الأموال
الأموال

كُتاب الأموال

د. محمد فراج يكتب : القمح الروسي.. بالجنيه المصري ؟

د. محمد فراج أبوالنور
-

خبر مهم للغاية بالنسبة لاقتصادنا: البنك المركزى الروسي يدرج الجنيه ‏المصرى ضمن العملات القابلة للتحويل لديه.. وسعر صرف الروبل ‏‏(٤٣ قرشا).. وخبر آخر لا يقل أهمية: البنك المركزى الروسى يدرس ‏حاليا قرارًا بقبول الجنيه ثمنًا لوارداتنا من القمح «ستة ملايين طن خلال ‏الستة شهور الأخيرة من عام ٢٠٢٢، بالإضافة إلى أربعة ملايين طن ‏من المقرر استيرادها حتى نهاية موسم القمح فى شهر أغسطس القادم، ‏وصل منها بالفعل مائة وتسعون ألف طن خلال الأسبوع الأول من ‏شهر يناير الجارى‎ (RT - ‎سبوتنيك - صدى البلد - اليوم السابع، ‏‏١٩ يناير ٢٠٢٣) استنادًا إلى بيان المركزى الروسى «١٨ يناير‎».‎
ووفقًا لأسعار القمح فى الأسواق العالمية فإن قيمة الصفقات المذكورة ‏وحدها تبلغ أكثر من ثلاثة مليارات دولار، الأمر الذى يعنى تخفيفا ‏كبيرا للضغوط على أرصدتنا الدولارية هذه الأيام، فضلا عن أهميته ‏المستقبلية بالنسبة لوارداتنا المختلفة من روسيا‎.‎
القرار يجىء في سياق سياسة روسيا لتقليص تعاملاتها بالدولار ‏الأمريكى واعتماد التعامل بالروبل مقابل العملات الوطنية مع عدد من ‏‏«الدول الصديقة»، وتشمل القائمة الأخيرة التي أعلن عنها المركزى ‏الروسى، الدرهم الإماراتى والريال القطرى فضلا عن اليوان الصينى ‏والروبيه الهندية والليرة التركية (التى أعلنت نائبة رئيس الوزراء الروسى ‏فيكتوريا أبراشينكو قبولها ثمنًا للصفقات الأخيرة من القمح التى صدرتها ‏روسيا إلى تركيا)، وعدد من العملات الأخرى‎ (RT‎‏ - ١٩‏‎ ‎يناير‎).‎
ومعروف أن روسيا كانت قد بدأت فى انتهاج سياسة تهدف إلى الحد ‏من ارتباط اقتصادها بالدولار الأمريكى بعد العقوبات الاقتصادية التى ‏فرضتها واشنطن على موسكو عقب اندلاع الأزمة الأوكرانية، وضم ‏القرم إلى روسيا (عام ٢٠١٤) وعملت على تنويع مكونات احتياطياتها ‏الدولية، لتنخفض استثماراتها فى سندات الخزانة الأمريكية من (١٢٠ ‏مليار دولار) قبل الأزمة إلى (٩٦ مليار دولار) عام ٢٠١٨ وتواصل ‏هذا الاتجاه بصورة تدريجية، ثم بصورة حادة بعد نشوب الحرب الجارية ‏فى أوكرانيا، وما صاحبها من عقوبات أمريكية وغربية ضد روسيا، ‏لتنخفض استثمارات روسيا فى سندات الخزانة الأمريكية إلى ٢.٢ مليار ‏دولار فقط فى نوفمبر ٢٠٢٢ (روسيا اليوم - ١٩ يناير‎).‎
ومعروف أيضًا أنه مع طرد أغلب البنوك الروسية من نظام «سويفت» ‏لتسوية المدفوعات الدولية، لجأت موسكو إلى اشتراط الدفع بالروبل ‏مقابل توريدات البترول والغاز لدول الاتحاد الأوروبى، وهو ما ساعد ‏على تعزيز قوة الروبل فى مواجهة الدولار واليورو، ليرتفع سعر صرف ‏الروبل من (١٤٠ إلى ٦٠ مقابل الدولار) وليستقر مؤخرا عند (٧٠ ‏روبلا مقابل الدولار‎).‎


التمرد على هيمنة الدولار


والحقيقة أن إدراك كل من روسيا والصين لحقيقة أن هيمنة الدولار على ‏التجارة الدولية هو أحد أهم أسباب القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، ‏قد دفع البلدين للسعى إلى إضعاف هذه الهيمنة بسبل مختلفة، منها ‏تقليص نصيب الدولار في سلة احتياطياتهما الدولية واللجوء إلى تسوية ‏المدفوعات بالعملات الوطنية «اليوان والروبل» فى تعاملاتهما التجارية ‏الثنائية، وتعاملاتها مع الدول الأخرى، وهو الاتجاه الذى بدأ يشهد ‏صعودا تدريجيا متزايد الاتساع خلال الأعوام الأخيرة وبصورة أخص ‏خلال العام الماضى (٢٠٢٢) وذلك بالإضافة إلى تأسيس البنك ‏الآسيوى للاستثمار والتنمية برأسمال قدره ١٠٠ مليار دولار فى إطار ‏تجمع «البريكس» منذ سنوات‎.‎
وقد لقى هذا التوجه الصينى- الروسي استجابة من جانب عدد متزايد ‏من الدول النامية الهادفة إلى التخلص من هيمنة الدولار، والشروط ‏القاسية للتبادل غير المتكافئ مع الغرب الصناعى «الاستعمارى‎».‎
وكانت مصر من أوائل الدول التي عقدت اتفاقيات للتبادل التجارى ‏بالعملة الوطنية مع كل من روسيا والصين منذ سنوات، وهو اتجاه امتد ‏ليشمل دولا مثل تركيا والهند وإيران والنمور الآسيوية الصاعدة ‏كاندونيسيا وفيتنام وتايلاند، وليصل أخيرًا إلى الإمارات وقطر «مع ‏روسيا» وإلى إجراء محادثات بين السعودية والصين حول التبادل ‏التجارى باليوان والريال، ولابد هنا أن نلاحظ التنوع الكبير فى ‏التوجهات السياسية والاقتصادية للدول المذكورة وأن ما يجمع بينها ليس ‏تحالفات سياسية أو عسكرية أو العداء للولايات المتحدة والغرب مثلا، ‏وإنما البحث عن المصالح المشتركة، والرغبة في إقامة علاقات تجارية ‏‏«واقتصادية عموما» تقوم على التكافؤ وعلى شروط عادلة تحقق ‏مصالح الأطراف، وليس مصلحة طرف واحد مهيمن‎.‎
الواقع.. والأمنيات.. والتغيير
وإذا كانت هذه التوجهات تعكس تطورات هامة فى الاقتصاد العالمى ‏لغير صالح الهيمنة الأمريكية والغربية، وتشير إلى تراجع فى الوزن ‏النسبى للاقتصاد الأمريكى والغربى لصالح الصين والاقتصادات ‏الصاعدة، فإن «التفكير بالتمنى» الذى يأخذ بعض الكتاب والمحللين ‏بعيدًا إلى حد القول بنهاية العصر الأمريكى وانهيار مكانة الدولار.. ‏إلخ إلخ يظل تفكيرًا بعيدًا عن الصواب والموضوعية، فلايزال الدولار ‏هو العملة الأقوى بكثير من أى عملة أخرى فى التجارة العالمية، ‏ولاتزال الولايات المتحدة هى القوة العظمى عسكريا واقتصاديا فى ‏العالم‎.‎لكن الهيمنة الأمريكية والغربية قد تراجعت وتقلص وزنها النسبى بحيث ‏أصبح تحديها ممكنا، وبحيث يمكن القول إن العالم ينتقل بثبات إلى ‏وضع تعدد القطبية بمعايير القوة الشاملة، وتبرز ظواهر كان من ‏الصعب تصورها قبل عقد من الزمان، مثل توجه عدد متزايد من الدول ‏للتبادل بالعملات الوطنية بعيدًا عن هيمنة الدولار، ومثل البحث فى ‏تبادل البترول وغيره من موارد الطاقة بالعملات المحلية بين حلفاء ‏لأمريكا كالسعودية ودول الخليج، ودول يعتبرها الغرب من أعدى أعدائه ‏كالصين وروسيا «بما يتضمنه ذلك من تحد للبترو دولار»، وتتسع ‏الأسواق والخيارات الاقتصادية والاستراتيجية أمام الدول المتوسطة ‏والصغيرة، وتتراجع قدرة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على فرض ‏الحصار والعقوبات المدمرة علي أى دولة تتحدى الهيمنة الأمريكية ‏والغربية، وفرض أقسى العقوبات على كل من يفكر فى عدم الالتزام ‏بهذه العقوبات، وما يحدث مع روسيا والصين وغيرهما مثال بارز علي ‏ما نقول، وبديهى أن هذه الظواهر مرشحة للتوسع باستمرار، وهى تقدم ‏فرصا أوسع لدول العالم الثالث‎.‎
مصر وروسيا.. فوائد متبادلة
فى هذا السياق العريض يجب النظر إلى العلاقات الاقتصادية ‏والتجارية المصرية - الروسية، وإلى قرار البنك المركزى الروسى ‏بإدماج الجنيه فى قائمة العملات القابلة للتداول فى روسيا، وبصورة ‏أخص إلى المحادثات الجارية بشأن دفع ثمن القمح الروسى بالجنيه ‏المصري، وما يمثل ذلك من تخفيف ملموس للضغوط على موارد ‏مصر الدولارية (٣ مليارات دولار)، وهى خطوة من شأنها أيضًا تشجيع ‏مصر على تركيز مشترياتها من القمح الروسى بدلا من شراء القمح ‏بالدولار من دول أخرى، وهو ما نلاحظه بالفعل من الأرقام السابق ‏ذكرها، خاصة مع خفض موسكو للرسوم على تصدير القمح (صدى ‏البلد ـ ١٣ يناير)، علمًا بأن مصر يمكنها دفع ثمن القمح والحبوب ‏الروسية بالروبل أيضًا من حصيلة الاتفاق السابق على التبادل ‏بالعملات الوطنية، ومن مدفوعات السياحة الروسية فى مصر، وهو ما ‏من شأنه تشجيع السياحة الروسية في مصر، وخاصة فى فصل الشتاء، ‏حيث تواجه هذه السياحة الآن مشكلات معقدة فى البلدان الأوروبية ‏والدول الخاضعة للتحالف الغربى، أى أن السياحة المصرية تستفيد ‏أيضًا من الاتفاق الجارى التباحث حوله مع موسكو، وفى المقابل فإن ‏روسيا تستفيد بتعزيز مكانتها فى أكبر سوق لقمحها، فى الوقت الذى ‏يقيِّم فيه التحالف الغربى العقبات أمام إمكانية تصدير روسيا لإنتاجها ‏الضخم من القمح، ويحاول بشتى السبل إعاقة وصوله إلى الأسواق ‏الدولية، ولسنا بحاجة إلى شرح حقيقة أن المصالح المتبادلة هى لغة ‏العلاقات الدولية‎.‎