الأموال
الأموال

كُتاب الأموال

أسامة أيوب يكتب : مع أولى نسائم الخريف.. ذكريات تاريخية عن ‏أحداث مصرية فارقة

أسامة أيوب
-


مع حلول فصل الخريف الذى استقبلنا أولى ‏نسائمه قبل يومين، فإن أحداثًا فارقة فى التاريخ ‏السياسى والوطنى المصري المعاصر تتداعى ‏بالضرورة إلى الذاكرة في هذا التوقيت، إذ ‏شاءت الأقدار حسبما تصادف أن كان الخريف ‏ملتقى تلك الأحداث فى ثلاثة عقود متتالية قبيل ‏نهاية القرن الماضى‎.‎
وإذا كان ما جرى في العقد التاسع من القرن هو ‏الأشهر اقترانًا بالخريف بالنظر إلى وصفه ‏بخريف الغضب، إلا أنه لم يكن الحدث الفارق ‏الوحيد الذى شهدته مصر في خريف سنوات ‏تلك الحقبة الزمنية‎.‎
واقع الأمر أن أحداث الخريف الفارقة بدأت قبل ‏خريف الغضب عام ١٩٨١ بعقدين كاملين ‏وتحديدا في يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٦١ عندما وقع ‏انفصال سوريا عن دولة الوحدة.. الجمهورية ‏العربية المتحدة وهو الاسم الذى أطلق على ‏الدولة الجديدة وحيث صار اسم سوريا الإقليم ‏الشمالي ومصر «الإقليم الجنوبى»، وهى ‏الوحدة التى لم تصمد لأكثر من ثلاث سنوات ‏ونصف السنة منذ إقامتها في فبراير ١٩٥٨‏‎.‎
هذه الوحدة فشلت لأسباب متعددة بعضها بفعل ‏مؤامرات خارجية حتى لا تتمدد فكرة الوحدة ‏العربية وبعضها وهو الأهم بفعل أسباب داخلية ‏تتعلق ببنية دولة الوحدة إذ لم تقم على أسس ‏وقواعد ثابتة وكان بناؤها واهنًا سرعان ما انهار ‏لأنها كانت وحدة فوقية دون ظهير شعبى حقيقي ‏في البلدين، وحيث جرى إغفال الفوارق ‏السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين شعبى ‏الدولتين خاصة لدى الشعب السوري الذى لم ‏يتوافق مع التوجه الاشتراكى وقرارات التأميم ‏التي تم فرضها علي السوريين‎.‎
الأمر الآخر كان ممارسات المشير عبدالحكيم ‏عامر الذى كان يحكم سوريا باستيلاء حتى على ‏الضباط السوريين الذين استشعروا أن الجيش ‏المصرى كأنه جيش احتلال وأن السلطة العليا ‏في سوريا بيد السلطة المصرية وليس سلطة ‏الوحدة‎.‎
ولذا فإنه يمكن القول وبحسب القراءة التاريخية ‏والواقعية للتجربة الوحدوية أن عبدالحكيم عامر ‏بممارساته في دمشق كان السبب الأول والأهم ‏فى الانفصال وفشل الوحدة إلى جانب الأسباب ‏الأخرى سالفة الذكر، مثلما كان المسئول الأول ‏عمليًا عن هزيمة الجيش المصرى فى حرب ‏يونيو ١٩٦٧ مع ملاحظة بالغة الأهمية وهى أن ‏الجيش لم يحارب فعليا بسبب رعونة قيادة عامر‎!‎
‎<<<‎
وإذا كان من المتواتر في الأدبيات السياسية ‏التاريخية أن الرئيس عبدالناصر مات نظريًا ‏الموتة الأولى يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٦١.. حزنًا ‏على فشل الوحدة وانفصال سوريا، وحيث ‏أصيب بمرض السكر بتداعياته اللاحقة فيما بعد ‏على قلبه الذى تعرّض للإصابة أيضًا وكان ‏السبب المباشر فى وفاته، وحيث كان حزنه ‏الحقيقى على تراجع دعوته ونهجه وتوجهه نحو ‏توسيع تجارب الوحدة العربية، فقد شاءت ‏الأقدار ومن المفارقات أن يموت فعلياً فى يوم ‏‏٢٨ سبتمبر أيضًا ولكن فى عام ١٩٧٠ بعد تسع ‏سنوات من انفصال سوريا‎.‎
لقد كانت وفاة الرئيس عبدالناصر في ذلك ‏التاريخ هى ثانية أحداث مصر الفارقة في فصل ‏الخريف، وحيث كان خريف ١٩٧٠ هو خريف ‏الحزن حسبما تبدّى في المشهد السياسى ‏والشعبى المصري والعربي.. متمثلا في أضخم ‏جنازة فى التاريخ الحديث‎.‎
‎< <<‎
بعد ذلك الحدث بـ(11) سنة كانت مصر على ‏موعد مع حادث خريف آخر كان الأكثر ‏دراماتيكية في يوم 6 أكتوبر ١٩٨١ عندما ‏جرى اغتيال الرئيس السادات وهو جالس في ‏منصة العرض العسكرى وسط جيشه وجنوده ‏في الاحتفال بالذكرى الثامنة لانتصار السادس ‏من أكتوبر ١٩٧٣‏‎.‎
لقد كان ذلك الحدث أو بالأحرى الحادث الكارثى ‏المروع فى ذلك الخريف أخطر الأحداث العنيفة ‏التي لم تشهد مصر مثلها في تاريخها الحديث، ‏إذ لأول مرة يتم اغتيال حاكم البلاد وعلى ذلك ‏النحو الغادر المباغت غير المتوقع علي الإطلاق ‏خاصة بالنظر إلي مكان الجريمة وحيث جرت ‏وقائع الاغتيال على الهواء مباشرة وشاهدها ‏المصريون وسمعوا أصوات طلقات الرصاص‎.‎
هذا الحادث وقع بينما كان المشهد السياسى شديد ‏الاضطراب مع تزايد تحركات تيارات ‏المعارضة السياسية للسادات والتى انضمت إليها ‏شخصيات ذات وزن كبير من المثقفين ‏والصحفيين في خلافها مع الرئيس حول معاهدة ‏السلام والتطبيع مع إسرائيل‎.‎
‎< <<‎
وفى تلك الأجواء السياسية الغائمة التى خيّمت ‏علي المشهد المصرى لجأ السادات لشن أكبر ‏حملة اعتقالات شملت جميع المعارضين من كل ‏الاتجاهات والتيارات السياسية والحزبية والثقافية ‏والفكرية والدينية والذين بلغ عددهم نحو ١٥٠٠ ‏شخصية وهى الاعتقالات التي عرفت باعتقالات ‏‏5 سبتمبر‎.‎
وفى تلك الأجواء المضطربة بدا واضحًا أن ثمة ‏أحداثاً خطيرة مرتقبة.. استشرف المراقبون ‏السياسيون في الداخل والخارج حدوثها، وإن لم ‏يكن فى مقدور أحد أن يتنبأ بحجمها أو كيفيتها ‏أو توقيتها، إلى أن وقعت الواقعة وانطلقت ‏الرصاصات القاتلة على السادات في المنصة‎.‎
‎< < <‎
الخطأ الحقيقى وربما الاستراتيجى أنه اعتقل ‏المعارضين السياسيين الذين ليس لديهم من ‏أدوات الصراع والخلاف السياسى سوى ‏المعارضة السلمية، بينما أغفل خطر الجماعات ‏التكفيرية والجهادية التي كانت تمارس ‏المعارضة تحت لافتة إسلامية وهى في حقيقتها ‏تنتهج سياسة المعارضة الدموية باستخدام العنف ‏والإرهاب، وحيث كانت هى من أقدمت على ‏اغتيال السادات‎.‎
هذا الخطر الحقيقي الذى أغفله السادات أو ‏استهان به نبهته إليه كل أجهزة الأمن، ولكنه في ‏سياق حالة الزهو والانتشاء التى انتابته فى تلك ‏الفترة أهمل كل التحذيرات الأمنية من خطر تلك ‏الجماعات الإرهابية التي نجحت بكل أسف في ‏اختراق الجيش وطوابير العرض العسكرى ‏وعلى نحو غير مسبوق وغير ممكن الحدوث ‏ولكنه حدث بكل أسف‎.‎
‎<<<‎
أما مبرر السادات لإقدامه على حملة الاعتقالات ‏للمعارضين السياسيين فكان أن بعض الاتجاهات ‏السياسية في إسرائيل تحرّض مناحم بيجن رئيس ‏الوزراء على تأجيل الانسحاب النهائى من آخر ‏بقعة في سيناء والمقررة في ٢٥ أبريل ١٩٨٢ ‏أى بعد سبعة أشهر لحين توقف الأصوات ‏المعارضة للسادات ولعملية السلام مع إسرائيل، ‏ولذا فقد رأى السادات إبعاد المعارضين من ‏المشهد السياسى واعتقالهم لحين اتمام الانسحاب ‏في موعده المقرر حتى تسقط دعاوى المطالبين ‏في إسرائيل بتأجيل الانسحاب‎.‎
ولعله مما يؤكد حقيقة نية السادات في هذه ‏الاعتقالات وأنه لم يكن يستهدف الانتقام من ‏هؤلاء المعارضين له بقدر حرصه على اتمام ‏الانسحاب الإسرائيلى هو أنه وحسبما أكد ‏المعتقلون لاحقاً أعطى أوامره بحسن معاملتهم ‏وعدم توجيه أى إهانة لهم بحسبانهم شخصيات ‏سياسية محترمة رغم الخلاف السياسى، الأمر ‏الآخر أنه كان ينتوى الإفراج عنهم مساء يوم ‏‏٢٥ أبريل فور اتمام الانسحاب الإسرائيلى ‏حسبما تواتر عنه شخصيا فى عدة مناسبات، ‏وحسبما قال لى ذلك الرئيس السودانى الأسبق ‏جعفر نميرى نقلا عن السادات في حوار ‏صحفى أجريته معه في الخرطوم بعد اغتيال ‏السادات‎.‎
‎< < <‎
وفى يوم ١٣ أكتوبر من نفس العام وبعد اغتيال ‏السادات بأسبوع واحد كانت مصر على موعد ‏مع حدث آخر في خريف تلك السنة وهو ‏الاستفتاء علي اختيار حسنى مبارك نائب ‏الرئيس رئيسًا للجمهورية خلفا للسادات، وحيث ‏لم تشهد مصر أى فراغ دستورى في السلطة ‏التى انتقلت انتقالا سلسًا ودستوريا وحضاريا ‏ووطنيا مشهودا‎.‎
استهل الرئيس مبارك أول أيام حكمه بمواجهة ‏صارمة للجماعات الإرهابية التى استهدفت ‏زعزعة الأمن والاستقرار وإشاعة الفوضى فى ‏أعقاب حادث الاغتيال، حيث كان إعادة الأمن ‏ودحر خطر تلك الجماعات أولى وأهم نجاح ‏مبكر لمبارك‎.‎
‎<<<‎
حادث الاغتيال وما سبقه من اعتقالات وما تلاه ‏من أعمال عنف وإرهاب وهى أجواء كانت ‏موضوع كتاب شهير لمحمد حسنين هيكل ‏بعنوان «خريف الغضب»، غير أنه استطرد فيه ‏كثيرًا وبعيدًا لينال من شخص الرئيس السادات ‏بعد موته على خلفية خصومته الشديدة معه في ‏مسلك من مسالك الانتقام بتجريح لشخص ‏السادات وعائلته امتد إلى والدته السودانية الذى ‏ذكر اسمها صراحة «ست البرين» وكأنه يعيّر ‏السادات باسم والدته ووصفها بأنها كانت تعامل ‏معاملة مهينة من جانب العائلة‎!‎
‎<<<‎
هذا التجريح لشخص السادات بعد وفاته استفز ‏الأستاذ أنيس منصور المقرب جدا من السادات ‏ورد الصاع صاعين لهيكل وكتب في مقال له ‏بمجلة أكتوبر التي كان يرأس تحريرها يقول: ‏‏«هل نسىّ هيكل ما الذى كان يحمله أبوه متنقلا ‏بين حظائر البهائم»، ولما سألناه يعنى إيه؟ ‏أجاب أنه كان «كلاف» وهى مهنة من يعمل في ‏تنظيف حظائر المواشى‎!‎
وقد أوضح أنيس منصور لنا في مجلة أكتوبر ‏أسباب هذا الرد القاسى على هيكل وللمرة الأولى ‏بأنه لم يكن ممكنًا له أن يمنع نفسه من ذلك ‏خاصة أن هيكل جرّح السادات شخصيا وعيّره ‏باسم أمه فعيّرته بمهنة أبيه، ثم استدرك إننى لم ‏أنتقد هيكل طوال هجومه المستمر على السادات، ‏لأن هناك مانعا أخلاقيا يمنعنى وهو أنه كان ‏شاهدًا على عقد زواجى، ولكن بعد هذا التجريح ‏للسادات بعد موته لم يكن ممكنًا أن أصمت، أما ‏شهادة هيكل على عقد زواج أنيس منصور فلها ‏قصة معروفة فى كواليس الصحافة زمان «في ‏ستينيات القرن الماضى‎».‎
لكن يبقي أن أهم وأكبر وأمجد أحداث الخريف ‏في مصر كان انتصار السادس من أكتوبر ‏‏١٩٧٣، وهو الانتصار العظيم الذى كان وبحق ‏حدثا فارقا في تاريخ مصر الحديث بل في ‏التاريخ العربى كله، باعتباره أول نصر يحققه ‏المصريون منذ قرون والذى رد للمصريين بل ‏للعرب جميعا الاعتبار والكرامة‎.‎