الأموال
الأموال

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : انطلاقة جديدة للعلاقات العربية - الصينية

د.محمد فراج أبوالنور
-

تشير نتائج زيارة الرئيس الصينى شى جين بينج إلى السعودية (٧-٩ ديسمبر) والقمم الثلاث ‏التى شهدتها الزيارة إلى نجاح باهر يُمثل منعطفًا صاعدً جديدا فى مسار العلاقات العربية - ‏الصينية التى تحقق، أصلا، إنجازات كبيرة خلال العقدين الأخيرين بصفة خاصة، وتتسم ‏بديناميكية متسارعة، تجعل منها ظاهرة لافتة للنظر في العلاقات الدولية، التي جاءت هذه ‏الزيارة فى لحظة فارقة من تطورها‎.‎
وإذا كان الشائع فى تحليلات الخبراء هو الحديث عن التطور العاصف للعلاقات التجارية ‏والاقتصادية بين الطرفين، فإن البيان الختامى للقمة العربية - الصينية يتحدث بوضوح فى ‏أول بنوده عن الطابع الشامل لتطور العلاقات العربية - الصينية في مختلف الجوانب ‏السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية إلى مستوى «الشراكة الاستراتيجية».. ويؤكد البيان ‏على «الحرص المشترك على تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية وجمهورية ‏الصين الشعبية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة لمستقبل أفضل، والتأكيد على ‏مركزية القضية الفلسطينية فى الشرق الأوسط، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضى ‏الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض وإدانة ‏الاستيطان الإسرائيلى وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية فى القدس، ودعم وكالة ‏‏«الأونروا» وتأكيد ضرورة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وحماية حقوق ‏الشعب الفلسطينى «البند ٤‏‎».‎
كما ينص البيان على ضرورة الحفاظ على وحدة وسيادة وسلامة أراضى «سوريا وليبيا ‏واليمن» والتأكيد على «رفض التدخلات الأجنبية فى هذه الدول» والعمل المشترك في ‏مواجهة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة «البند العاشر» و«التأكيد على أهمية ‏إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل» فى إشارة واضحة إلى البرنامج ‏النووى الإسرائيلى، وأي تطلعات لامتلاك السلاح النووى من جانب إيران أو غيرها‎.‎
‎ (RT‎، سى إن إن عربية، الشرق الأوسط، وكالات ومواقع - ١٠ ديسمبر)‬ ‫وهو نفس مصادرنا فى الإشارة إلى نقاط البيان الأخري.‬‏
وقد شمل «إعلان الرياض» أربعة وعشرين بندًا تتناول مختلف القضايا الدولية والإقليمية ‏الهامة، بما فيها التأكيد على مبدأ «صين واحدة» وأن تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضى ‏الصينية، ودعم الموقف الصينى تجاه هونج كونج على أساس مبدأ «دولة واحدة ونظامان‎».‬‎
كما أكد «إعلان الرياض» على ضرورة احترام ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولى ‏وحق الدول والشعوب في اختيار طرقها الخاصة فى التنمية ورفض التدخلا الأجنبية فى ‏شئونها، والمساواة فى السيادة.. وغير ذلك مما لا يمكن أن تجده فى بيانات مشتركة مع الدول ‏الغربية‎.‬‎
وفيما يتصل بالعلاقات العربية - الصينية أكد البيان على أهمية التنمية المؤسسية الشاملة لهذه ‏العلاقات، بما فيها العلاقات الثقافية وأهمية دراسة لغات الأطراف، والعلاقات بين ‏المؤسسات الشعبية، مع التأكيد علي دور «منتدى التعاون والتنمية» باعتباره إطارا شاملا ‏لتنمية العلاقات من كافة جوانبها، وإصدار التوجيهات للوزارات والمؤسسات التنفيذية للعمل ‏فى هذا السبيل كل فى مجال نشاطه‎.‬‎
‎‬‎انطلاقة جديدة‬‏
والحقيقة أن نتائج الزيارة والقمم الثلاث التى شهدتها يمكن اعتبارها «انطلاقة جديدة ‏للعلاقات العربية- الصينية» وقد أشرنا فى مقالنا السابق حول الزيارة (الأموال - ١١/ ١٢) ‏إلى أهمية توقيت زيارة الرئيس الصينى من زاوية أنها تجىء في لحظة تاريخية تشهد أفول ‏الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم وميلاد عالم متعدد الأقطاب، وما يتيحه ذلك من كسر ‏قيود الهيمنة، وتنويع الخيارات الاستراتيجية أمام الدول الصغيرة والمتوسطة بما يحقق ‏مصالحها على أفضل وجه‎.‬‎
كما أشرنا إلى الأفضليات التى يتيحها تعزيز العلاقات مع الصين من الزوايا الاستراتيجية ‏والسياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية باعتبار أنها القطب العالمى الثانى، الذى ‏يزحف بثبات نحو المكانة الأولي، وخاصة فى ‬الجانب الاقتصادى. كما ذكرنا بعض ‏المؤشرات الأساسية للتطور الكبير للعلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والصين (الأموال ‏‏- ١١ ديسمبر‎).
وقد تم توقيع عشرات الاتفاقات على هامش القمة، وخاصة بين بكين والرياض بما يُعطى ‏دفعة كبيرة لهذه العلاقات فى مختلف المجالات التجارية والاستثمارية والتكنولوجية‎.‎
وأشار الرئيس الصينى إلى أن حجم التبادل التجارى بين بلاده والبلدان العربية تجاوز ‏الثلاثمائة مليار دولار (٣٠٠ مليار دولار) والأدق أنها تجاوزت الثلاثمائة وثلاثين مليار ‏دولار (حسب أرقام اتحاد المصارف العربية، واتحاد البورصات العربية) حتى نهاية عام ‏‏٢٠٢١.. والمتوقع أن تكون أرقام العام الجارى أكبر بشكل ملحوظ، خاصة على ضوء ‏التنامى الكبير لصادرات البترول السعودى والخليجى إلى الصين‎.‎
استثمارات ضخمة
كما بلغت الاستثمارات الصينية فى البلدان العربية فى الفترة من ٢٠٠٥ - نهاية ٢٠٢١ أكثر ‏من مائتين وثلاثة عشر ملياراً (٢١٣ مليار دولار) منها (ثلاثة وأربعون ملياراً وستمائة ‏مليون دولار) فى السعودية وأكثر من ستة وثلاثين مليار دولار فى الإمارات، وثلاثين مليار ‏دولار فى العراق وحوالى ستة وعشرين مليار دولار فى مصر، وخمسة وعشرين مليارا ‏وسبعة أعشار المليار في الجزائر، وقرابة الاثنين والخمسين مليار دولار فى بقية البلدان ‏العربية (تقرير اتحاد المصارف العربية، وانظر أيضًا تقرير تعقب الاستثمار الصينى في ‏العالم الصادر عن معهد أمريكان انتر برايز الأمريكى‎).‎
ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أن الاستثمارات الصينية فى الدول العربية ليست الأكبر ‏فحسب- قياسا بالدول الكبرى الأخرى- بل إنها أيضًا استثمارات مباشرة فى أهم فروع ‏الاقتصاد، ولا علاقة لها بلعبة «الأموال الساخنة» الغربية التى تحسب زورًا كاستثمارات، ‏بينما هى أدوات تدمير للاقتصادات الوطنية، كما أن الاستثمارات و(القروض) الصينية غير ‏مشروطة، بخلاف الاستثمارات و(القروض) الغربية المصحوبة دائمًا بشروط تخص ‏السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية للدول النامية، وتنتهك استقلالها الاقتصادى فى كثير ‏من الأحيان، بل وتمتد أيضا إلى سياستها الإقليمية والدولية‎.‎
وقد أشرنا فى المقال السابق حول زيارة شى جين بينج إلى الفارق بين إمدادات السلاح ‏والتكنولوجيا الصينية ونظيرتها الغربية (الأموال - ١١/ ١٢) بما يغنينا عن العودة هنا إلى ‏هذه المقارنة‎.‎
تنوع وأمن الاستثمارات العربية
كما أشرنا إلى توجه بعض الاستثمارات العربية إلى الصين، وإلى جاذبية الصين كوجهة ‏للاستثمارات، فضلا عن كونها وجهة آمنة، لأن الصين ليس لديها تلك الممارسات المعروفة ‏لدى الدول الغربية الكبرى ــ وفى مقدمتها الولايات المتحدة ـ من مصادرة وتجميد ‏لاستثمارات الدول الأجنبية حينما تختلف معها سياسيًا (كما حدث مع روسيا مؤخرًا.. ‏والأمثلة كثيرة عموما‎).‎
والحقيقة أن المخاطر كثيرة على الاستثمارات العربية فى الغرب، ليس من ناحية التقلبات ‏السياسية والنظرة الاستعلائية فحسب، والتى تسمح لنفسها بوضع القيود أو فرض العقوبات ‏والتجميد والمصادرة.. إلخ، بل وأيضًا من ناحية التقلبات الاقتصادية والتقلبات الحادة فى ‏أسعار صرف العملات، الأمر الذى يعود بخسائر ضخمة على الاستثمارات والودائع ‏الأجنبية، وهو ما يوجب على الدول العربية وخاصة الدول البترولية التفكير بمنتهى الجدية ‏فى ضرورة ـ إن لم يكن حتمية ـ تنويع وجهات استثماراتها وودائعها من الفوائض البترولية، ‏التى تبلغ التريليونات فى الدول الغربية، وتوجيه أجزاء متزايدة من هذه الفوائض إلى بلدان ‏مختلفة، وخاصة تلك البلدان ذات الجاذبية الاقتصادية الكبيرة كالصين (التى أصبحت منذ ‏عام ٢٠٢١ أكبر وجهة جاذبة للاستثمار المباشر متفوقة على الولايات المتحدة) والهند ‏والأسواق الآسيوية الصاعدة، ذات الاقتصادات سريعة النمو، والسياسات الأكثر أمنا ‏واحترما تجاه الاستثمارات الأجنبية، وذلك حماية لثروات شعوبها‎.‎
وغنى عن البيان أن الدول العربية الشقيقة هى الأولى بنصيب أكبر من هذه الفوائض، بما ‏يحققه ذلك من دفع لعملية التنمية فى الوطن العربى، وما يترتب على هذا من تحقيق لتطور ‏واستقرار فى البلدان العربية، وهو هدف جدير بأن يوضع فى مقدمة اعتبارات الصناديق ‏السيادية العربية، بالرغم من أى سلبيات يمكن أن تكون موجودة فى البلدان الشقيقة، ومن ‏مبالغات «الخبراء» الاقتصاديين الغربيين والمحليين فى الحديث عن «مخاطر الاستثمار» ‏فى وطننا العربى! وهى مبالغات ممجوجة لا تخدم إلا مصالح البلدان الغربية الكبرى‎.‎
وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوع مقالنا، وقد أشرنا إليه للتذكرة فحسب وبالعودة إلى ‏موضوع الاستثمار العربى فى الصين نود أن نؤكد على جاذبية وأ٬ن الاستثمار فى هذا البلد، ‏بما يجعله جديرا بأن تتوجه إليه أجزاء معتبرة من الاستثمارات والفوائض البترولية العربية، ‏وهو ما من شأنه تحقيق ربحية أكبر، فضلا عن الأمن، وعن المزيد من تعزيز العلاقات ‏العربية - الصينية على أساس المصالح المتبادلة، بما يحقق ذلك من مكاسب هامة للدول ‏العربية سياسيا وعسكريا واقتصاديا بالطبع‎.‎