيعاب الجيد والتفكير الخلاق أساساً، وليس علي الحفظ والتلقين وحشو أدمغة التلاميذ بمعلومات غير متصلة بحقائق العلم والعصر أو غير مفيدة لهم في تطورهم اللاحق، مع وجود أساليب لقياس مستواهم العلمي (الامتحانات) تراعى تحقيق هذه الأهداف.. وغنى عن البيان أن ما يدرسه التلاميذ في مراحل التعليم قبل الجامعى (العام) يجب أن يعدهم لدراسة جامعية متطورة تهدف لتجهيز الخريجين لتلبية احتياجات سوق العمل المتطورة باستمرار في ظل التطور العاصف للعلم والتكنولوجيا، بينما يجب أن تعدهم مناهج الدراسة في المرحلة الثانوية الفنية للعمل كفنيين أكفاء في مجال تخصصهم.
ومن ناحية أخرى فإن المناهج التعليمية يجب أن تعدَّ (المواطن) الصالح، المنتمي لوطنه، المؤمن بفكرة المواطنة، وبالمقومات الأساسية لمجتمعه، الدارس لأساسيات دينه (إسلامياً كان أم مسيحياً)، والذى يعرف ويحترم مبادئ الأخلاق الكريمة، علماً بأن الأسرة هى المدرسة الأولي للدين والأخلاق.
والواقع أننا إذا نظرنا إلي مناهجنا التعليمية من الزوايا السابق ذكرها فسنجد أننا بحاجة إلي ثورة حقيقية في مناهج التعليم.. فمناهجنا التعليمية ليست قائمة علي الحفظ والتلقين ومليئة بـ«الحشو» غير المفيد فحسب، بل إنها متخلفة إلي حد كبير بإجماع الخبراء، وخاصة في العلوم والرياضيات واللغات الأجنبية، وبالتالي فإن الامتحانات تعد مقياساً لدرجة الحفظ والتلقين لمناهج غير متطورة أصلا.. وبالتالى يواجه الطلاب الحاصلون علي أعلي الدرجات فجوة واسعة حينما يلتحقون بالجامعات، حيث يوجد نظام تعليمي أفضل نسبياً «نُشدّد علي أنه أفضل نسبياً فقط» من التعليم في المدارس، وحيث توجد مساحة أوسع «نسبياً» للفهم والتحصيل الحر.. فنجد علي نطاق واسع ظاهرة انخفاض المستوى الدراسى لأعداد كبيرة من الطلاب الذين التحقوا بكليات القمة «بل والرسوب أحياناً».. كما نجد ظاهرة انتشار المذكرات والملخصات بدلا من الكتب الدراسية، أو المراجع العلمية.. وتنتشر هذه الظاهرة بصورة وبائية في الكليات النظرية خصوصاً.
ولنا أن نتصور طالبا لم يدخل معملا للكيمياء أو الفيزياء في مدرسته «الغالبية العظمى» وقد ألقت به درجاته في كلية العلوم مثلاً أو الطب أو الصيدلة أو طب الأسنان أو الطب البيطرى.. وكيف سيكون مستواه!!
ولعل من أخطر الظواهر بالنسبة للتعليم الثانوى العام أن ثلثي الطلاب يلتحقون بالقسم الأدبى، بينما يلتحق الثلث فقط بالقسمين العلميين (رياضة وعلوم)!! ويحدث ذلك في القرن الحادى والعشرين، بينما العالم كله يتجه نحو تعميق توسيع نطاق الدراسات العلمية والتكنولوجية، وقد يشير البعض إلي أن الكليات العملية الموجودة في الجامعات المصرية لا تستوعب حتى هذا «الثلث» من الحاصلين علي الثانوية العامة، فيذهب جزء منه إلي الكليات النظرية التي تتوسع الدولة في إنشائها، لأنها أقل تكلفة.. كما يشير البعض الآخر إلي نسبة البطالة الموجودة بين خريجى كليات عملية عديدة من بينها كليات الهندسة.. ويتساءل هؤلاء عن ضرورة التوسع في التعليم الثانوى العام أصلاً، فضلا عن التوسع في عدد طلاب القسمين العلميين، وفي إقامة الكليات العملية في ظل نسبة البطالة المشار إليها.
وقد يكون هذا صحيحاً إلي حد ما.. لكن المشكلة أنه يعكس واقعاً متخلفاً لابد لنا من تجاوزه إذا كنا نريد اللحاق بالعصر، فمن ناحية هناك ضعف الاستثمار في الصناعة والزراعة وغيرهما من القطاعات الإنتاجية التي تحتاج إلي خريجى الكليات العملية.. ومن ناحية أخرى فهناك ضعف شديد في الاهتمام بالتطوير التكنولوجي في مشروعاتنا الإنتاجية (والخدمية).. ومن ثم ضعف في الاهتمام بتطوير نوعية العمالة.. ومن ناحية ثالثة تتسم بأهمية قصوي بالنسبة لموضوع مقالنا تتصل بعدم إعطاء الاهتمام المناسب لأن تكون المناهج الدراسية هادفة لإعداد خريجين يلبون احتياجات سوق العمل، حيث نجد انخفاضاً كاملاً بين الجامعة والصناعة والزراعة والعملية الإنتاجية عموماً.. «وهكذا الحال بالنسبة للبحث العلمى» ونجد هذا الانفصام أيضاً في العلاقة بين تلاميذ وطلاب التعليم الفني الثانوى وفوق المتوسط.. مما يؤدى لتعطيل طاقات فنية وعلمية ضخمة في نهاية الأمر.
وبالإضافة إلي هذا الجانب العملي المباشر بالنسبة للمناهج الدراسية، فإن «فوضي التعليم» تمثل جانباً آخر شديد الأهمية في إضعاف مستوى الخريجين وعدم تناسب قدراتهم العلمية والعملية بين قطاع وآخر، فضلاً عن التأثيرات السلبية الكبيرة فيما يتصل بقضية المواطنة والانتماء الوطنى والحضارى، والتكوين الدينى والأخلاقى للخريجين. فنظامنا التعليمى يضم إلي جانب التعليم العام «الحكومى والخاص» مدارس للغات والمدارس الأجنبية والدولية التى تهمل دراسة اللغة العربية والدين والتاريخ والتربية القومية، ويحصل منها الطلاب علي الدبلومة الأمريكية أو الانجليزية أو الفرنسية، التي تؤهلهم للالتحاق بالجامعات المصرية أو الأجنبية الموجودة في مصر (الأمريكية والألمانية البريطانية والفرنسية... الخ) بينما نجد تكوينهم الفكري والحضارى والثقافي والأخلاقي مختلفاً عن زملائهم الذين درسوا المناهج المصرية، وإن يكن مستوى دراستهم للعلوم والرياضيات واللغات أفضل.. ويؤدي ذلك إلي خلق حالة من الاغتراب بينهم وبين المجتمع.
وهناك ظاهرة أخرى جديرة بالدراسة، هى التوسع المستمر للتعليم الأزهرى الذى يمثل نحو 10٪ من عدد التلاميذ في المراحل قبل الجامعية «مليون و856 ألف تلميذ.. الكتاب الإحصائى السنوى 2016 ــ ص304» مقابل 16.313 مليون في التعليم العام الحكومى والخاص (الكتاب الإحصائى السنوى 2016 ـ ص296 ـ 297) ومليون و645 ألفاً فى التعليم الثانوى الفني، ومعروف أن التعليم الأزهرى يتضمن تدريس المواد الدينية إلي جانب المواد الأخرى التي يتم تدريسها في التعليم العام «قرآن وتفسير، وحديث، وفقه..الخ» مما يؤثر بالضرورة علي مستوى تدريس الرياضيات والعلوم واللغات الأجنبية.. وهذا هو السبب الرئيسي في أن الجامعات المدنية لا تقبل طلاب الثانوية الأزهرية.. كما أن مستوى خريجي الكليات العملية بالذات في جامعة الأزهر يكون أقل من مثيله بين خريجى الجامعات الأخرى، وخاصة الجامعات الكبري والإقليمية الأقدم، علماً بأن طلاب الكليات الأزهرية أيضاً لديهم مقررات دينية، الأمر الذى يؤثر علي مستوى دراستهم العلمية البحتة.
وبحكم تغلغل التيارات المتشددة بين أعضاء هيئات التدريس في المعاهد قبل الجامعية والجامعة الأزهرية، من إخوان وسلفيين وغيرهم، فإن الطلاب بدورهم تنتشر بينهم الأفكار المتشددة «بل والعنيفة» الأمر الذى لوحظ بوضوح في تحركاتهم في الفترة التالية لثورة 30 يونيو.
وإذا كان التعليم مرتبطاً بالضرورة باحتياجات سوق العمل.. وإذا كان التخصص الذى يحتاجه المجتمع من الأزهر ولا يملكه سواه بالطبع هو العلوم الدينية بمختلف فروعها.. وهو ما كان معمولاً به حتى إنشاء جامعة الأزهر بكلياتها المدنية «طب ـ هندسة ـ تجارة.. الخ» عام 1960.. فهل من الخطأ أن نفكر في إعادة الأزهر إلي ما كان عليه قبل ذلك التاريخ؟! بمعنى أن تكون الدراسة في المراحل قبل الجامعية مقصورة علي ما يكفي من الطلاب لإمداد كليات الدراسات الدينية «الشريعة ـ وأصول الدين ـ الدعوة» بطلابها.. بالقدر الذى يحتاجه المجتمع من الدعاة والمتخصصين في الدراسات الدينية؟ نعتقد أن مثل هذا الوضع لا يضير الأزهر في شيء.. بينما يكسب المجتمع تعليماً أكثر تخصصا للأزهر.. وأفضل مستوى لذلك العد الضخم من طلاب المعاهد الأزهرية ـ نحو مليونى طالب «2 مليون».. ونخطو خطوة هامة نحو توحيد مناهج التعليم العام.. علماً بأن من الضرورى أيضاً فرض مناهج التعليم العام علي جميع المدارس الأجنبية والدولية.. الخ الموجودة في البلاد، بما في ذلك مناهج اللغة العربية والدين والتاريخ والتربية القومية.. بحيث يكون خريجو المدارس الموجودة في مصر أياً ما كان تنوعها أقرب ما يكونون إلي سبيكة وطنية وثقافية وحضارية واحدة.. مصرية الهوية، عصرية الطابع.