الأموال
الأموال

كُتاب الأموال

د.محمد فراج يكتب : أزمة الطاقة تعيد أوروبا إلى عصر الفحم الحجرى (٨-٨‏‎)

د.محمد فراج ابوالنور
-


غياب البدائل يضع الاقتصاد الأوروبى أمام كارثة محققة ‏مع قدوم الشتاء
أعماق البحار.. جبهة جديدة فى «حرب الغاز» بين ‏روسيا والغرب


القرارات غير المدروسة والاستخفاف بقوة الخِصم ‏وقدرته على اتخاذ خطوات مضادة، والرغبة المحمومة ‏فى إلحاق الضرر بالطرف الآخر «روسيا» دون حسبان ‏للآثار العكسية المحتملة للقرارات والعقوبات على الطرف ‏الذى يتخذها، والانسياق لغطرسة القوة والتصورات ‏الخاطئة ــ التى تجاوزتها الوقائع الفعلية ــ حول موازين ‏القوى فى العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية، ‏والسعى إلى تحقيق مكاسب أنانية للولايات المتحدة، ولو ‏على حساب الحلفاء الأوروبيين أنفسهم، فضلاً عن بقية ‏دول العالم.. كلها ملامح اتسمت بها إدارة المعسكر ‏الغربى لأزمة الطاقة العالمية خلال مواجهته مع روسيا، ‏وأدت إلى تفاقم الأزمة بصورة فادحة، وحدث هذا بالرغم ‏من تحذيرات كبار الخبراء الاستراتيجيين والاقتصاديين ‏فى الغرب نفسه، ولابد أن هناك اتجاهات لاستخلاص ‏الدروس والاستنتاجات اللازمة بالرغم من التطورات ‏الخطيرة التى شهدتها الأشهر الماضية على صعيد تفاقم ‏أزمة الطاقة‎.‎
وقد تحدثنا فى مقالنا السابق «الأموال ـ ٢٥/ ٩/ ‏‏٢٠٢٢» وهو المقال السابع فى هذه السلسلة عن بعض ‏دروس الإدارة الغربية الخاطئة لأزمة الطاقة المتفاقمة، ‏وأولها: أنه كان من الخطأ الفادح الخروج من الأزمة ‏الاقتصادية الطاحنة التى تسبب فيها تفشى وباء ‏‏«كورونا» وأنهكت الاقتصاد العالمى بدرجة كبيرة، إلى ‏التصعيد المتعمد لأزمة سياسية وعسكرية عالمية كبرى ‏لها بالضرورة انعكاساتها الفادحة على أسواق الطاقة ‏العالمية‎.‎
وثانى هذه الدروس أن الاستخفاف الغربى بروسيا ‏وقدرتها على مواجهة العقوبات الغربية، وخاصة فى ‏مجال الطاقة كان خطأ جسيما، فقد ثبت أن روسيا كان ‏لديها خطتها لإدارة الأزمة وأن علاقاتها الدولية الواسعة ‏عموما، وفى مجال الطاقة خصوصا، أتاحت لها توجيه ‏أجزاء كبيرة من مبادراتها إلى أسواق شرهة للطاقة، ‏وخصوصا الصين والهند ودول شرق وجنوب شرق ‏آسيا، وبالرغم من الخصم الكبير الذى قدمته روسيا إلى ‏هذه الدول، فإن ارتفاع أسعار البترول والغاز بدرجة ‏كبيرة جعل عائدات روسيا أكبر مما حققته فى العام ‏السابق على احتدام الأزمة.. وبديهى أن هذه الدول لم تقم ‏اعتبارا للعقوبات الغربية على روسيا، وحصلت على ‏موارد الطاقة بأسعار رخيصة عززت موقفها التنافسى ‏تجاه أوروبا، بل إن دولة كالهند ضاعفت وارداتها من ‏روسيا عدة مرات، واستغلت طاقتها التكريرية الفائضة ‏لتصدير مشتقات البترول إلى أوروبا بأسعار عالية‎.‎
كما نجحت موسكو فى فرض بيع الغاز الطبيعى إلى الدول ‏الأوروبية بالروبل الروسى، ومنع الغاز عن الدول ‏والشركات التى رفضت الشراء بالروبل، الأمر الذى نتج ‏عنه تعزيز سعر صرف الروبل مــُقابل الدولار الأمريكى ‏واليورو، بحيث أصبح يدور حول (٦٠ روبلا) بعد أن ‏كان قد انهار إلى (١٤٠/ مائة وأربعين روبلا) مقابل ‏الدولار فى بداية الحرب الجارية‎.‎
بدائل الطاقة الروسية بين الأوهام والحقائق
ثالثا: مارست الولايات المتحدة ضغوطا هائلة على الدول ‏الأوروبية لتقلص استيرادها لموارد الطاقة الروسية ‏بصورة حادة وسريعة، دون مراعاة درجة الاعتماد ‏الأوروبى الكبيرة على هذه الموارد، ودون توفير البدائل ‏المناسبة مما نتج عنه نقص فادح فى الفرص، وجعل ‏الاقتصادات الأوروبية تواجه أزمة شديدة الحدة في توفير ‏احتياجاتها من موارد الطاقة، فضلا عن الارتفاع ‏الصاروخى للأسعار‎.‎
وكان أول قرار فى هذا الصدد هو رفض تشغيل خط ‏‏«السيل الشمالى -٢» من روسيا إلى ألمانيا والذى تبلغ ‏طاقته ٥٥ مليار م٣ بعد أن كان قد تم إعداد هذا الخط ‏للتشغيل بالنقل منذ عدة أشهر، ومعروف أن الولايات ‏المتحدة كانت طوال السنوات الماضية تعارض مد هذا ‏الخط، وتضغط على ألمانيا لاستيراد الغاز الأمريكى ‏المسال بدلا من الغاز الروسى المقرر أن يحمله «السيل ‏الشمالى -٢» بالرغم من الارتفاع الكبير لأسعار الغاز ‏الأمريكى، فضلا عن محدودية كمية ١٠ مليارات م٣ ‏سنويا، لكن المستشارة الألمانية رفضت الضغوط ‏الأمريكية بما يرتبط بها من ارتفاع التكلفة والحاجة لبناء ‏أسطول من الناقلات ومنشآت لتحويل الغاز المسال إلى ‏الحالة الغازية.. إلخ‎.‎
من ناحية أخرى فإن الضغوط الأمريكية من ناحية ‏والرغبة المحمومة فى حرمان روسيا من عائدات موارد ‏الطاقة، و«شل» و«تدمير» الاقتصاد الروسى دفعت ‏الأوروبيين لاتخاذ قرار بحظر استيراد الفحم الحجرى ‏الروسى الذى تعتمد عليه أوروبا بنسبة (خمسة وأربعين ‏بالمائة/ ترتفع إلى خمسين بالمائة بالنسبة لألمانيا) وبدأ ‏تطبيق الحظر فى ١٠ أغسطس، وسرعان ما اتضح أن ‏توفير البدائل للفحم الروسى ليس بالأمر السهل وأن ‏جنوب افريقيا التي كان يقول عليها الغربيون لا تستطيع ‏توفير أكثر من بضع ملايين من الأطنان مقابل أكثر من ‏‏٦٠ مليون طن كانت توفرها روسيا.. وأن على ‏الأوروبيين اللجوء إلى اندونيسيا واستراليا أو كولومبيا.. ‏وكلها أسواق بعيدة جدًا مما يرفع تكلفة الشحن بدرجة ‏كبيرة للغاية، خاصة فى ظل ارتفاع أسعار المحروقات‎.‎
وبمجرد بدء الحديث عن حظر الفحم الروسى قفزت ‏الأسعار من ١٨٦ دولارا للطن قبل بدء الحرب إلى ٤٦٢ ‏دولارا للطن فى (١٠ مارس)! (الأموال ــ ٣ سبتمبر، ‏نقلا عن وحدة أبحاث الطاقة الأمريكية، ١٤ مارس، ‏وفرنسا ــ ٢٤/ ١٣ يونيو ومصادر أخرى).. ثم بدأت ‏الأسعار فى الانخفاض تدريجيًا لكن إعلان اندونيسيا حظر ‏تصدير الفحم أعادها للارتفاع من جديد، إلا أن عدم كفاية ‏واردات الفحم وارتفاع الأسعار اضطر الدول الأوروبية ‏إلى إعادة تشغيل مناجم قديمة كان قد تم إغلاقها «راجع ‏التفاصيل فى الجزء الرابع من هذه السلسلة (الأموال) ٣ ‏سبتمبر ٢٠٢٢»، إلا أن عدم كفاية كميات الفحم فى ‏الأسواق الأوروبية أدي إلى ظهور صورة لم يكن أحد ‏يتخيلها فى وسائل الإعلام فى الفترة الأخيرة.. نعنى ‏لجوء المواطنين فى عدد من الدول الأوروبية لشراء ‏‏«الحطب» استعدادا لقدوم الشتاء!! بل وتضاعفت أسعار ‏هذا «الحطب‎»!!‎
أما بالنسبة للبترول والذي تقدم روسيا (٣.٥ مليون ‏برميل/ يوميا) تمثل أكثر من ثلاثين بالمائة من احتياجات ‏أوروبا، وبالرغم من صعوبة توفير البدائل فقد اتخذ ‏الاتحاد الأوروبى منذ أوائل ابريل الماضى قرارا بحظر ‏استيراد البترول الروسى بدءا من ٥ ديسمبر القادم... ‏علمًا بأن أوروبا تستورد المشتقات ذات المنشأ الروسى ‏من الهند، بينما يعرف الجميع مصدرها الأصلى‎.‎
والمتوقع أن تشهد الأسواق الأوروبية مشكلة حادة فى ‏ديسمبر على ضوء عدم توافر كميات إضافية من الإنتاج ‏لدى دول «أوبك+» والتزام الأخيرة بحصص الإنتاج، ‏وهو ما سمعه الرئيس الأمريكى بايدن بأذنيه فى مؤتمر ‏جدة أثناء زيارته للسعودية مؤخرًا.. علمًا بأن شهر ‏ديسمبر سيكون ذروة الشتاء القارس مما يُنذر بتفاقم ‏أكبر للأزمة وارتفاع أكثر حدة للأسعار التى بدأت فى ‏الانخفاض نسبيا (حوالى الـ٩٠ دولار) للبرميل من خام ‏برنت، بسبب الركود وضعف الطلب الذى لم يلبث أن يعود ‏للارتفاع مع قدوم الشتاء‎.‎
الغاز مشكلة المشاكل
معروف أن أوروبا استوردت ١٥٥ مليار م٣ من الغاز ‏الروسى عام ٢٠٢١.. وكان مقررا أن تستورد ٥٥ مليار ‏م٣ أخرى من خلال خط «السيل الشمالى -٢» الذى صدر ‏قرار بتعطيله قبل أن يبدأ، برغم اكتمال كل إنشاءاته ‏واحتياجاته من المضخات..إلخ.. وذلك بسبب الضغوط ‏الأمريكية الشديدة «لطرد روسيا من السوق الأوروبية ‏للطاقة‎».‎
وقد أدت نفس الضغوط إلى منع شركة «سيمنز» ‏الألمانية من القيام بالصيانة الضرورية لمضخات خط ‏‏«السيل الشمالى -١» مما أدى بروسيا إلى اتخاذ قرار ‏بوقف الضخ من خلاله، وكان قد تم قبل ذلك وقف تصدير ‏الغاز من خلال خط «يامال» الذى يمر ببولندا لرفض ‏الأخيرة دفع ثمن الغاز بالروبل ثم أوقفت أوكرانيا فى ‏شهر مايو الخط الذى يمر بمناطقها الجنوبية عند مدينة ‏‏«سوخرانونكا» ولم يبق قيد التشغيل إلا الخط الشمالى ‏الذى يمر بالحدود الأوكرانية عند نقطة «سودجا» بطاقة ‏‏٤٢٥ مليون م٣ يوميا‎.‎
واضطرت أوروبا لاستيراد الغاز المسال من أمريكا ‏وغيرها بأضعاف سعر الغاز الروسى لكن المشكلة أن ‏البدائل كلها غير كافية إطلاقا مما أدى لارتفاع صاروخى ‏للأسعار من جهة، ولإغلاق مئات المصانع من جهة ‏أخرى، ولإعادة تشغيل المحطات المعتمدة على الفحم ‏الحجرى «غير الكاف بدوره» من جهة ثالثة ولسنا ‏بحاجة للحديث عن مشكلة الانبعاثات الكربونية الناتجة ‏عن العودة لاستخدام الفحم، ناهيك عن استخدام ‏‏«الحطب» كمصدر للطاقة فى أوربا‎!

وتابع العالم جولات الزعماء الأوروبيين المكوكية ‏للحصول على الغاز المسال سواء من الجزائر أو قطر أو ‏الإمارات العربية المتحدة أو غيرها، لكن كل الكميات تظل ‏غير كافية حتى أن البنك الدولى أعلن بوضوح أن ‏‏«أسواق الطاقة العالمية تحتاج إلى سنوات لتعويض ‏نقص صادرات الطاقة الروسية مما يطيل مخاطر الركود» ‏‏(الشرق- بلومبرج للأخبار، ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٢) ولسنا ‏بحاجة للحديث عن التكلفة الإضافية الضخمة المطلوبة ‏لتوفير جزء من البدائل، والتى يقدرها الخبراء بنحو ‏تريليون دولار سيتعين على أوروبا أن تدفعها حتى نهاية ‏هذا العام، للغاز والبترول والفحم، فضلا عن إيقاف مئات ‏المصانع وعن معاناة مئات الملايين من السكان من البرد ‏القارس، وارتفاع فواتير الكهرباء‎.‎
‎<<<‎
ثم جاء تخريب خطى «السيل الشمالى -١» و«السيل ‏الشمالى -٢» قبالة سواحل السويد والنرويج ليقطع الأمل ‏فى إمكانية ضخ الغاز الروسى عبرهما، ولتتحول الأزمة ‏المتفاقمة إلى كارثة حقيقية بالنسبة لأوروبا المقبلة على ‏الشتاء.. علمًا بأن المنطقة التى وقع بها التخريب تقع ‏تحت السيطرة الكاملة لحلف شمال الأطلنطى «الناتو» ‏والمستفيد من هذا التخريب لا يحتاج إلى ذكاء كبير ‏لمعرفته‎.‎
‎<<<‎
فهل يراجع الاتحاد الأوروبى سياسته على ضوء كل هذه ‏الدروس والخسائر الفادحة، أم يستمر في سياسة «الرجل ‏الذى قطع أنفه ليغيظ جاره»؟‎!!‎


!‎