أسامة أيوب يكتب: فى ذكرى المولد النبوى الشريف
النبى محمد أسس أول دولة فى جزيرة العرب.. نشرت الإسلام فى أرجاء المعمورة
إن احتفال الأمة الإسلامية اليوم بذكرى مولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم يستدعى بالضرورة سيرته العطرة منذ مولده بل قبل مولده حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.. مرورًا بتلقيه آخر رسالات السماء إذ كان خاتم الأنبياء والرسل المبعوث إلى البشرية كلها بخاتم الرسالات التى انقطع بعدها إرسال السماء إلى الأرض.. انتظارًا لقيام الساعة التى عندها يحكم الخالق بين وعلى الخلق جميعًا.
مولده صلى الله عليه وسلم سبقته إرهاصات فى شبه الجزيرة العربية تبشّر بمولد نبى آخر الزمان الذى اقترب زمانه حسبما كان يعلم أحبار اليهود عن أخباره وأوصافه التى جاء ذكرها فى التوراة، وحيث كانوا يتهيئون للإيمان به وبالدين الجديد ويتوعدون العرب من عباد الأصنام بأنهم سوف ينصرونه ويستقون به عليهم ويمزقونهم تمزيقًا!
وسط ذلك الزخم الذى خيّم على الجزيرة العربية فى انتظار مجىء نبى آخر الزمان، جاء مولده صلى الله عليه وسلم فى مكة حيث بيت الله الحرام.. أول بيت وُضع للناس والذى أضفى على قريش مكانة كبيرة بين قبائل العرب الذين كانوا يأتون للحج كل عام ويتبادلون التجارة بينهم ومع قريش وأهل مكة، حيث كان البيت الحرام مصدر خير ورزق لقريش، وبفضله أيضًا كانت قوافلهم التجارية تحظى بالأمن والأمان فى رحلتى الشام واليمن وهو الفضل الإلهى الذى جاء ذكره فى القرآن الكريم بقوله تعالى: "لإيلاف قريش إيلافهم، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
...
كان مولده صلى الله عليه وسلم فى يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول وهو يوم وشهر وفاته بحسب أوثق ما تواتر من روايات، حيث جاء إلى الدنيا يتيم الأب "عبدالله بن عبدالمطلب" وبفقده أمه السيدة آمنة بنت وهب وهو فى السادسة من عمره اكتمل يُتمه لينقل إلى كفالة جده عبدالمطلب بن هاشم الذى مات وترك محمدًا فى الثامنة من عمره ليكفله عمه أبوطالب وليبدأ رحلته فى الحياة، حيث عمل فى صباه وشبابه مثل من سبقه من الأنبياء فى رعى الغنم والذى أتاح له فرصة بترتيب إلهى للتأمل فى الكون والنأى عن اللهو.. مختلفًا عن غيره وأقرانه من شباب قريش، وحيث كان اسمه فى مكة كلها الصادق الأمين.
...
وبحسب المتواتر فى سيرته صلى الله عليه وسلم ومثل سابقيه من الأنبياء والرسل جاءه الوحى فى سن الأربعين وهو يخلو بنفسه ويتعبد فى غار حراء بمكة حسبما اعتاد قبل سنوات، إذ أخبره أمين الوحى جبريل عليه السلام أنه رسول الله بدين الإسلام آخر الأديان السماوية.
رؤيته لجبريل بهيئته الملائكية داخل الغار والهزة العنيفة التى تعرض لها من جانب جبريل عندما قال له اقرأ حتى قال له "اقرأ باسم ربك الذى خلق" وهى أول آية من القرآن نزل بها الوحى، كل ذلك دفعه ليهرع مسرعًا إلى بيته وزوجته السيدة خديجة بنت خويلد.. متخوفًا من أن يكون من ظهر له كان شيطانًا وليس ملاكًا.
وهنا جاء موقف ودور خديجة التى استطاعت ببصيرتها الفطرية الإيمانية الصادقة والكامنة فى أعماقها طمأنته صلى الله عليه وسلم وتهدئه مخاوفه بعد أن ذكرت أن الشيطان لا يصل إليه بالمكروه وعددت له صفاته الحميدة، ثم تجلت هذه البصيرة مرة أخرى عندما أخبرها النبى أن الملك قد عاد مرة أخرى وأنه يراه فى الغرفة، وهنا كشفت عن ساقيها فأخبرها صلى الله عليه وسلم أنه اختفى تأكدت أنه ليس شيطانًا ولكنه ملاك استحى أن يبقى بعد أن كشفت ساقيها.
...
السيدة خديجة أم المؤمنين الأولى كان لها دور بالغ الأهمية إلى جوار زوجها النبى محمد طوال سنوات الدعوة فى مكة، إذ دعمته وساندته بمالها لمواصلة رسالته، لذا كانت المكافأة الإلهية التى انفردت بها دون غيرها فى لحظات موتها عندما أخبرها النبى أن الله يقرئها السلام ويبشرها بقصر فى الجنة، وحيث كان ذلك تأكيدًا لثوابها العظيم ومكانتها التى نالتها جراء دعمها للدعوة الإسلامية وللرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذا فقد وصف صلى الله عليه وسلم العام الذى توفيت فيه وتوفى فيه معها عمه أبوطالب بعام الحزن، إذ كان العام الذى فقد فيه أهم شخصين داعمين له ولدعوته، وهو العام الذى تواكب مع معجزة الإسراء والمعراج فى رحلة إلهية لم يخطها نبى آخر، والتى كان هدفها التسرية عنه صلى الله عليه وسلم.
...
لقد كانت سنوات الدعوة الأولى فى مكة وطوال ثلاث عشرة سنة بمثابة وضع وتثبيت قواعد الإسلام والإيمان بين المسلمين الأوائل الذين دخلوا الإسلام رغم العداء المفرط والإيذاء الشديد من جانب قريش خاصة ضد الضعفاء منهم، وإن لم يقتربوا من السادة الذين جاهروا بالإسلام.
أما سنوات الهجرة فى المدينة المنورة والتى لم تزد على عشر سنوات، فقد كانت سنوات انطلاق الدعوة الإسلايمة فى أرجاء الجزيرة العربية بقدر ما كانت سنوات تثبيت دعائم دولة جديدة عاصمتها المدينة المنورة هى الدولة العربية الإسلامية التى اكتملت أركانها بفتح مكة ودخل قريش كلها فى الإسلام، ثم دخل العرب جميعًا أفواجًا فى الإسلام.
...
وبانتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فى شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، فإنه ترك أول دولة عربية إسلامية فى الجزيرة العربية ولأول مرة فى تاريخ العرب.. لها دستورها الدينى ومنهجها السياسى المستنير، بعد أن وحدَّ الإسلام بين القبائل العربية المتناحرة المتصارعة وسط عاداتها وسلوكياتها الجاهلية التى ترفضها الفطرة الإنسانية السوية والتى هذبها الإسلام.. بالقرآن والسنة.
...
هذه الدولة الإسلامية العربية الأولى والناشئة تمددت وانطلقت إلى آفاق بعيدة خارج حدود الجزيرة العربية بفضل هذا الدين الخاتم، وحيث لقى استجابة وترحيبًا من كل الشعوب التى وصلتها دعوة الإسلام الذى ينطوى على منهج إلهى قويم يستهدف سعادة ورفاهية البشرية بإعلاء قيم العدالة والحق والمساواة والأخلاق الحميدة والتراحم بين الناس جميعًا على اختلاف عقائدهم وفقا للقاعدة القرآنية "لا إكراه فى الدين"، وبما تعنيه هذه القاعدة من احترام أصحاب العقائد السماوية الأخرى.
...
وفى هذا السياق تبقى ملاحظة مهمة تتعلق بعداء قريش وأهل مكة للنبى محمد وللإسلام، إذ إنهم كانوا يؤمنون بوجود الله الخالق الأعظم، بينما كان مبررهم المتهافت لعبادة الأصنام بأنها تقرِّبهم إلى الله، لكن الحقيقة وراء هذا العناد والعداء للنبى محمد الذين يعرفون صدقه ونسبه الشريف، هو أن تلك الأصنام حول الكعبة كانت مصدر رزق وفير لهم فى مواسم الحج وزيارة البيت الحرام بقدر ما كانت مصدرًا للسيادة والشرف والنفوذ بين العرب فى نفس الوقت.
...
الأمر الآخر هو أن الكبر كان سببًا أيضًا فى عدائهم للنبى ولدعوته ولرفضهم دخول الإسلام بل محاربته ومحاربة انتشاره، ذلك أن انتصار الإسلام والمسلمين وتنامى نفوذهم سوف يحرِّمهم من النفوذ والسيادة فى الجزيرة العربية، ولذا فإنهم يوم فتح مكة لم يجدوا مفرًا من الدخول فى الإسلام، بعد أن أدركوا أن انتصار النبى محمد وهو من قريش سوف يحفظ لهم مكانتهم فى الجزيرة العربية ومن ثمَّ يحتفظون بالسيادة على العرب من خلال الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، إنه المنطق البراجماتى!! هذا ما أعتقده شخصيًا والله أعلم.
وفى سياق هذا المنطق القرشى البراجماتى يذكر أن أبا سفيان الذى كان زعيم مكة وأشد أعداء الإسلام والمسلمين والنبى محمد ذاته، قال لابنه معاوية: إن ملك محمد صار كبيرًا ولأن الفضل فيه لمن سبق، فالحق بما فاتنا والزم صحبة النبى، وقد فعل ولأنه يجيد القراءة والكتابة فقد انضم إلى الصحابة من كتبة الوحى، ومن هذه المكانة أقام خطته لإقامة الملك الأموى على أنقاض الخلافة فى زمن الفتنة الكبرى.
...
تلك السطور كانت محاولة لقراءة غير معتادة وغير تقليدية بقدر الإمكان لذكرى مولده صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة وجهاده العظيم فى تبليغ رسالة الإسلام وأداء الأمانة على خير وأكمل وجه، إذ أردت أن أقترب أكثر من ملامح ومعالم أخرى فى هذه المناسبة العظيمة.