الأموال
الأموال

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : زيارة الرئيس الصينى للسعودية.. ‏والمتغيرات الكبرى في النظام العالمى

د.محمد فراج ابو النور
-


بقلم: د. محمد فراج أبوالنور
زيارة الرئيس الصينى «شى چين بينج» ‏إلى السعودية (٧ - ٩ ديسمبر) واجتماعات ‏القمة التى شهدتها الزيارة «قمة سعودية - ‏صينية، وخليجية - صينية، وعربية - ‏صينية» حدث دولى بالغ الأهمية، والقمتان ‏العربية والخليجية مع الجانب الصينى ‏تزيدان كثيرًا من أهمية الزيارة. ولم يسبق ‏عقد مثل هذه القمم من قبل مع أى رئيس ‏دولة كبرى أو عظمى غير الرئيس ‏الأمريكى. (نكتب هذا المقال بعد ظهر ‏الخميس - لضرورات النشرة ٨/١٢ أثناء ‏انعقاد القمة السعودية - الصينية المطولة ‏ذات الأجندة الحافلة، وقد بدأ توافد القادة ‏الخليجيين والعرب علي الرياض استعدادًا ‏لقمتى الجمعة ٩/ ١٢‏‎).‎
وتجىء الزيارة فى لحظة فارقة من تطور ‏العلاقات الدولية.. لحظة تاريخية تشهد ‏نهاية عصر الأحادية القطبية والهيمنة ‏الأمريكية على العالم، والانتقال إلى مرحلة ‏تعدد الأقطاب، وبروز الصين باعتبارها ‏القطب العالمى الثانى المنافس للولايات ‏المتحدة، واحتدام الصراع الغربى مع ‏روسيا (القطب العالمى الثالث) وهو صراع ‏ذو أبعاد استراتيجية وعسكرية وسياسية ‏واقتصادية أوسع بكثير من الحرب ‏المشتعلة على الساحة الأوكرانية‎.‎
كما تجىء الزيارة فى وقت بلغت فيه ‏العلاقات العربية ــ وخصوصًا الخليجية ــ ‏مع الصين درجة كبيرة من التطور فى ‏مختلف المجالات، تعكس إدراك الدول ‏العربية للتحولات الكبرى الجارية في ‏العالم، والإمكانات المتزايدة لكسر قيود ‏الهيمنة الأمريكية والغربية، كما تعكس ‏تعاظم القوة الصينية الاقتصادية والعسكرية ‏والعلمية، بما يتيح فرصًا واسعة لاعتماد ‏الدول النامية، بما فيها الدول العربية، على ‏بكين في مجالات عديدة، وتوسيع الخيارات ‏الاستراتيجية لتلك الدول فى مختلف ‏المجالات الاقتصادية والعسكرية ‏والسياسية، وتحريرها من الاعتماد شبه ‏المطلق على الولايات المتحدة والدول ‏الغربية الكبرى‎.‎
ويكفي أن نشير إلى أن الصين أصبحت ‏الشريك التجارى الأول لأهم الاقتصادات ‏العربية «مصر والسعودية والإمارات»، ‏كما توسعت الاستثمارات الصينية فيها ‏بدرجة كبيرة، وأصبح السوق الصينى ‏مجالاً مهماً ــ وآمنا ــ لاستثمار الفوائض ‏البترولية الخليجية، فضلا عن التعاون ‏العسكرى المتزايد بسرعة كبيرة، ‏والمتحرر من الضغوط والشروط ‏الأمريكية والأوروبية، علمًا بأن الصين لا ‏تفرض شروطا سياسية للتعاون الاقتصادى ‏أو العسكرى، ولا تتدخل فى الشئون ‏الداخلية التى تتعاون معها‎.‎
علاقات متنامية بثبات
ويكفي أن نشير إلى أن السعودية هى أكبر ‏شريك تجارى للصين في منطقة الشرق ‏الأوسط، إذ تزايد التبادل التجارى بين ‏البلدين من (ثلاثة مليارات دولار) عام ‏‏٢٠٠٥ إلى أكثر من (سبعة وثمانين مليار ‏دولار) عام ٢٠٢١ تمثل الصادرات ‏الصينية منها (ثلاثين مليار دولار)، بينما ‏تحتل الصادرات السعودية للصين (سبعة ‏وخمسين مليار دولار) وهو ما يجد تفسيره ‏فى أن السعودية أصبحت المصدر الأول ‏لإمداد الصين بالبترول (حوالى ١٨٪ من ‏الواردات النفطية) حتى مع تزايد واردات ‏بكين من البترول الروسى الذى تحصل ‏عليه بخصم كبير (اندبندنت عربية، ٧ ‏ديسمبر ٢٠٢٢‏‎).‎
كما أصبحت الصين سوقا ضخمة ‏للاستثمارات السعودية التى تزايدت ‏بمعدلات سريعة، وتتعاون شركة ‏‏«أرامكو» السعودية العملاقة مع عشرات ‏المصافى النفطية الصينية لإمدادها ‏بالبترول يوميًا، كما اتخذت «أرامكو» ‏قرارا هذا العام ببناء مصنع ومجمع ‏للبتروكيماويات باستثمارات تبلغ (عشرة ‏مليارات دولار)، ونكرّر أن هذه ‏الاستثمارات آمنة، ولا يهدّدها ما تتعرض ‏له رؤوس الأموال من مخاطر التجميد ‏ومختلف المعوقات فى أسواق الدول ‏الغربية الكبرى، وفى مقدمتها أمريكا، فى ‏حالة الاختلافات السياسية الحادة‎.‎
ومن ناحية أخرى فإن الصين لديها ‏استثمارات واسعة فى السعودية ودول ‏الخليج الأخرى (وكل هذه الدول شركاء ‏تجاريون ونفطيون مهمون لبكين) سواء ‏فى مجال تطوير البنية التحتية، ‏والمشروعات المرتبطة بمبادرة «الطريق ‏والحزام» الصينية العملاقة.. وقد حظيت ‏منطقة الخليج بحوالى «ثلث» الاستثمارات ‏الصينية فى هذه المبادرة ذهب نصيب ‏الأسد منها للسعودية بما يبلغ «خمسة ‏مليارات ونصف المليار دولار» ضمن ‏مشروعات مبادرة «الحزام والطريق» ‏وحدها «الشرق الأوسط ـ ٢٦ يوليو ‏‏٢٠٢٢» وذلك بالرغم من المشكلات التى ‏تسببها «كورونا» للاقتصاد الصينى‎.‎
كما تعد دولة الإمارات العربية أحد أكبر ‏الشركاء التجاريين والاستثماريين العرب ‏للصين، التى تعدُّ الشريك الأول للإمارات ‏في التجارة غير النفطية، التي بلغت عام ‏‏٢٠٢١ أكثر من «مائتين وعشرين مليار ‏درهم - أى أكثر من خمسين مليار دولار) ‏بزيادة تبلغ (ثمانية وعشرين ونصف ‏بالمائة) عن عام ٢٠٢٠، الأمر الذى يمكن ‏اعتباره نموًا عاصفًا (الخليج، ٢٦ ابريل ‏‏٢٠٢٢)، كما تستقطب الإمارات ‏استثمارات صينية في مجال البنية التحتية ‏والاتصالات وغيرها، وهى أحد المشاركين ‏المهمين في مشروع «الحزام والطريق»، ‏كما توجه استثمارات كبيرة إلى الصين، ‏وقد كانت من أوائل الدول التى شاركت في ‏تأسيس البنك الآسيوى للاستثمار في البنية ‏التحتية ومقره بكين «برأسمال قدره مائة ‏مليار دولار»، كما تشارك في أكثر من ‏‏«ستمائة وخمسين مشروعًا» فى الصين ‏تتركز في مجالات الطاقة والمصارف ‏والشحن البحرى ومناطق التجارة الحرة ‏‏(البيان، أكتوبر ٢٠٢٢)، بينما بلغت ‏الاستثمارات الصينية فى الإمارات أكثر ‏من «أربعة وثلاثين مليار درهم - أى أكثر ‏من ثمانية مليارات دولار» بنهاية عام ‏‏٢٠٢٠ (الخليج، ٢٦/ ٤ / ٢٠٢٢‏‎).‎
أما بالنسبة لمصر فإن الصين هى الشريك ‏التجارى الأول بحجم تبادل يبلغ نحو ‏‏(عشرين مليار دولار) منها (مليار ‏وسبعمائة مليون دولار صادرات مصرية ‏إلى الصين) عام ٢٠٢١ (وكالة شينخوا ‏الصينية وRT، ١٢‏‎/ ‎‏٤‏‎/ ‎‏٢٠٢٢، والبوابة ‏نيوز، ٣ فبراير ٢٠٢٢) وذلك بزيادة ‏قدرها (سبعة وثلاثون بالمائة مقارنة بالعام ‏السابق) حسب تصريح للسفير الصينى فى ‏القاهرة «اليوم السابع، ٢٦/ ٦/ ٢٠٢٢‏‎».‎
كما تشارك الصين في عشرات ‏المشروعات للبنية التحتية والاتصالات ‏وغيرها من المجالات في مصر، بما في ‏ذلك بناء العاصمة الإدارية الجديدة‎.‎

أمثلة ذات دلالة
وما ذكرناه ليس إلا مجرد أمثلة للتطور ‏الكبير في العلاقات الاقتصادية والتجارية ‏بين ثلاثة اقتصادات عربية كبرى وبين ‏الصين، خلال السنوات الأخيرة، والمتوقع ‏أن نعود لهذا الموضوع بالتفصيل استنادًا ‏إلى مقررات القمم الثلاث حينما نتوفر لكن هذه ‏الأمثلة كلها ذات دلالة بالغة الأهمية فيما ‏يتصل بالتوجه الاقتصادى لأغلب الدول ‏العربية نحو تعزيز العلاقات ذات الفائدة ‏المتبادلة مع الصين، والتى تمثل سبقًا ‏واضحًا للصين فى منافستها مع الولايات ‏المتحدة والدول العربية الكبرى، كما يثير ‏بعضها غضب الولايات المتحدة، مثل ‏المحادثات بين السعودية والصين لتحويل ‏جزء من التجارة المتبادلة إلى الدفع ‏بـ«اليوان» الصينى والريال السعودى، مما ‏يمثل دعمًا مهمًا لليوان فى الأسواق ‏الدولية، ومثل رفض دولة الإمارات ‏العربية التخلي عن مشروع مشترك في ‏مجال الاتصالات مع شركة «هواوى» ‏الصينية، لإقامة شبكة للاتصالات من ‏الجيل الخامس، الذى ترى فيه أمريكا ‏تهديدًا أمنيًا تعمل علي محاربته في كل ‏دول العالم‎.‎
التعاون العسكرى
من ناحية أخرى فإن التعاون العسكرى ‏الصينى مع الدول العربية يثير قلقًا عميقًا ‏لدي الولايات المتحدة والدول الغربية ‏الكبرى، وخاصة تعاون بكين مع السعودية ‏والإمارات اللتين كانت منظومات التسليح ‏فيهما تعتمد دائمًا على السلاح الغربى، لكن ‏الرياض وأبوظبى ضاقتا ذرعًا بالشروط ‏الأمريكية لإمدادهما بالسلاح، وتدخل ‏الكونجرس في هذا المجال بصورة مستمرة ‏تحت ضغط اللوبى الصهيونى، بل وتدخُّل ‏أعضاء اللجان الفرعية فى مجلس الشيوخ ‏والنواب لأسباب انتخابية تخص ضغوط ‏اللوبيات والشركات الممولة لحملاتهم ‏الانتخابية‎.‎
وأدى ذلك كله، بالإضافة للتدخلات ‏الإسرائيلية المستمرة طبعًا لمنع إمداد ‏السعودية والإمارات «ناهيك عن مصر» ‏بالأسلحة المتطورة، بما في ذلك منظومات ‏الدفاع الجوي الضرورية لمواجهة ‏صواريخ الحوثيين، واحتمالات الهجمات ‏الإيرانية، وانتهى ذلك إلى التوجه للصين ‏للحصول ليس على الأسلحة المتطورة ‏فحسب، بل وعلى الدعم التكنولوجى اللازم ‏لإقامة صناعات عسكرية محلية، الأمر ‏الذى يثير غضبًا شديدًا فى واشنطن ‏وغيرها من العواصم الغربية‎.‎
ويوضح كل ما ذكرناه، باختصار شديد، أن ‏زيارة الرئيس الصينى الأخيرة للسعودية ‏والقمتين الخليجية والعربية معه، تتسم ‏بأهمية قصوى، ليس من ناحية الاتفاقات ‏والصفقات الناتجة عنها فحسب، ولكن ــ ‏وهذا هو الأهم ــ من زاوية ما تُمثله ‏الزيارة من توجه استقلالى، لا يعنى التخلى ‏عن العلاقات مع الولايات المتحدة والدول ‏الغربية، بالطبع، لكنه يعنى التوجه ‏الاستقلالى، وتنوع الخيارات الاستراتيجية، ‏ويمثل إعلانا مدويًا عن المتغيرات الكبرى ‏التى تشهدها العلاقات الدولية فى تحولها ‏من مرحلة الهيمنة الأمريكية إلى مرحلة ‏التعددية القطبية‎.‎
نعم.. إن العالم يتغير.. والصين أصبحت ‏لاعبًا أساسيًا في الشرق الأوسط والمنطقة ‏العربية‎.‎
وسوف تكون لنا عودة إلى هذا الموضوع ‏بقدر أكبر من التفصيل بإذن الله‎.‎